الازدواج الكرنفالي في إبداع أنوار سرحان 1\3 \ حسام حسين عبد العزيز- (ناقد مصري)

الازدواج الكرنفالي في إبداع أنوار سرحان 1\3 
\ حسام حسين عبد العزيز-  (ناقد مصري)
آن للزوايا الحادة أن تنفرج قليلا:

يبدو أن الخطاب الإعلامي، ولاسيما حُمى الأخبار التي تتناقلها الفضائيات في عالم مفرط في العبث، قد جعلتنا ننسى، أو ربما نتناسى أن فلسطين ليست هي الضفة والقطاع؛ وليست على الدرجة نفسها (فتح) و( حماس)، بل هي إقليم ومعنى أكبر مما نظن.
إذن علينا أن ننظر لما هو أبعد، ولكوني أحب الإبداع الجيد وأتذوقه على طريقتي، قرأت هذه القصص كي أرحل إلى هذا الجزء المنسي من وطن على قدر ما نحبه؛ على قدر ما أصبح اسمه مدعاة لأن ننزف كل يوم، بل كل لحظة إن استطعنا لهذا سبيلا.

سأذكر قصة حدثت معي في النصف الثاني من عِقد التسعينات قبل رحلة الهروب الكبير إلى بيروت، ووقتها كنت في عمَّان، أعاني من قرحة المعدة. كنت مرهقا من المرض وتداعياته المؤلمة، ولم تكن أحوالي المالية جيدة من وراء وضعي الصحي الذي يعوقني عن العمل. طالت رحلة البحث عن علاج، حتى أرشدني صديق لي إلى أطباء وكالة Unrwa( وكالة غوث اللاجئين) على اعتبارهم أكثر خبرة، وربما التقينا هناك بطبيب أجنبي أو ما شابه؛ لكن فقط نحتاج وساطة، لأن هؤلاء الأطباء معنيون- وقتها- بنوعية خاصة من البشر، وحين سألت من هم، كانوا الفلسطينيين الذين هبطوا الأردن في النكبة الأولى(48). ونجحنا في استقطاب رجل تعاطف مع حالتي، وقد كان، وعولجت في هناجرهم في مخيم البقعة.
هنا أدركت أنه رغم ما يغلف المأساة من معنى المطلق، يبقى ميزان التعامل يفتقر للمطلق عموما، فالعلاج مُصنف؛ وأرقام الهويات مُصنفة، وكذلك جوازات السفر.
لكن يبقى الإيجابي في هذا المعنى الطاعن بالفعل، أن هناك ثمة من يتوجه بشيء له خصوصية تجاه فلسطيني 48 داخل الأردن، لكننا لا نعرف تحديدا كيف هي النظرة التي تتجه لفلسطيني 48 الذين لم يعبروا الجسر؟

بطبيعة الحال أزعم أن أنوار سرحان تريد بإخلاص أن تعبر الجسر، بل الجسور كلها إن استطاعت، ولاسيما أن إبداعها بالفعل قادم من كهف بعيد، أكاد إن اجتهدت في معرفة تفاصيله أن أصل إلى تحليل مقبول يرضيني في شكل التعامل مع ما تطرحه على ذائقتي وذائقة من يتصدى لقراءتها.

الازدواج الكرنفالي:

قلت مرارا: لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن نفصل صاحب الإبداع عن ظرف المكان والزمان، ولكم قلت إن "لوركا" كان ضروريا أن يكون من أسبانيا، فهل أجافي الحقيقة إذا أعلنتها صريحة: إن أنوار سرحان حقا من عرب 48؟

عند الحديث عن {أنوار}، نجد قوة دفع ذات غواية خاصة لأن نقرأ قصصها من منظور سوسيولوجي؛ يدعونا إلى النظر في روافد الإبداع الاجتماعية؛ ليس افتئاتا على تعددية القراءات التحليلية الممكنة الأخرى، لكننا لا نستطيع الانفلات من تأثير معرفتنا السابقة بموطن صاحبة الإبداع في الواقع.
ربما أميل بشكل خاص لهذا المدخل، لذا سأحاول الرصد الذي أتمناه عميقا للنقلات الاجتماعية والسياسية والثقافية، كي نحاول ربطها بزمنها لعلنا نستطيع في قراءة أعمق أن نبلور هذا البعد مع أبعاد أخرى في قراءة أكبر لمنجزها متى كان تحت أيدينا بشكل كامل.

