ليليان بشارة في مجموعتها الشعرية الجديدة (شرفة الماء)../ رشاد أبو شاور

تعرفت بالشاعرة ليليان بشارة في عمّان، التي يزورها أهلنا من فلسطين المحتلة عام 48، و.. أهلنا في الضفة، وأحيانا بعض أهلنا من قطاع غزة الذين يتمكنون بعد عسر من عبور حاجز (إيرتس)، وكانت برفقة زوجها الصديق جوني منصور الباحث والأكاديمي.

ليليان بشارة  في مجموعتها الشعرية الجديدة (شرفة الماء)../ رشاد أبو شاور

تعرفت بالشاعرة ليليان بشارة في عمّان، التي يزورها أهلنا من فلسطين المحتلة عام 48، و.. أهلنا في الضفة، وأحيانا بعض أهلنا من قطاع غزة الذين يتمكنون بعد عسر من عبور حاجز (إيرتس)، وكانت برفقة زوجها الصديق جوني منصور الباحث والأكاديمي.

قرأت لها إحدى مجموعاتها الشعرية وهي بعنوان (الندى والتين)، واطلعت على قصائد متفرقة.
تكتب ليليان قصيدة النثر، ولها دراسة حول رواية (سرايا بنت الغول) للراحل إيميل حبيبي، وقصة طويلة للأطفال بعنوان (صديق سامي).

هي معروفة داخل فلسطين المحتلة عام 48، وكبعض مبدعينا لا يصل نتاجهم إلى القارئ الفلسطيني في الشتات، فما بالك بالقارئ العربي!

لهذا حاولت أن أعرف بها بعجالة، وبنتاجها، قبل أن أشير إلى مجموعتها الشعرية الجديدة التي كانت تحملها في زيارتها الأخيرة للعاصمة الأردنية عمان، وكانت ترغب في إصدارها عن دار نشر بيروتية، ولكن يبدو أنها عدلت عن الفكرة بسبب مصاعب التواصل، فأصدرتها عن دار (راية) للنشر في حيفا، قبل أيام قليلة.

تكتب ليليان بشارة قصيدة النثر بالشفافية، وحساسية تنعشها علاقتها الوجدانية ببحر حيفا، والسماء المفتوحة العميقة الزرقة، ورمال البحر التي بنت فيها بيوتا حلمت بها في صغرها بعودة الغياب، وبالفارس الذي ينقذ (سرايا بنت الغول)، كما في الحكاية الشعبية الخرافية التي استفاد منها الروائي الراحل إيميل حبيبي.

للماء في قصائد هذه الشاعرة حضور.. أيكون جاء من المعمودية، من الذاكرة الفلسطينية المرتبطة بالمغطس، حيث عمد يوحنا المعمدان المسيح، وغسل قدميه؟!

أيكون الماء هنا ماء الحياة، الذي بدونه لا خصب، ولا حياة، ولا انبعاث، وحتى لا حب؟!

الماء، والبحر، والرمل.. تأخذان ليليان إلى الذاكرة الفلسطينية الجمعية، ذاكرة لوعة الفراق، والحنين، وشقاء الغربة، واللجوء، والمنافي البعيدة. تخاطب ليليان من رحل بما يلي، في قصيدة بعنوان (هفوة نسيان):

قبل رحيلك
فاتك أن تغسل رجليك
في بحر حيفا

الفلسطينيون في الشتات، والمنافي، واللجوء، سم غربتهم كما تشاء من هذه الأسماء الشقية وغيرها، يلتمسون من ذويهم، وأصحابهم، وأحبتهم.. أن يعبئوا لهم زجاجات من تراب قراهم، ومن رمل بحرهم، وأن يحضروا لهم هدايا نادرة أثيرة على نفوسهم: حبات من زيتون قراهم، وحبات الزيتون الخضراء تعمّر تحت نظرهم، وتتحمل أنفاس أطفالهم الذين يتأملونها، ويتحسرون على خضرتها التي حرموا منها، فكأنهم بهذا يرون حقولهم التي زرعها أجدادهم وآباؤهم وأمهاتهم.

في نوبة غضب، وأمل لا ينضب، تصيح الشاعرة في ذروة همسها البحري الذي ينفجر قهرا:

ويوم القيامة حتما آت

ويوم القيامة المأمول ليس يوما للفناء، ولكنه يوم الحياة وقد استقامت، وعادت طبيعية في سياق إنساني عادل، إنه يوم العدل غير المنقوص، اليوم الذي يستمتع فيه الفلسطيني ببحره، وسمائه المطمئنة الخالية من طائرات تقتل وتدمر، آمنا مطمئنا.

ولأنها امرأة حواسها يقظة، فإنها لا تكتمل إلاّ بالرجل الذي تحب، الرجل الذي تفتقده أحيانا، الرجل الذي تخشى أن يذوب من يديها، الرجل الذي تتغزل حتى بأصابع قدميه:

وأستأذنك ...
لأقبل أصابعك
إصبعا..إصبعا
وأعشقك قبل المطر بقليل

غزل حسي، تعيشه امرأة عاشقة، تفصح عن حسيتها، وتذكرني بهذا المقطع، وبغيره في مجموعتها الرشيقة الناعمة، بقصائد للشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة ، صاحبة ( لو أنباني العراف)، التي كتبت للحبيب بحسية عشقية جريئة غير مسبوقة بين الشاعرات العربيات المعاصرات.

في هذه المجموعة قرأت قصائد أخذتني إلى تجربة الشاعر الكبير أمجد ناصر في ذروة تجربته، حيث انتقل لكتابة ما أطلق عليه (قصيدة الكتلة)، وهي القصيدة التي يقترب شكلها، وحتى طيف الحكاية فيها، أو الحدوثة، من فن القصة القصيرة.. ولكم تمنيت لو أن ليليان اطلعت على تجربة أمجد لتستفيد منها.

لأدلل على رأيي أتوقف عند قصيد تين بعنوان: ميلك شيك 1، وميلك شيك 2، فهما تسردان حكاية، ولذا وددت لو أن الشاعرة كتبتهما في أسطر كما لو أنهما نصان سرديان.

لنقرأ في ميلك شيك 1:

لائحة المشروبات الخفيفة
في المقهى المنعزل...
قراءة سريعة...
ماذا تشربين؟
بخطى بطيئة أحضر لنا النادل
ميلك شيك

هكذا نرى أن اثنين عاشقين يجلسان في مقهى منعزل - والمقهى منعزل لينأيا بنفسيهما عن العيون الفضولية - وأنهما.. وأن النادل.. الخ.

في ملك شيك 2 تخاطب الحبيب:

لم أغسل قبلاتك
بعد اللقاء
تركتها بصمات على شفتي

هنا أتوقف.. لأنني أرى بأن القصيدة اكتملت، فلا حاجة للاستطراد الذي يفسد النص.. فأنا مقتنع بأن الشعر يتحقق بالتكثيف، وبالقليل من الكلام.. الكلام الذي يوحي، ويفتح فضاءً لا يُحد.

ليليان بشارة شاعرة، وأحسب أنها ستضيف (شيئا) ما للقصيدة العربية، فقصيدتها السلسة قريبة من القلب، كونها مكتوبة من القلب، والحواس، والمشاعر الأنثوية الدافئة.

التعليقات