بحثا عن فرعون العربي

بحثا عن فرعون العربي
دراسات الدكتور علي فهمي خشيم، واحدة من المحاولات الجادة والرائدة في ميدان إعادة الصورة الصحيحة لتاريخنا القديم فهو صاحب دراسات عديدة، منها: «العريبيون» ، «الباطش»، «هللوياه»، «زيوس عربيا»، «بحثا عن فرعون العربي».


وهي تستند على مجموعة كبيرة ومتلونة من المصادر والمراجع التي تجمع بين مختلف النقوش القديمة وبين المراجع العربية والأجنبية التاريخية منها والفلسفية والأدبية واللغوية. غير أن أهم ما في هذه الدراسات هو تأكيد الباحث على وحدة الأصل «العربي» القديم الذي تنتهي إليه جميع الخيوط اللغوية في الشمال الأفريقي والمشرق العربي.


ولعل هذا كان سنده فيما وصل إليه من نتيجة من أن «الشام ومصر ومختلف مناطق الشمال الأفريقي قد اعتنقت الإسلام وتكلمت العربية بسرعة كبيرة وبصورة طبيعية وبيسر وسهولة لا يفسرها غير الوحدة العرقية والأصل اللغوي القديم، إذ أن العربية لم تكن في أي يوم غريبة عن هذه الأرض،


وتاريخ اللغات الإنسانية يعرف عددا من حالات مشابهة فلهجات وفروع اللغة الواحدة كثيرا ما تتعايش على مدى فترة طويلة من الزمن و يحدث لأسباب سياسية أو دينية أو كليهما معا أن تتهيأ أسباب الانتشار لواحد من هذه الفروع أو اللهجات الشقيقة فتزحم أخواتها وتحتويها في عملية طبيعية يفرضها منطق التاريخ والاتجاه الطبيعي من حياة التشتت الأسري القبلي إلى صبا الدولة المركزية الموحدة .ونحن العرب لا نمثل في ذلك كله طفرة خاصة بين أمم الأرض .


فإذا كانت العربية ـ للأسباب التي ذكرت ـ قد زاحمت لهجات الجنوب العربي واللغات السامية الاخوات: السريانية الآرامية، والقبطية، ولهجات البربر، فقد حدث أمر مشابه لذلك عندما بسطت لندن هيمنتها على اللهجات الإنجليزية الأخرى والقضاء على التجزؤ السياسي الاقطاعي، كما استطاعت لهجة موسكو، بعد عمليات التوحيد السياسي أن تزحم اللهجات الروسية المتفرقة .


والجدير بالانتباه أن عملية التعرب نفسها اتخذت مسارا متشابها بالنسبة للساميات التي بدأت إنصهارها وتذاوبها بالعربية، حيث إتخذت مسارا واحدا متشابها في جميع الاراضي السامية ذات الأصل الواحد:


فالفصحى واحدة لا اختلاف فيها، أما اللهجات فهي عربية اصطحبت جوانب قليلة منها بالشقيقات السابقات فبقيت بعض آثار البربرية والقبطية والسريانية في أسماء الأماكن والمدن والجبال وفي نطق بعض المفردات وفي إسناد بعض الأفعال إلى الضمائر وبعض صيغ الجمع وما إلى ذلك. كما أن من الظواهر البارزة محافظة هذه اللغات السامية على نفسها في جزر صغيرة جدا في خضم التعرب الذي عاشته المنطقة بأسرها .


وكان سبب بقاء هذه الجزر دينيا بالنسبة للسريانية والقبطية «فقد كتبت بهما كثير من النصوص الدينية المسيحية وترتبط بهما كثيرا من الصلوات والتراتيل الكنيسية حتى يومنا هذا» كما كان الانعزال عن مراكز التعرب بسبب العوائق الطبيعية كما هو الأمر بالنسبة لبعض لهجات البربر وبحثا عن فرعون العربي:


قامت الحضارة المصرية القديمة، على دعامتين كبيرتين في أساسها الثقافي المدني: الدين باعتباره محور حياة المصريين، في الدنيا والآخرة، وكان البعث هو الذي يسيطر على أفكارهم ودعواتم وصلواتهم للأرباب على جدران المعابد وورق البردي، مما كون تراث مصر اللغوي والثقافي كله. ثم الكلك باعتباره مركز الاهتمام والحركة السياسية والإدارية والاجتماعية، حتى صار هو المعبود، له تبنى الاهرامات وتسجد الرعية.