قرأت ما تيسر لي من قصص أنوار سرحان في حقيقة الأمر أكثر من مرة؛ وكعادتي بالعديد من الأمزجة المختلفة، ورغم الثبات الفاعل لعناصر الكتابة القصصية وتوفرها بشكل واضح، فهي قاصة حقيقية بالقوة والفعل، لكن لا أخفي أحساسا مؤلما بغصة ومرارة في آن.
شعرت في لحظة ما أنني بالضرورة أمام منعطف شديد الخصوصية في التماس مع هذه الكتابة، فالمعالجة الإبداعية الفنية في أطار قصصي، ومن منطلق السياق الثقافي والظرف التاريخي مسألة في غاية الصعوبة.

من جملة العناصر التي قفزت إلى ذهني كقارئ؛ إعادة بلورة مفهوم أدب المقاومة؛ وخصوصا أن الذات المبدعة من خلال ظرف المكان تنتمي واقعيا لعرب 48؛ ومن خلال ظرف الزمان.. لا شك ترزح تحت مظلة وضع مأساوي بشكل كامل؛ لأقدم قضية وطنية سياسية يخوضها شعب مجرد من كل آليات المقاومة في معناها الشامل والأدق في تاريخه.

في مثل هذه الظروف وضعتنا أنوار سرحان بالفعل في العديد من السياقات الإشكالية والتأصيل الذي قد يكتسب معنى جديدا في شكل قراءتنا للقصة القصيرة عموما كفن له خصوصية معينة.
علينا أن نعترف مبدئيا أن أدب المقاومة ممثلا في إبداع أنوار سرحان، والتي تنطوي عليه بعض أطروحاتها القصصية قد بات متهما في أساسه اتهاما افتراضيا؛ إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين على جانب كبير من الأهمية...

الأول .. دموية فعل المقاومة في معناها المطلق على الجانب الآخر من النهر .. (الضفة / غزة) .

الثاني.. النظرة المُسطحة الغير مستندة على أي تحليل أنثربولوجي عقلاني أو ديموجرافي نستطيع من خلاله إقامة فهم عميق للمشكلة المزدوجة التي يعاني منها عرب 48، والمتمثلة في طوفان التغريب أو التهويد واغتيال الموروث الثقافي الذي يعض عليه سكان الإقليم من عرب فلسطين بالنواجذ من جهة، وشكل رؤية شركاء الدرب لهم من جهة أخرى .

مؤكد هو ليس اتهاما سلبيا في كل الأحوال، طالما أنتج إبداعا جاء على هذا النحو من السلاسة ، لكن اللافت حقا أن تتحول القصة كونها منظومة سردية مختزلة إلى حد كبير إلى ما يمكن اعتباره وجهة نظر، لا تؤسس عوالم سردية افتراضية بقدر ما تسعى لتسليط الضوء على مشهدية لواقع مُلتبس، يتفجر من خلال لغته إلى مفردات مُشكَّلة وقائمة؛ خضعت؛ لا للحكي وآلياته الفنية وحسب، بل للتحليل المرجعي، ووجهة نظر صاحبة الحالة القصصية فيه.

ربما يسأل من يطالع هذه الكلمات على ضوء ما ذكرته، وما هو الجديد الذي تقدمه أنوار سرحان على المحك السوسيولوجي؟
أقول: إن المناخ العام الذي تمارس فيه إبداعها، لا يدفعنا لأن نتوقع منها إبداعا نوعيا، إلى هذه اللحظة على الأقل، لأنها كتابة واقعة تحت ضغط العديد من الأمور، فليس سهلا أن تسعى للتأصيل بقدر ما تتجه للتوضيح لأبعاد قضيتها كإنسان يعيش واقعه قبل أن تدخل مرحلة الخلق القصصي، ومن السهل أن نجد مراوغة ومناورة باللغة؛ لا لحيلة التعاطي البلاغي، بقدر ما هي سعي للالتفاف حول العديد من المفاهيم الرمزية التي تعبر عن قناعاتها في مواجهة الاتهام المُفترض؛ من شركاء الدرب كما سبق القول، أو لمقاومة التغريب، وتوجيه قوة أفكار الحكايات المسرودة للتأكيد على الرغبة في الإخلاص للحضارة الأصلية التي تتعرض للامتهان وربما الاغتصاب.

في حقيقة الأمر لا يوجد نص أدبي يحتوي على طرح أحادي لأيدلوجية معينة، حتى لو كان قصة قصيرة ترتكز في الأساس على وحدة الهدف والانطباع والتأثير، وتستقي عناصر قوتها من كم اختزالها وتكثيفها.
إنني لا أستطيع بأي حال تنحية ظرف المكان الذي يتم فيه إبداع أنوار سرحان أثناء عملية القراءة، فدوما سأفكر في تداعيات سابقة كانت حاضرة في وعيها قبل الخلق الفني للقصة كمنجز نهائي، وعندما حاولنا طرح القراءة السوسيولوجية ونحن على ضفاف حكاياتها، فنحن حتما لم نضف للسرد شرفا لا يستحقه، بل هو في حد ذاته يحمل سطوة هذا الطرح ولو في صورة هوامش أو فجوات مرجعية تقف للذائقة كي نعيد ترتيب وضع الفكرة التي تنطوي عليها القصة، وملء هذه الفجوات بما يشتمل عليه التأويل الجامع للقصة كحالة مكتملة.

