الروائـــي معلمـــاً / عباس بيضون

الروائـــي معلمـــاً / عباس بيضون
آخر روايات موراكامي باع 6 ملايين نسخة وهذا كثير حتى على بلد كاليابان. لم تخرج هذه الرواية بعد من لغتها الأصلية ولم نعرف شيئا عنها الا أن عددا من رواياته نقل إلى العربية وتعهد المركز الثقافي العربي ترجمتها. ليس موراكامي مجهولا وعلى هذا يصح أن نتساءل ماذا يريد القراء من موراكامي. بعد قراءة «الغابة النرويجية» و«سبوتينك الحبيبة» يمكننا ان نتساءل اذا كان موراكامي يقدم لقارئه رواية فقط أم مضافا إلى شيء آخر، اذا كان القارئ يبحث لدى موراكامي عن الرواية وحدها أما مضافا اليها شيء آخر، روايتا موراكامي موضوعهما الحب. ليس الحب الذي هو واقعة بين رجل وامرأة لها فصولها ولحظاتها وازدهارها وتحللها ونهايتها السعيدة او المؤسية. ليس الحب بوصفه واقعا بل بوصفه أفقا. ليس كما يعاش وانما كما يفكر. وليس كما يتحقق وانما كما لا يتحقق. وليس كحدث ولكن كمستقبل. ليس كما كان وانما كما يكون او يجب ان يكون. انه سؤال ومفهوم ودعوة ومطلب اكثر منه عرضاً من أعراض الحياة او واحدة من تجاربها. بل اذا جاز أن نضع الحب الموراكامي في مكان كان هذا قبل التجربة او بعدها، لكنه لن يكون التجربة نفسها.

في «الغابة النرويجية» واتانابي قارئ نهم لكن لسلسلة من الكتاب الذين نفاجأ بأن اسماءهم تكاد تكون كلها غربية بل هناك ما يشعر بأنه يمر على أسماء يابانية بقدر من الاستخفاف. كذلك هي أسماء الموسيقيين المفضلين في «الغابة النرويجية» او في «سبوتينك الحبيبة». انها تقريبا غربية بالكامل وبالكاد نعثر على اسم ياباني. لا نستطيع من هنا تقدير ذلك أو محاكمته. يمكننا ان نتخيل هذا في رواية عربية «مثقفة» لكننا نفترض ان اليابان غيرنا. أن فيها ما يخصها اكثر مما عندنا. واتانابي بطل الغابة النرويجية او راويتها على الأقل مثله مثل بطل سبوتينك الحبيبة قارئ شغوف ومستمع شغوف، لكنهما، الإثنان، مستقيمان امينان، وبكلمة أخرى متزنان. واتانابي تلميذ غير طموح الا لأن يكون في سلام مع نفسه ويجد المرأة التي تناسبه وكذلك بطل «سبوتينك الحبيبة» الذي لم يكن بالصدفة معلما ناجحاً. عالم الرجال في الروايتين جانبي. فالرجال هنا رواة ونصيبهم من القصة هو، فضلا عن الرواية، ما يتقاطع او يتداخل في حياة نسائها. روايتا موراكامي روايتا نساء اذاً.

في «الغابة النرويجية» واتانابي ضلع من مثلث يجمعه بناوكو وكيزوكي. لن نسأل كيف انتحر كيزوكي ففي الروايات اليابانية وبخاصة روايتا موركامي يبدو الانتحار دائماً قفزة لا تحتاج إلى تفسير وكأنها ليست من هذا العالم. كذلك ينتحر أبطال كاوايانا وأوي وتانيزاكي. انتحر كيزوكي وترك المثلث من ضلعين لكنهما لا يستطيعان ان يلتقيا بسهولة فالضلع الفارغ لا يزال قائما بينهما. لا تزال له قوته وتأثيره غير المحددين. كانت ناوكو تحب كيزوكي الذي كبرت معه لكن صداقة الطفولة هذه حين انقلبت إلى حب بقي هذا، على نحو ما، طفولياً. كانا صريحين حرين وبدون عقد في علاقتهما لكنهما لا يقدران على أن يتجامعا كرجل وامرأة، وكأن هذا، بحد ذاته، يحتاج نضجا لم يتسن لعلاقتهما. لا نعرف اذا كان موت كيزوكي هو الذي أثر على «ناوكو» ودفعها إلى المرض وإلى المصح، كما جعل علاقتها بواتانابي قيد استحالة شبه ميتافيزيقية. ظِلُّ كيزوكي ليس غائبا لكنه ليس كل شيء. لا يمكننا ان نفهم جليا لماذا مرضت ناوكو ولماذا لا تستطيع ان تخرج من مرضها رغم كل الطرق المفتوحة امامها. لا نستطيع أن نفهم لماذا تحب واتانابي ولا تستطيع مع ذلك ان تحبه. ثم هناك الأهم، الزيارة إلى المصح. واذا كان رجال موراكامي ونساؤه متشابهين إلى حد في الروايتين، فإن ثمة هنا وهناك تلك الزيارة الى مكان غريب، مصح ناوكو ليس مجرد مصح، انه مكان خارج علاقات العالم الواقعي. المرضى هناك يعيشون في شبه جنّة «هيبّية».