هكذا قامت حضارة مصر القديم، ومع هذا وهنا موطن العجب، خلو اللغة المصرية تماما من الكلمتين الأساسيتين: «الدين» والملك» والمقصود بتعبير «الدين» هنا ذلك النظام الخاص المركب من معتقدات وطقوس تحدد معالم سلوك الفرد فيما يتعلق بالدنيا والآخرة مثلما هو الحال بالنسبة لليهودية والمسيحية والإسلامية أو حتى البوذية،


ذلك لأن مدلول مثل هذا النظام كان بعيدا عن ذهن المصري القديم رغم ما توفر من تصورات عن نمط من الشعائر مثل الصلاة وتقديم القرابين وأفكار أخلاقية كالتواضع وفعل الخير، مما نجده في اللغة المصرية القديمة، لكن هذا وحده لا يشكل نطاقا دينيا شاملا.


والملاحظة المهمة هنا أن كل ما يتعلق بحياة المصري القديم الدينية، تجاوز، من معتقد وعبادات كان منبثقا عن موقفه من فرد واحد، وهو الفرعون، فهو ابن الإله، أو الآلهة، بل هو الإله المعبود ذاته، وكلمته هي العليا وهي القانون، وهذا ما يفسر خلو التراث المصري من تشريع ثابت أو قوانين متفق عليها يسير على هديها المجتمع ويطبق نصوصها القضاة، كما هو الحال مثلا في حضارة بابل.


في الفرعون إذن نجد إمتزاج الدين والدنيا وتداخل فكرة «الدين» وفكرة «الملك» فهو الفرد الممثل لكليهما معا، وبإنتفاء مفهوم الدين كنظام معين انعدم اللفظ المعبر عنه في اللغة ووجدت الفاظ تعبر عن الافكار والشعائر والتصورات الدينية دون النظام ذاته . وبتداخل مفهوم «الملكية» مع الألوهية في شخص الفرعون ولم تكن صورة الملك كما عرفتها الحضارات القديمة الأخرى،


أو كما نفهمها نحن الآن، واضحة في ذهن المصري فانتفت هي الأخرى من قاموس اللغة وحل محلها تعبيرات مختلفة استعملت للإشارة إلى هذا الملك الإله عند الحاجة.


هذا القول يؤيده أن اللغة المصرية تحتوي على عدد وفير من الكلمات العربية الدالة على الحكم والولاية لكنها لا تشمل الجذر «م ل ك» الذي استعمله العرب الكنعانيون مثلا وكذلك عرب فلسطين قبل الغزو العبري، بل استعملته القبائل العربية في الحجاز.


أصل اللغة في الوطن العربي: ظل الباحثون لفترة طويلة من الزمن يقسمون لغات الوطن العربي إلى قسمين وتشمل لغات الجزيرة العربية، وحامية في مصر وشمال إفريقيا، وكان الباعث على هذا الإتجاه خطأ تاريخي يكمن في الاعتماد على تقسيم التوراة للأمم والشعوب.


ولكن الكثيرين الآن يرجعون إلى التسليم بوجود قاسم مشترك لا ينكر بين لغات هذا الوطن القديمة أسماها بعضهم «اللغة الأم» أو «السامية الحامية » تحرجا من تسميتها «اللغة العربية الأولى» والتي تشكلت من اللغة المصرية و«الكنعانية» و«الليبية» و«السبئية» و«البابلية» و«الأشورية»، و«الثمودية» و«آرامية»


وكلها تنبثق من مصدر واحد وترجع إلى أصل موحد هذا هو المنطلق الذي يقود الباحث إلى إستعراض الالقاب الملكية في مصر القديمة على ضوء وحدة الأصل اللغوي المشتق منه اللقب، ومقارنته بالألقاب التي إستخدمت في مختلف مناطق الوطن العربي قديما ومنها نرى أنها جميعا عربية قحة وأن أشهرها فرعون الذي تعزى إلى أسمه «الفرعونية» بمعناها الإقليمي المنغلق الضيق هو في حقيقة لقب عربي صميم، يشاهد اللغة ودليل التاريخ.