أزعم أن إبداع أنوار سرحان، يشبه عندي جنود المناطق الخلفية أو الشئون الإدارية الذين يخرجون في نهاية يوم قتال دامٍ كي يجمعوا القتلى والجرحى. إن النظرة العامة للمظلة الاجتماعية التي تغطي سماوات السرد مظلة مزدوجة نظرا لواقع القضية الرئيسية التي تحكم علاقات هذا البناء الاجتماعي الذي يقف كمرجعية خلف الإبداع، فالكل صاحب الأرض، مهما اختلفت حيثيات الحق بين معسكر القاصة ومعسكر دولة الاحتلال، وفكرة بهذا المعنى الصارخ لا يمكن أن تسير بشكل متوازٍ مع مشروع قصصي تم إنتاجه في رحاب هذا الوضع، بل ستظل على الدوام تصطدم به، شاءت أم أبت.
لا شك ستظل إرهاصة المبدع في هذه الأجواء تأكيدا جدا فاعل للازدواجية، يكتب كي يؤكد عجزه الشبه كامل عن فك شفرة معسكر الآخر، والذي يسعى بدوره لإحداث ازدواج كرنفالي مُحبب له، ليخدم به مشروعه الخاص.

إن أطروحة الازدواج عند(أنوار) لا تؤيد القطيعة الحادة في الحقيقة، ولكنها تؤيد مشروعية الاختلاف، كلٌ حسب ما يتبناه من أفكار؛ هي في حقيقتها قوية وقديمة. وعبقرية الشخصية الفلسطينية في الأساس ليست وليدة لحظات انفتاح رؤيوي أو فكري بقدر ما هي تراكمات قديمة قدم الزمن نفسه. فليس من السهل تغيير الهوى والهوية والجذور بمجرد قرار من آخر.

إن مأساة الازدواجية الأيدلوجية ذاتها لو افترضنا جدلا حرص المعسكرين للإبقاء على ثبات المرجعيات الخاصة لكل معسكر قد تبدو أسهل بكثير عند النظر لما هو أبعد، وهنا أعني ازدواجية الرؤية عند المعسكر المُجابه نفسه؛ الذي أراد بدوره أن يحقق ازدواجية أخرى ترتكز على وضع حد للتمييز بين أبناء الأرض ذاتها، بمعنى إنك هنا تدعوني للتعايش الآمن وفق حد أدنى مقبول من المرجعيات، في حين أنك تقتل أهلي في البقعة الأخرى. فهل من الجائز أن تقدم لي قربان التعايش فوق جثث قومي؟

{ تبا لك يا إيلان أما وجدت مكانا آخر للاحتفال؟؟ أما أمكنك تتويجي في مكان لا يصرخ إني عربي؟؟؟}

في حقيقة الأمر كل دراسة إنسانية كالدراسات الاجتماعية لا يمكن أن تمنحنا يقينا حاسما لكل ما نصل إليه؛ لأن البناء الاجتماعي والنظم تحمل في ذاتها بذور التطور المستمر. دعاني هذا الحديث كي أصل لشيء جديد بالنظر في قصص أنوار سرحان أو ما طالعته منها للدقة.

علينا أن نعترف للإنسان بكونه إرادة، يستطيع أن يحتفل بنتاج هذه الإرادة ويتحمل مسئولياته، لكن أشد ما يعكر عليه حياته؛ يقينه بسطوة التقاليد من جهة، وسطوة التاريخ من جهة أخرى. فالجنس العربي في هذا الجزء متحد في هواه وجذوره بشكل كامل أو يكاد، لذا فأن مظلة النظم الاجتماعية التي تحكمه تكاد تكون مقبولة ومستساغة إلى حد كبير، وطرحها للمراجعة إرهاصة ليست مُلحة في غالب الأحيان، بل يبدو لي السعي لتطويرها ومن ثم تطوير ممثليها هو الأمر الأكثر واقعية، وعلى الجانب الآخر من النهر تبدو المرجعية المتفق عليها هي اليقين الديني وحده، على اعتبار أن معسكر الكاتبة يواجه واقعيا "كوكتيل" من الأعراق والأجناس والخلفيات الثقافية المتباينة، ونظرا لمرجعية التضاد المنطقي؛ فالمتضادان لا يجتمعان معا وقد يرتفعان، إذن فالعلاقة واقعيا ليست بين طرفي نقيض كما يبدو من الوهلة الأولى، بل طرف متحد أو يكاد في مواجهة طرف إن لم يكن منقسما على نفسه؛ فهو بالضرورة حامل لجينات الاختلاف المنبثقة من ثقافاته المرجعية قبل أن يُهجر للوطن الموعود.