يعملون جميعا في الأرض ويعيشون منها ويساند بعضهم بعضا، يعيشون أحرارا وبلا صراع. انها يوتوبيا أرضية لكنها مع ذلك لا تنقذ ناوكو التي تنتحر بعد ان وهبت نفسها لواتانابي مرة واحدة. مرة واحدة كأنها الرؤيا التي لن تتكرر. هناك ايضا من القاطع الآخر ميدوري القوية الأمينة لكن الغريبة ايضا. هذه تنتهي الى حب واتانابي لكنه لن يقترب منها الا حين يتحرر من ناوكو التي لا تزال تسكنه، فالحب المتواتر ذو ديمومة يبدو مستبعدا. يتم الحب كرؤيا. يمر الجنس كرؤيا لا تتكرر. وفي كل الأحوال، الحب بما في ذلك الجنس، لا يوجدان الا كرؤيا وربما كمستقبل. يوجدان أفقا وتوقا مستحيلا.

ليست رواية «سبوتينك الحبيبة» شيئا آخر. هناك الرجل الأمين الشفاف المتزن ذاته مقابل امرأتين «استثنائيتين». يحب استاذ المدرسة النجيب الشغوف بالقراءة والموسيقى «سوماير» التي تكرس نفسها لكتابة رواية تملك كل المؤهلات لكتابتها لكن أمرا يعيق ذلك ولا يجعله ينجح. انه خروجها من نفسها والدفقة التي تتجاوزها ولا تستطيع ان تضع لها نهاية او تقيم لها هيكلا أو بناء. ما في نفس سوماير يتخطى الأدب وأخيرا يأتي يعترض سوماير ويحولها عن الطريق، انه الحب. حب ميو سيدة الأعمال الذي يستولي عليها فتذهب في اثر ميو التي تستخدمها كسكرتيرة. تهجر الأدب نسبيا وتصارع الشوق إلى استعادته. تسافر مع ميو في رحلة تجارية تنتهي في جزيرة يونانية صغيرة، هي الأخرى نموذج مصغر عن تلك الجنة الهيبّية: السكينة والسلام والبساطة. لكن سوماير تختفي هناك ولا نقع لها علي أثر. يفهم الراوية الذي استدعته ميو على عجل انها حاولت ان تقترب جسديا من ميو التي صدتها. ميو بسبب حادث غير معقول فقدت أي رغبة جنسية تجاه الرجال أو النساء. الحادثة يصعب تلخيصها لكن بسرعة نقول انها شاهدت نفسها وهي في أعلى الدولاب تنظر من هناك إلى كوخها. شاهدت نفسها من هناك تفسق مع رجل تعرفه. كرهت نفسها في هذه الصورة وكرهت الجنس. كانت هذه، ودعك من التحليل والتحليل النفسي خصوصا، كانت هذه نصفها الآخر، صورتها الثانية، التي غادرت ومعها رغباتها. وفي النصف الآخر من المرآة، لا تفسير لاختفاء سوماير الا انها لحقت بمعشوقتها في النصف الآخر من المرأة.

يمكن ان نلاحظ ان الروايتين تستعيدان عناصر متقاربة: رجل متزن تجاه امرأتين استثنائيتين وزيارة إلى جنة أرضية قد تكون عتبة للانتقال إلى عالم مواز او مغاير. والأهم من ذلك الحب الذي يسيطر ويندلع بدون أن يتحقق وبدون أن يدرك وتعرف له ماهية. يكون الانتحار او الاختفاء نوعا من طلبه في ذلك العالم الموازي او الدنيا الأخرى التي بتنا على عتبتها. الحب الذي يمر كزلزال يقتلع الوجود لكنه يتحقق في ما يشبه الرؤيا الخاطفة. قد نفكر بأن في الروايتين الترسيمة ذاتها. وقد يخطر ان الروائي الذي باع ستة ملايين ليس غافلا عن ذلك وانه اختبره واختبر نجاحه ولا يزال يتقصده.

لا نستطيع القول ان موراكامي يعارض الجسد بالحب. رغم ان ابطاله يمتنعون جسديا الا أن ذلك ليس من تقدير مسيحي او افلاطوني للرغبة الجسدية. امتناعهم الجسدي ليس الا صورة عن صعوبة، بل انحجاب الحب نفسه. لا يفصل موراكامي بين الجسد والعاطفة، واضح له ان الحب يتم بالجسد والروح وليس الامتناع الجسدي سوى العبارة عن صعوبته جسدا وروحا. انه الحب الذي يستولي على الوجود وبدون ان يتجلى له الا في رؤيا خاطفة، في تجليات تقريبية. في لحظات غير كاملة لكنها لا تنسى، انه حب محجوب واذا كانوا يتكلمون عن مجانين الله فان في وسعنا بالدرجة نفسها ان نتكلم هنا عن مجانين الحب. انه توق هائل إلى قطب غير منظور يخرج المرء من نفسه ومن وجوده، ويجعله يتعجل الوصول إلى الجانب الآخر من الغابة، من المرآة في اثر المحبوب المختفي، او الوجه الآخر له.