هناك خمسة تناولات من تشكيلات الحروف بشأن الألقاب الملكية المصرية.


1 ن ب وتترجم بأنها: مولي، سيد وهذا ما يجعلها تساوي كلمة «رب» العربية ومن المعروف أن حرفي النون والراء يتبادلان في اللغات العروبية بمعنى اللغة العربية الأولى، فنجد في الاكادية والبابلية والسبئية كلمة «ب ر» بمعنى «ابن» أو ابن الصلب، أو الولد من الصلب وكلمة «نب» أو «نبو» نفسها في البابلية بمعنى «رب» ونجدها في عدد من الاسماء مثل «نب عقب» و«نب خد نصر».


وتدخل في جمل وأسماء كثيرة بمعنى «الرب» تماما كما يدخل اسم «بعل» عند الكنعانين و«رع» أو «أمون» عند المصريين فنقرأ: نبوحن «الرب حنون» ، نبورعي «الرب راع»، نبوشمع «الرب سميع» كلمة «نب» المصرية تعني «الرب» .


ومن هنا نجد تعبيرا مصريا معروف مثل ن ب و ي، وهو مثنى «نب» ومعناه السيدان، أي الإلهان: حورس وشيث. ومقابلة العربي: الربان، ونجد تعبير آخر هو ن ب ت . ب . ر . ومعناه الحرفي «ربة البيت» لا لاحظ تاء التأنيث «نبت» وهي كالعربية تماما، وأنظر كلمة «ب ر» في تحليل اسم فرعون.


2 ن س و: إستعملت هذه الكلمة للدلالة «على ملك مصر العليا » أو الصعيد باعتبار مصر مكونة منذ القدم من إقليمين أو قطرين هما الصعيد والدلتا تفصل بينهما ممفيس أو القاهرة الآن في النقوش البابلية ونرى كثيرا اللقب «ناشيء» أي: الحاكم أو ذو المنصب. وفي النقوش السبئية «محرم بلقيس» نجد نشأ ـ كرب قرب باعتباره قائدا عسكريا أو ملكا.


وفي النقوش المصرية نجده مقطعا من أسماء عديد: نب ـ نش أمون ـ نش ـ صور، نش ـ فتاح، نش، نش ـ خنو .. إلخ .. مقرونا باسم رب من الارباب في العادة كما هو واضح فما معنى هذا اللقب وما هو جذره اللغوي؟


في الاكادية تعني كلمة ن اش يرفع ـ يعلي يقبض على الملك «يصير ملكا» في الكنعانية الأولى نقوش رأس شمرة نجد «نشأ» بمعنى: يرفع، يعلي وفي نقوش جنوب الجزيرة «محرم بلقيس» معناها: قائد - رفيع المكان.


وفي العبرية: «ناشئ تعني: المرفع. وفي البابلية كذلك. فإذا انتقلنا إلى العربية رأينا الجذر «ن ش أ» ربا. شب. إرتفع ومنها: أنشأ، أي رفع والخلاصة أن الجذر «ن ش أ» عرف في جميع اللغات العروبية العربية الأولى «بمعنى رفع، رفيع، مرفع .. وقد رأينا أن «نشأ إستعمل في شمال الجزيرة بابل «وجنوبها» سبأ بمعنى الحاكم أو الأمير أو الملك وهذا بالضبط هو معناه في المصرية .


ويستكمل الباحث تحليله ل:ب . ت وكذلك تحليله ل: ح ك .. ح ق وأخيرا ف ر- ع «فرعون» وهي أهم الألقاب الملكية المصرية.


وهكذا تتشارك كل اللغات العروبية أي العربية الأولى في التعبير عن الملك والإله.


وهكذا تكتسب أبحاث الدكتور خشيم أهيمتها حيث تضرب بعيدا في أعماق التاريخ لتعود إلينا في الحاضر.

الكتاب: بحثا عن فرعون العربي

الناشر: مركز الحضارة العربية ـ القاهرة 2004

الصفحات: 368 صفحة من القطع الكبير

(أمين اسكندر - "البيان")

التعليقات