في ظل وضع كهذا إذا صح التفسير، يظهر أمام المثقف الفلسطيني عموما أنه بصدد صدام بين موروثه الثقافي الذي يتسم بالثبات المرجعي الذي قد يصل إلى حد التجمد، وهي مشكلة الثقافة العربية عموما على مدار تاريخها الطويل، فنحن غالبا ما نتعامل مع الموروث بشيء من التقديس الذي قد لا يكون له مبرر واقعي، بينما المعسكر المضاد ورغم التباين الواضح في المرجعيات، لكنهم ونظرا "لأوْرَبة" غالبية جذورهم ليبراليون إلى درجة مخيفة، لكن لا يغرينا القول بليبرالية هذا المعسكر أن نغفل عن عمد ازدواجية الرؤية لدى أنصاره، والتي قد تصطبغ بشيء من الأصولية المتزمتة في مقابل ليبرالية مؤمنة بحق الجميع في الحياة، وهنا أعني رؤية بقاء الآخر أم الحرص على فنائه، وهذه الأطروحة تحديدا في قصص أنوار سرحان تُكتب من فيض سلامة شخصيتها التي تتحرى النظرة المُنصفة عموما للأنماط البشرية التي تشتبك معها في إطار خلق القصة، فليست الشخوص العبرية في قصصها على الدوام شخصيات منفرة أو عدوانية، بل قد تبدو أحيانا إيجابية ومتعاطفة.

من سيناريو لجريمة محتملة (9) "هذه أغنيتي" { اصطحبني إلى قاعة الاحتفال حيث تجمَّع المربون والمربيات .. في لوحة رومانسية تعانقت فيها مربية عربية ويهودية، تستذكران متعا لنشاطات مشتركة، مربية خفيفة الظل تقلد لثغة طفل لم يميز بعد العربية عن العبرية فيقول(شلام.. }

إنني لو عدت لذلك التشبيه الذي سقته على اعتبار الكاتبة تجمع جثث القتلى والجرحى لاعتبرت كل قصة تكتبها هي كلمة سر قالها الجندي القتيل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو حديث جريح يهذي في غياهب التخدير. لأننا وكي يستقيم ما نقصده هنا نقف أمام قصة قصيرة قد تبدو لي من مزاج مختلف، كُتبت في جميع الأحوال على نار ليست هادئة على الدوام، لكن يبقى السؤال الذي من شأنه أن يرضي فضول من يقرأ هذه السطور.. من هم القتلى والجرحى التي تجمعهم أنوار سرحان؟

بطبيعة الحال لا يوجد ثمة قتلى وجرحى بالمعنى، لكن بالفعل أندهش مبدئيا لسببين:

الأول: أشعر عند القراءة بكتابة عفوية فطرية ولكنها عميقة، ولأني علي يقين مبدئي أن مبدعتنا ليست متقدمة في العمر، لكن ودون أن أتخلى عن موضوعيتي أراها كتابة خبيرة ومتمرسة إلى درجة.

الثاني: لم أشعر للحظة وأنا أطالع منجزها القصصي أن الفكرة المسرودة ومن خلال أحداثها ووقائعها تنبع من كتابة خائفة أو مرتعشة، رغم أن ظرف المكان والزمان من شأنهما أن يحيلا أجواء الكتابة إلى حالة لا تخلو من رعب، ورغم ما يمكن أن يُقال في ذاك الكم الهائل من الازدواج الموجود، لكن وجدنا شبه تحييد كامل للإطار العام للأيدلوجيات الملتبسة والمتجابهة. لكن للصدق كانت على الدوام تمنحنا مفتاح التأويل السوسيولوجي بأريحية غريبة ونحن في مقاعد التلقي.

