صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب مسارات الجدل والبرهان في التراث العربي الفلسفي: مراجعات نقدية. وهو من تأليف يوسف بن عدي، ويقع في 320 صفحة، شاملًا مدخلًا عامًّا وعشرة فصول وخاتمة عامة، وببليوغرافيا، وفهرسًا عامًّا.
يبحث الكتاب في العلاقة بين الجدل والبرهان في الفلسفة العربية، موضحًا كيف اعتُبر لقاؤهما فاشلًا أو خصاميًّا لدى بعض الباحثين، كما في المثال الرمزي لابن رشد وابن عربي. ويُظهر أن المتكلمين استخدموا الجدل لأغراض الغلبة لا للبرهنة، على عكس الفلاسفة الذين جعلوه أداةً للوصول إلى الحق. أما البرهان الفلسفي فيُبرز استقلالية الظواهر الطبيعية والإنسانية، ويعتمد على الكلية والسببية والعقلانية. وينتقد الكتاب القياس الكلامي التقليدي، ويقدّم الجدل الفلسفي بصفته طريقًا إلى اليقين وفهم الوجود، لا مجرد وسيلة للانتصار الجدلي فحسب.
الجدل والبرهان: تشابك المسارَين في بناء العقل الفلسفي العربي
يناقش كتاب مسارات الجدل والبرهان في التراث العربي الفلسفي التفاعل المعقّد بين الجدل والبرهان في الفكر الفلسفي العربي، عبر تحليل نصوص فلسفية متعددة، وإجراء مراجعات نقدية تكشف كيف ساهم هذان المساران في بناء المعرفة العقلانية وتعميق الفهم العقلي للطبيعة والوجود والفعل الإنساني. فقد عرف الجدل مسارَين رئيسَين: أحدهما انفصل عن البرهان، وتجلى في علم الكلام، حيث استُخدم لأهداف أيديولوجية وفُصل عن أصوله المنطقية كما وضعها أرسطو والفلاسفة المسلمون، ما حال دون نشوء نظرية جدلية راسخة؛ أما المسار الآخر، فكان مواصلًا للبرهان، واحتفظ به الفلاسفة العرب بوصفه أداة تعليمية تمهّد للبرهان، على الرغم من أن العلاقة بين الجدل والتنظير الفلسفي ظلّت معقدة، كما يتجلى، مثلًا، في حالة الكندي.
يبيّن الكتاب أن العلاقة بين المنطق والميتافيزيقا تُعدّ مركزية لفهم مفاهيم فلسفية مثل العلل والماهيات. ويركّز على مساهمات الفارابي وابن رشد في تبيان دور البرهان في المنطق والفلسفة الأولى، حيث تختلف مقاربتاهما لمفهوم "الواحد"؛ إذ تنطلق مقاربة الفارابي من منظور مدني وثيولوجي، وأما ابن رشد فينطلق من منظور أنطولوجي، وقد استخدم الجدل في سياق تأسيسي للبرهان ضد الخطاب السفسطائي والكلامي، لا سيما في كتابه تهافت التهافت الذي لم يكن مجرد رد جدلي فحسب، بل هو أيضًا أداة تخدم نسقه البرهاني؛ ما يدلّ على تماسك مشروع ابن رشد الفلسفي عبر كتبه: فصل المقال؛ الكشفعن مناهج الأدلة؛تهافتالتهافت، بوصفها وحدة متكاملة تسعى لترسيخ البرهان وتفكيك الجدل الكلامي.
أصالة البرهان ومعياريته الكونية
ينتقد كتاب مسارات الجدل والبرهان في التراث العربي الفلسفي مبدأ قياس الغائب على الشاهد، الذي اعتمده المتكلمون، ويبيّن كيف أن الخطاب الفلسفي الرشدي لا يستند إليه إلا بصفته تشبيهًا توضيحيًا، لا بصفته أصلًا معرفيًّا. ويرى أن البرهان، كما يظهر في شروحات يحيى بن عدي وابن رشد، يحمل طابعًا كونيًّا يتجاوز الانتماءات الثقافية والدينية، في مقابل التحريفات التي أدخلتها القراءات الأفلاطونية وأمثال مختصر عبد اللطيف البغدادي.
ويلفت المؤلف إلى جدّة طرح ابن رشد لمسألة المرأة، بوصفها كائنًا أنطولوجيًّا مساويًا للرجل، متجاوزًا القيود الفقهية والاجتماعية. ويخلص إلى أن الفصل بين الجدل والبرهان، كما مارسه المتكلمون، كان خيارًا أيديولوجيًّا أضعف الخطاب الفلسفي، في حين أن الفلاسفة، وخصوصًا ابن رشد، سعوا لوحدة المسارَين ضمن فضاء الميتافيزيقا، حيث تنمو حرية التأويل وتتجلى أصالة الفهم العقلي.
التعليقات