العدد الثاني والعشرون من"مشارف": استحضار لغياب راحلين، إحسان عبّاس ومحمد القيسي، وحضور واسع للنصوص الإبداعيّة

العدد الثاني والعشرون من
يطلّ قارىء العدد الأخير من "مشارف"، الفصلية الثقافية الصادرة في حيفا، على غلاف تؤلفه صورة لأثر باقٍ. شبّاك في جدار يشي بالعتق والفقدان. جدار لبيت بلا أهل. هذا الأثر الباقي هو ما كان مرة قرية عين غزال الفلسطينية المهجّرة. وإن كانت القرية أثرًا باقيًا، فإن ابنها المبدع إحسان عبّاس الذي رحل موخرًا، تحول، بفعاليته الثقافية، إلى أثرٍ باقٍ. رحيله شديد الحضور من حيث تركته الثقافية. وهذا العدد من "مشارف" خصّه بوقفة عند غيابه، إلى جانب راحل آخر هو الشاعر محمد القيسي.

تقول "مشارف" في افتتاحيتها التي جاءت محكومة بالالتزام الى إبراز غياب المبدعين المذكورين، أملاً في تأكيد حضورهما الثقافي: "ولعلّ الغاية الرئيسة، التي نعوّلها على هذا المظهر من الوفاء، هي أن تبقى القيم الجوهرية لتلك القامات الثقافية راسخة في ذاكرة الأجيال العربية وهي تغذّ الخطى لاقتحام المستقبل" (..) و"عندما يُذكر إحسان عباس، على وجه الخصوص، تُستعاد أمامنا ذكرى بلدته عين غزال وذكريات أُخرى عديدة منها ما ارتبط بصديق طفولته وعمره الأديب الراحل إميل حبيبي، مؤسّس "مشارف" ورئيس تحريرها الأول".

وبالطبع فلم يكن غياب إدوارد سعيد غائبًا، وقد وصفته "مشارف" كمن "أثرى الفكر العالمي الإنساني بدراساته الرائدة والعميقة، واخترق هيمنة المركزية الأُوروبية على نحو لم يتيسّر لمثقف من الشرق قبله وربما سيمرّ ردح طويل من الزمن حتى يتيسّر لمثقف من بعده، إذا ما تمعنّا عميقًا في مسارات التحوّل أو الإنزلاق الطارئة على هذه المركزية في الآونة الأخيرة".

طيف الشّعر
__________
إلى جانب هذا الملف - الذي سنتناوله لاحقًا - يطلّ الشعر، في حزمة واسعة الطيف، والنص والشهادة والدراسة، كعناصر للفسيفساء الثقافي الذي تدأب "مشارف" على إضافة مساهمتها فيه، إنطلاقًا من المسؤولية التي أخذتها على عاتقها، داخل الفضاء الثقافي المركّب الذي يمتدّ من حيفا إلى الحالة الثقافية الفلسطينية، وتلك الإسرائيلية، والحالة العربية عامة، وصولاً إلى البعد الإنساني العام، بوصفه الحلم الذي تصبو إليه الكلمة المبدعة بكافة تجلياتها، كما يُفترض أن يكون على الأقل.
يقدّم الشاعر الفلسطيني محمد حمزة غنايم (باقة الغربية) تحت عنوان "حالات زوغان" تأمُّلات شديدة الحساسية نقرأ منه:

قد أظهر يومًا في طرف الصورة
وجهًا وقناع
ورماد الصورة قد يجعلني أتماهى في أطراف البرواز خفيفًا
لكأني حالة زوغان تطفو في وعي الماء
ولعلّي ريح تخفق في حضن شراع

إلى جانبه خصّ الشاعر العراقي سركون بولص هذا العدد بقصيدة "جنّاز قصير في الطريق إلى المأتم". يقول:

هذا ما أعرفه
الموت هو الموت وما من آحدٍ
عاد من موته
ليقول لنا شيئًا.

وأيضًا: بشير شلش (عرابة، مقيم حاليًا في برلين) في "فضة معتمة"، صفاء فتحي (القاهرة/ ?اريس) في "وقال لي أين جعلت اسمي فثم اجعل اسمك" وقصائد أُخرى، محمد حسيب القاضي في "28 سبتمبر 2001"، عباس خضر (العراق/ ألمانيا) في "حيرة السؤال" وقصائد أُخرى، سمية السوسي (غزة) في "فكرة، فراغ، أبيض"، أنور سابا (حيفا) في "مارش الألم" و "صديقي وابن الغريب"، فادي معلوف (سخنين) في "رحلة النون" و"موقف الغيم"، سنان أنطون (العراق/ مصر) في "تجاعيد علي جبين الريح"، وهاشم شفيق (العراق/ المملكة المتحدة) في "يوتو?يا".