لن أراوغ وسأجيب على السؤال وأقول:
إن أول القتلى يكمن في بعض الحقائق المرجعية والفكرية في صراع الثقافتين، والتي تقاوم وتبحث بدورها عن حقيقتها وجذورها، وفعل الحكي بمثابة بث روح الحياة فيها أو إسعافها، والحيلولة دون رضوخها كليا لدعوة التغريب أو الابتلاع.
فضاءات القصة على محك التأويل تحتفل بخصوصية وضع القاصة و كذلك موضوعاتها المطروحة، فنتاج الحضارة الساعية للهيمنة لم يستطع إلى حد كبير أن يغير من كيمياء المشكلة الخاصة المعاشة، ولكن أطيافه موجودة لتأكيد الإحساس بعمق الهوة، أن القصة كما سبق القول هنا ارتدت ثوب وجهة النظر باقتدار، وطالما نجحت فنحن بالضرورة نقرأ أحوالا وأجزاء مقتطعة من الحياة، دون تحديد شامل وحاسم لطبيعة هذه الحياة بالشكل الذي يغرينا بالقول إنها كتابة منتمية بالكلية لظرف المكان المشار إليه وظروفه وتداعياته، إننا نقف على القصة كشهود فيها على الحرفية، لكننا واقعيا نتورط بحكم معرفة (أنوار) في بسط معطيات التفسير الذي يقربنا من خصوصية المشكلة التي تضمنتها القصة، ومحاولة ربطها بالمشاكل الأعم والأشمل التي تنسحب على الواقع الأممي بكامله.

في حقيقة الأمر قد يبدو الحديث هنا محتاجا لدليل واقعي من خلال ما طالعته للكاتبة، فلم أجد أفضل من" سيناريو لجريمة محتملة 3- سأسجد لهما" كي أصل لمعنى صارخ تريد أن تبثه العقلية التي تقف خلف القصة. ولن أقدم هنا ملخصا للقصة التي تتحدث عن زوجة ضاقت بحياتها مع زوجها، وحين طلبت الطلاق اصطدمت بكل الأعراف السائدة والجامدة التي ترى الصبر هو الحل الأمثل؛ من منطلق مسألة مصير الأطفال، وشكل رؤية المجتمع عموما لمن تحمل لقب مطلقة؛ فقط سأذكر" سأسجد لكما" والتي تشير إلى تناص مع الحديث النبوي الشريف الذي يدعو المرأة للطاعة والاحترام لزوجها والتي جاءت في ختام القصة.

في بادئ الأمر لا ينبغي لي أن انفلت من عتبة هذه القصة وأحاول استنطاق الكاتبة لماذا سيناريو؟ ولماذا جريمة، ومحتملة؟
إذا سلمنا بأن موضوع القصة يحدث كل يوم، وفي كل مكان على الأرض العربية عموما؛ فنحن حتما لا نجافي الحقيقة في شيء، لكن تظل بصمة الكاتبة هي في حقيقتها بصمة المعالجة التي تمت لهذه المشكلة الاعتيادية، ولما كانت قصة قصيرة في الأساس، فنحن أمام سيناريو مختزل لمشاهد أربعة.. ليل داخلي( تجميع ما تحتاجه من بيت الزوجية) ليل خارجي( طريق الذهاب إلى بيت أبيها طلبا للطلاق) ليل داخلي(بيت الأب) ليل خارجي من جديد(رحلة العودة بعد الفشل إلى بيت الزوجية مجددا)؛ وإذا افترضنا هنا أن اللغة هي الكاميرا التي تسجل هذه المشاهد؛ سنلاحظ أن zoom in حدثت مرتين، سطوة التقاليد الرافضة لأن تُطلق والمصحوبة بضجيج الأسرة كلها وعلى رأسها الأب، وعلى الجانب الآخر من النهر مشاعر القهر التي انتابت بطلة القصة، والذي عبرت عنه اللغة أصدق تعبير من خلال مفرداتها، وذاك الإيقاع اللاهث الذي ينم عن خوف يقترب من الرعب، في تسجيل جدا فاعل ومؤثر للإحباط في قمة صوره. إذن فجدلية الجُرم المُشار إليه هنا ليست في اغتيال هذه البنت الزوجة التي تعاني في الحقيقة، فلقد استحالت بطلة المشهد إلى رمز دون أن تدري، أنابت عن كل أنثى مقهورة في هذا السرد المشهدي الموجز، وأشارت للجاني بكل أريحية، والمتمثل في وحش العرف والتقاليد التي لم تراجع، ولم يتم تنقيتها كي تراعي هذه الأنماط النسائية التي تعاني بالفعل.
فالأم ذاتها وكل أم على شاكلتها مشارك في قتل هذه الفتاة، فلقد صنعن هذه السُنة وأورثنها لبناتهن، فلقد طابت نفس الأم لمديح الأب وثنائه على تقبلها للإهانة بطول عشرته لها. إذن فمقولة "محتملة" لا تتجه لإمكانية حدوثها وحسب، بل تتجه لاحتمال اشتراك العديد من الأطراف في ارتكابها. وهل من الممكن أن تكون في المعسكر الآخر موجودة وترتكب بهذا الشكل المهين؟
الغريب إننا لم نرَ الآخر في هذه القصة، في إشارة على غير المتوقع لكون المشكلة في أساسها عربية، وتخص المجتمع العربي، وأن الآخر لم ينجح في تغيير نظرة العقلية العربية للمرأة، ولاسيما في إطار هذه السمات السلبية، فالإيجابيات ليست في حاجة لأن تتغير، لكن السلبيات ظلت كما هي، لم نتأمرك، ولم نتأثر بالمرجعيات الأوربية القادمة في جينات معسكر الآخر، لذا فالقصة هنا قد تبدو لي أكبر من ظرف المكان، ولكنها وضعت الآخر في موقع خفي يؤكد من خلاله الثبات المرجعي لمشاكل اجتماعية عربية خالدة إذا جاز التعبير، طرح إشكالي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، مازلنا عربا غارقين في سلبياتنا، ومتجمدين، ولم نتأثر بما نراه لنحرك الراكد من تقاليد بالية؛ فأنوار 48، هي ذاتها أنوار طنجة أو القاهرة أو الرياض.