هل هذه رواية يابانية فعلا. لا يفاجئنا ان أسماء الأدباء والموسيقيين المذكورة بوفرة والمؤلفات من النوعين التي تتوارد بكثرة في الروايتين غربية. لا يفاجئنا ذلك ولكننا نشعر أن العالم الياباني كما رأيناه لدى كواباتا، مملكة الاشارات والاتحاد بالطبيعة وامتزاج الطقسي باليومي، ثم الممارسة الخاصة للجسد والبيت والفصول والحب ليس تماما هنا. نشعر أن عالم موركامي يفاجئ ولا يفاجئ. انه كوني أكثر منه يابانيا بل ان هناك ما يجعلنا نشعر انه غربي اكثر منه يابانيا. هذه المعاناة للحب والجسد قلما تكون يابانية ففيها ثنائية بين العالم المحجوب والعالم الواقعي، بين الحب والجسد، بين المفهوم والممارسة قلما نلحظها في الأدب الياباني، قديمه وحديثه. إن إشراقية موراكامي ولو كانت قبلتها شرقية كما نفهم من الاسم الا انها اشراقية غربية في الأساس. هل هي اليابان الجديدة هنا أم خروج الأدب الى خيال كوني. غير ان ما يهم هو ان نتساءل هل نحن امام رواية فلسفية شأننا أمام أعمال هرمان هسّه مثلا او نحن امام حكاية تعليمية كما هي حال روايات كويلو. لسنا في الحقيقة امام هذا وذاك. موراكامي رغم تدويراته الفكرية والتأملية لا يلقينا في طلسمية من أي نوع. انه يلتف ويتعرج ولكن في اتجاه واضح، ثم ان رواية موركامي اكثر من أن تكون حكاية او عبرة محكية. ليس الدرس واضحا هنا ولا المعالجة فنحن في الواقع في دائرة من عدم التحديدات ومن تأملات توسع هذه الدائرة باستمرار. مع ذلك فإن في نص موراكامي دعوى ما، الحب أفق غير محدد ومغامرة مستحيلة لكمنه النار التي نحتاج لها ولو كان في ذلك ثمن وجودنا. الحب قد يساوي العدم لكن الأمر يستحق. انه أكبر من ان يظهر، انحجابه حضور وتجلياته رؤى لا تنسى، الرواية تشير إلى أفق قاتل لكنه يشير إلى أفق. الروائي هنا لا يروي فحسب لكنه يضيف شيئا آخر، نوعا من الدعوة الغربية. الحب المحجوب، المختفي الكبير، وتجلياته النسبية. انها ميتافيزيقا الحب بالتأكيد. قد يحل الحب محل الكينوية (هيديغر) قد يكون تجليا لها، انها مغامرة اشراقية. لكن الرواية ليست وحدها في الحساب.

هل يبيع موراكامي بالملايين لأن القارئ ينتظر الى جانب الرواية شيئا آخر. ليس كويلو في فن موراكامي ولا موهبته لكنه الآخر يبيع بالملايين لأن القارئ ينتظر شيئا آخر. هل الرواية لا تكفي والقارئ من جديد يريد من الروائي ان يقوم مقام المعلم. يريده ان لا يجيب ولكن أن يفتح آفاقا. أن يجعل للحياة معادلا آخر. ان يمنح وعداً باشـــراق ما. ان يلمح إلى معنى ما خفي ومحجـوب. إلى دورة ما للوجــود وإلى مغامــرة داخلية.

ربما ينتظر القارئ أحيانا أجوبة، او على الأقل ابتعاثا لأجوبة. هذا ما يفعله بعض روائينا العرب، فيما أظن. انهم بلا حذر ولا احتياط يتبرعون بالعظات نفسها. مديح الحب وترسمه للخلاص، مديح الأدب، مديح الوطن والحرية، مديح الاستقامة والوفاء والأخلاق الحسنة… الخ. هناك رواية قلما تكون رواية وتعجل إلى اعطاء الدروس، والدروس هي بالطبع مستهلكة والغلاف الكلامي الذي لها هو غالبا سائر معلوم. هذه الروايات تجد أيضا قراء كثراً وعدة طبعات. عندئذ يمكننا أن نتساءل ماذا يريد القارئ العربي. هل يريد رواية أم مجرد تجديد لخزينه الأدبي والفكري. هل يريد رواية أم مديحا من أي نوع، لإيمانه المستديم. نتساءل أكثر اذا كان يريد أن يتسلى أم يتعلم. اذا كان مراده لا التشويق ولكن أولاً فحص إيمانه وتأكيد ثوابته والاطمئنان إلى ما يعرفه عن العالم.

عن ملحق السفير الثقافي

.

التعليقات