تفكيك الحصار
___________
واستمرارًا في تفكيك حالة الحصار على الفلسطيني، بأداة الكلمة واللغة، تنشر "مشارف" شهادة الشاعر الفلسطيني فيصل قرقطي (رام الله)، تحت العنوان المتسائل: "أيُّ عيش طائش.. أيُّ احتلال هذا؟".
نقرأ:
"الحاجز.. هو الحاجز
يستلبك منذ الساعات الأُولى للصباح حتى الساعات الأخيرة للمساء، ثم تأتي الدوريات الليلية وكأنها تقتحم غرفة نومك. تطلق الرصاص ليلاً، والقنابل. فينكمش الأطفال في أسرّتهم، ويستيقظون فيركضون إلى النوافذ ليروا الجنود وهم يقومون بكل هذا. لم أجد تفسيرًا لهذه المسألة، غير أنني في كل ليلة أرجع إليهم محاولاً ترميم انكسار أحاسيسهم ولكن دون جدوى.
الحاجز.. هو الحاجز..".

باب النصوص يجمع إبداعات متفاوتة الشكل الأدبي، تمتدِّ من القصّ وحتى استحضار الذكريات أو الذاكرة. ويؤلف هذا الباب الكُتّاب: ياسين عدنان/ المغرب (عبدو المسعوف)، نصار ابراهيم/ بيت ساحور، فلسطين (مع سبق الإصرار، الصورة)، سعد سرحان/ المغرب (الرسائل)، نصرت مردان/ العراق/ سويسرا (تلك الرائحة القديمة)، عفيف سالم/ حيفا (حكمة الجنون - نص اغتراب الغائب)، ماجد خمرة / حيفا (المدام كلير والحاج نايف)، سلمان مصالحة / المغار/ القدس (طريق الغور)، وحسونة المصباحي / تونس / ألمانيا (عباد الله الطيبين). نقرأ لديه تعريفًا بنصّه الذي يستحضر شخوصًا في ظروفهم المرتبطة بحياة الكاتب:
"هم أُناس عرفتهم في أماكن ومراحل مختلفة. علاقتي بالبعض منهم كانت وطيدة، مع البعض الآخر كانت عابرة. غير أن الشيء الذي يجمع بينهم جميعًا هو أنهم سكنوا مكانًا أثيرًا في قلبي، ولم يخرجوا منه حتى هذه الساعة".

إطلالة على العبرية
________________
في باب الثقافة العبرية يقدّم الباحث والأُستاذ الجامعي حنان حيفر، الأديبة عماليا كهانا كرمون، مشيرًا إلى خصوصية الشخوص في كتابتها. يقول: "إن تتبُّع الشخصية النسائية داخل المجموعة الاسرائيلية، يُبرز الصراع بين الفرد وبين المجموعة من خلال تجسيد وملامسة تفاصيل ديناميكيات الشخصية النفسية. في عدد كبير من قصصها هناك نزعة للوصول إلى حالة من اللقاء فيها مدلولات غامضة بين المرأة - البطلة المركزية - وبين الرجل؛ لقاء ذو معانٍ رمزية تشكّل النزعة لتجسيده تشييدًا لشخصية المرأة داخل المجموعة القومية الإسرائيلية أيضًا".
في القصة التي ترجمتها "مشارف" للكاتبة كرمون تروي فصلاً من حياة مجنّدة أتوا بها إلى النقب: "جاءت إلى هنا بالصدفة. غبار أصفر. طرق ترابية. غيمة تلقي بظلّها على مدينة منبسطة، غريبة. على مسجد ثاكل. باحة خلف السور. قضبان. شجيرة فليفلة. مسجد صار متحفًا. وتأتي الشمس..".

حوارٌ متخيّل
__________
في باب رؤى يقدّم الكاتب رياض بيدس (شفاعمرو/ فيينا) حوارًا متخيلا مع المثقف الفلسطيني الراحل نجيب نصّار. واستنادًا إلى رواية الأخير "مفلح الغساني"، "يجيب" نصار على أسئلة يطرحها بيدس من مكان وزمان مختلفين. وهكذا يقدّم الحوار / الرواية إحدى الإجابات المرتبطة بوقوف مفلح إلى جانب سجين يهودي عندما احتُجز هو نفسه بأيدي الان?ليز: "شعر أن الواجب الإنساني يملي عليه أن يسلّي جاره وأخاه في الإنسانية ويخفّف عنه، وخصوصًا لأن المسجونين ينسون غالبًا الخلافات السياسية والعنصرية التي تكون بينهم خارج السجون ويعتبرون أنفسهم في داخله كأعضاء مشلولة في جسم السياسة وكشركاء مصيبة واحدة في السجن، فيعطفون بعضهم على بعض".. وليبقى السؤال مفتوحًا على الحال في السجن "الأكبر"..