أعترف بأني أثرثر كثيرا ربما، لكن حسبي إنني بمجهود متواضع أمنع الذائقة أن تتورط في ظلم هذه الأنماط من القصص، فموهبة السرد هي التي تحيل الحكاية العادية إلى حكاية أدبية لا تخلو من إدهاش؛ لأن التناص مع الحديث النبوي هنا لم يكن لمحاكمة الحديث ومعناه، ولكن السابق من تفاصيل السرد هو الذي يحمل في داخله إشارات الإدانة للمجتمع في المطلق دون أن يكون هناك سمت استصدار حكم قيمة يعلن عن عقيدة رافضة للحديث النبوي ومضامينه، بقدر ما هو رفض للممارسات الرجولية المغلوطة.
إن درامية القصة عند مبدعتنا رغم الإفاضة في تشريح الواقع، لكنها تحمل عندها ببراعة غريبة سمت الرمزية في ذات الوقت، إن الدراما بالضرورة لا تقلد ما يحدث في الواقع، ولكنها تختلف عنه كونها لا تغير الوضعية الاجتماعية، إنها فقط تصوره على المستوى الرمزي بإظهار تناقضاته وتداعيات مشاكله، لذلك فإننا عند النظر لمضمون ما تكتبه(أنوار) علينا أن نحتاط لأنفسنا؛ لأن فينا من سيذهب لنعت القصة بأنها حتما واقعية، أو أنها سيرة ذاتية أو تكاد، لكن في ظني أن مفهوم الواقعية ذاته مفهوم إشكالي، فحكمنا على نص أدبي بأنه واقعي أو مجرد مواقف نمطية يجب أن يخضع ضمنيا إلى حساب( ممكن/ ليس ضروريا). بمعنى ممكن أن يكون واقعيا، وليس ضروريا دائما أن يكون منتميا للواقع.

على ضوء ما ذكرناه لو أردنا التعبير الذي قد يكون مبالغا فيه إلى حين عن القتلى التي تجمعهم القاصة، لكان موت مقدرات الآخر على الاستفزاز، وهذا المعنى وإن كان يحمل بعضا من مراوغة على أعلى قدر من الذكاء، فهو يثبت فشل معسكر الآخر على التوغل في مضامين النظم الاجتماعية في مجتمع الفلسطينيين، لكنه يعطي ملمحا مهما عن الجمود المرجعي لمنظومة المجتمع الذي تنتمي له الساردة.
إنها بالضرورة تدافع في استماتة عن هوية الشخصية العربية الفلسطينية، لكن هذا المعنى في اتجاه آخر عند التوغل في قراءة قصص أنوار سرحان يخلق مضامين إرهاصة غريبة يجب الالتفات لها ونحن بصدد القراءة، فالخط البياني كون ما نطالعه قصة قصيرة في الأساس كان من المفترض أن نرى على ظلاله ارتفاع نبرة الذات الساردة كي نؤيد به السمة الأبرز في قصص هي بجلاء تعبير عن وجهة نظر في الحالة القصصية، ولكن رغم هذه الذاتية الموجودة كنا نستشعر في أغلب الوقت غياب هذه الذات أو تراجعها النسبي لحساب الأفق الحكائي. وهذا الأخير بدوره يُشكل تحديا كبيرا لكاتب القصة القصيرة المحترف، الذي نراه على الدوام محاصرا بالتكثيف والاختزال إلى درجة كبيرة، إن تعاطي المكان في ألعاب السرد يجد ضالته في الرواية بشكل كبير، لكن حين يتم الاتكاء عليه في قصة قصيرة فلابد أن هذا قادم من رافدين مهمين: الطبيعة الخاصة التي تفرض نفسها فرضا لهذا المكان، وخصوصية حركة الأفراد فيه واستجلاء مدى ازدواجيتها، وربما تشظيها.

من سيناريو لجريمة محتملة 4 – قريباً من حافة الجسر .. " أنتزع حقيبتي من بين يديه وأسير إلى تلك الروائح الساحرة.. من قال إن المرء بحاجة للخمر حتى يسكر؟؟ تعتريني حالة من السكر الحقيقي. تتلاشى رغباتي في أي شيء سوى ولوج ذاك المكان حتى العمق.. لم يعد يعنيني اقتناء معطف. لست بحاجة لمعطف أصلا. فللمكان دفء أم حانية.. دفء ربيع أزهرت لوزاته وتفتحت ورداته؛ دفء شمس شباطية حميمة ترعى أبناء الأرض وتلفهم بين ذراعيها بحب.. دفء صدر حبيبي (وسام) حين يضمني إليه بحنان فأدس رأسي في حضنه وأتيه في عبقه منتشية انتشاء عميقا.. تطالعنا القبة المذهبة بمنظرها الخلاب "

أزعم أن من أجمل الأشياء التي يتحلى بها المبدع أن يكون صادقا، وأن يكتب دون أن ينظر ولو بطرف خفي لأية إرهاصة نقدية قد تطعن فيما يفعله؛ ولأن الإبداع سابق للنقد عموما، فلا أقل من أن نحلل ونسأل أنفسنا سؤالا مشروعا.. من يراهن أن هذا الوصف متجه للمسجد الأقصى وما حوله من بقعة مُطهرة؟ وعلى الجانب الآخر نسأل .. هل هذا السرد الوصفي الشاعري المُسهب خليق بالقصة القصيرة أن تحتفل به؟

أعترف لهذه القصة بأنها بقدر ما أمتعتني، لكنها أجهدتني كثيرا، وفرضت في كل لحظة أن أقوم لعمل كوب من القهوة ومن ثم أعاود القراءة لها من جديد. فهذه القصة على وجه التحديد، ليست قصة بقدر ما هي القضية تصريحا أو تلميحا، وإن كنت اعترف للقاصة بأنها خالقة الحالة برمتها، فلا أنكر على نفس الدرجة أن القدر العطوف والإلهام العارم كان وراء خروجها على هذه الشاكلة التي خرجت بها، وإن كان الحديث قد سار كالعادة على سياق السيناريو، فلن نقوم بالنظر للمشهدية التي كانت في قمة الغرائبية وهي تتوقف عند مفاصل بعينها كالقدر المحتوم، والذي يناسب قدر هذا الشعب الذي انتخب له التاريخ بكل تداعياته هذه الحالة التي يعيشها بشكل كامل.

إننا حين نحلل أزمة مجتمع من خلال نص أدبي، ندرك بالفعل أن كاتبه قد يتجاوز إشكاليات الأزمة التي قد تبدو اعتيادية، وأنه بالضرورة يتجه لبلورة أدب يتحدث عن أزمات إن لم تكن مصيرية، فهي مُلحة وضاغطة له. لحظة مخاض إبداعه.

إن التحدي الذي يواجه الرغبة الكامنة للكتابة عن تداعيات الأزمة، ومن ثم ربطها بمأساة مجتمع كامل، كان يقف في هذه القصة على المحك فعلا، ما بين السرد الأدبي الفاعل، وبين كتابة تريد أن تنفلت من معنى التقرير الإخباري. لمشهدية يمكن أن نراها بشكل يومي عبر شاشات التلفاز، وهذا المعنى كان حاضرا بقوة أثناء صياغة الأطروحة القصصية التي بدت على هذا النحو، فأشد المعاني إيلاما والتي يمكن استنباطها هنا بسهولة، كان ولا شك المسجد الأقصى، والذي لا يشكل ألم هذا الشعب بذاته، وإنما وجع المجتمع العربي كله. وإذا نجحنا في بسط معطيات التحديد لمفهوم افتقاده، لكان وتبعا لخصوصية الذات الساردة، وللبعد الجغرافي القريب من بقعته المطهرة، لأدركنا أن افتقاده أكثر طعنا لأهل المكان قبل أن يكون طاعنا للقابعين خارجه.