لحظات إبن رشد
______________
يقدّم المفكر المصري محمود أمين العالم، في مقالة بحثية خاصة، "بعض قراءات عربية لابن رشد". وهو يميّز بين ثلاث قراءات حديثة (يسمّيها "ثلاث لحظات") لأثر الفيلسوف العربي الكبير. تمثّلت اللحظة الأُولى بالحوار المبكّر بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده ودارت خاصة حول الأولوية بين الدين والمنطق. والثانية هي التي يموضعها العالم في ثمانينيات القرن الماضي خاصة لدى زكي نجيب محمود ، والتي تميل إلى نسب الفكر الرشدي إلى السائد في عصره، والتقليل من تجديده. ويرى العالم هنا أن محمود لم يعتمد النقد بقدر ما غلب على قراءته القياس والتحليل الوضعي المنطقي الشكلي المتعالي عن السياق الموضوعي الفكري والواقعي. وفي إمساكه باللحظة الثالثة، وهي مغربية لدى محمد المصباحي، يقول العالم أنها تتميّز بعدم الإقتصار على التوضيح الأكاديمي، بل تُعتبر محاولة جسورة للانطلاق بها إلى أُفق أبعد.

العراق، أيضًا
__________
"مشارف" تواصل في عددها (22) استحضار المكان العراقي عبر ملف العراق/البيت. ويكتب مؤيد الراوي، أحد أبرز شخوص جيل الستينات الأدبي، عن بلده كركوك، تحت العنوان "المكان الأول". يروي الراوي: "لا أعرف ماذا أحدثت المدينة - مكاني الأول - فيّ، وذلك في السنوات الأُولى من عمري، ولكنني أستنتج بأنها كانت سخيّة معي في تسيير الرؤى وفي إثارة الدهشة وفي طرح الأسئلة التي ملأت بها نسيجي الطفولي آنذاك..". ويروح يستعيد الشخوص داخل الأحداث المفصلية التي عصفت بالمدينة، خاصة مع علوّ شأن البترول، الذي يوضح الراوي أنه أدى إلى انهيار النسيج الاجتماعي المتميّز للمدينة.

لذكرى مبدعين
______________
كما سبق وأشرنا في التقديم، تواصل "مشارف" إحياء ذكرى مبدعين ممن رحلوا في هذه الآونة. فيكتب هشام نفاع (حيفا) عن الشاعر الفلسطيني محمد القيسي، متوقّفًا عند محطّات حياته التي اجتمع فيها الأدب بالسياسة وكلاهما بالخلفية الأقوى للشاعر وشعبه، نكبة التهجير. نقرأ: "الجلزون، مخيم محمد القيسي، تكثيف للترحال. هل يكثّف المكان الحركة في حال سكونها، أم أن الحركة المتوتّرة في الدواخل تخلق كل هذا المكان؟ هل كان الترحال خيارًا، كيف يمكن ذلك طالما أن حياته ارتحلت قسرًا مرتين في أُولى الخطوات: من كفر عانة المرتحلة إلى جلزون الإرتحال. جدليًة ضاجة وليس في المسافة المكانية بين قرية هُجّرت ومخيم هُجّر أهله المستقبليون إليه. الجدلية تنبسط لتظلّ الفعل العصيّ على الممكن أمام كل هذا السكون (التسكين)".

أما الناقد والمثقف الفلسطيني إحسان عبّاس، فيقدمه أنطوان شلحت (عكا) في "إحسان عبّاس - دلالة الماضي، وعي الزمن". يرى شلحت في هذه الدراسة أن عباس احتكم في عمله وقراءَته النقديين الى التاريخ واعتماده لإضاءة وفهم النص. وهذا ما يبرز خاصيّة وعي الزمن في مشروعه الثقافي، إذ يقول شلحت: "ربما يكون عباس قد تميّز في مسيرته الابداعية، أكثر شيء، بوعي مزدوج: أولاً إزاء ما ينطوي عليه الماضي من دلالات، وثانيًا إزاء المواكبة وما تتطلبه من تغيّر وتطوّر في امتلاك الحاضر وأكثر فأكثر في اقتحام المستقبل. وهذا الوعي لازم للناقد، ينبغي أن يقتات عليه إذا ما كان يبتغي أن يحمل هذه الصفة عن جدارة".

رئيسة تحرير "مشارف" سهام داوود. هيئة تحرير "مشارف" تضم الناقد أنطوان شلحت، دكتور سلمان مصالحة، دكتور محمود رجب غنايم، ?روفيسور رمزي سليمان، الشاعر محمد حمزة غنايم و?روفيسور أنطون شمّاس. ويتولى هشام نفّاع مسؤولية سكرتير التحرير. يصمّمها شريف واكد. المجلة من 256 صفحة.
عنوان المجلة الألكتروني:
masharef@netvision.net.il
العناوين البريدية والهاتفية:
P.O.Box 6370 Haifa 31063
Fax: 972-4-8233849
Phone: 972-4-8233478

التعليقات