من هنا يمكن القول: إن الوصف السردي المُسهب للمسجد الأقصى والذي انطوى على شاعرية تفوقت على نفسها بالفعل، كانت ثورة وجدان مشتعل، كانت تنوب عن كل من لم تسعفه لغته لأن يعبر عن هذا الافتقاد بمثل هذا التعبير الشفيف والموجع والصادق. كل الأزمات التي يعيشها هذا المجتمع تذوب وتتضاءل أمام هذا المكان الرمز، وإن الكاتبة لو استسلمت- فرضا- لتنحية هذا الوصف، لكانت بالفعل تقدم تقريرا إخباريا معتادا بكل أسف. ومع ذلك، والغريب فعلا، والذي لا أدري تحديدا كيف صاغته الكاتبة، كيف تم ترتيب السياقات السردية السابقة واللاحقة لمنطقة الوصف الذي اتجه إلى هذا المكان. وبالشكل الذي جعل من هذه السياقات محاور لتوضيح متن العنوان الرئيسي إذا جاز التعبير والذي لا يمكن أن يكون سيناريو لجريمة محتملة وحسب، بل الأقصى يتألم، وأهله يتألمون بالتبعية.

ليت "أنوار" تغفر لي، إذا طرحت على ضفاف قصتها هنا تحديا لأي شعب عربي آخر يستخدم مفردة(الجسر) بنفس الكثافة التي يستخدمها الشعب الفلسطيني.
إن عبقرية هذه القصة أن الآخر فيها يسخر واقعيا من" أنوار سرحان"، على ضوء بعض الأطروحات القصصية الأخرى، التي تبحث من خلالها عن صورة من صور التعايش الآمن.. من سيناريو لجريمة محتملة 9- هذه أغنيتي" ...
{ وأنا التي انتظرت بلهيب شوقي هذا اليوم الذي نتباهى به بنجاح مبادرة مشروعنا للتعايش العربي اليهودي.. و ياما تصورتني أوزع ابتساماتي كعطايا كريم، إذ أعتز بأن الحلم قد تحقق وأن الأرض تتسع لكلينا مادمنا مؤمنين بذلك}

أنها هنا في حالة صدام محتدم، تفتيش عند المعابر، مراقبة الهويات، حصار للمسجد، تحرش برواده، مواجهات دامية، وجيوش تطلق نيرانها لتفريق الناس دون أدنى رحمة ولو اضطرت لقتلهم. إن علاقة الساردة هنا مع الآخر علاقة نفي، لابد لواحد منهما أن ينفي الآخر، ولن يلتقيا، فلا يوجد ثمة منطقة محايدة تسمح. لا بالجوار ولا التوازي، إن القصة تفجر دلالات إننا نقيضان، ومادمنا كذلك فالقدر المشترك أن نبقى في صراع، هدفه النهائي فناء واحدٍ من المعسكرين.

لا يمكن، وربما يدخل في إطار الاستحالة أن يتحوَّل السرد لوقائع معاشة فعلا وواضحة وجلية إلى رموز تعكس دلاليا مأساة هذا المجتمع الذي تنتمي لها الكاتبة.
في حقيقة الأمر، أشهد إنني لست منحازا لأنوار سرحان، وعندي بعض التحفظات على شكل المعالجة القصصية عندها، لكن دائما ما أحاول النظر للمناطق المضيئة في أي إبداع بغض النظر عن تحري الموضوعية التي أحرص عليها ما استطعت، لذا من العدل بمكان أن نشير إلى أشياء إن لم تكن مبدعتنا واعية بها، فلا أقل من أن تنظر لها وتحاول تطويرها إن أمكن.
إن أزمة الشعب الفلسطيني تكاد أن تكون قضية تراثية، وعندما يتفاعل معها الأدب، فهو لا يميط اللثام عنها ومن ثم يوضحها، لأنها واضحة بالقوة والفعل، وإنما تخضع بكل أريحية للمبدع الحقيقي من منطلق طرائق المعالجة التي تتميز بالأصالة والتفرد.
ربما يسأل من يطالع هذه السطور. هل هذا مدح أم قدح ؟ وقبل أن أجيب على هذا السؤال سوف أعرض عليكم تلخيصا ينتمي لعوارض جنوني المعتاد عند قراءة الأدب..

{ أم أحمد/ أشبه "بشجرة زيتون" ضاربة بجذورها في رحم الأرض/ فقدت ابنها إسماعيل في أحد المظاهرات/ لم تستوعب موته بعد/ أسير مع النازلين من الحافلة/ يستوقفنا شرطي يسأل عن بطاقة هويتي/ شيخ وقور راح يحكي عن ذاك المكان الرائع/ عن بطل فارس حرره يوما/ صوت طلقات نارية/ أم أحمد تصرخ: إسماعيل مات}.

مهما اختلف أو اتفق معي البعض حول هذا التلخيص أو شعروا أنه غير متسق مع القصة كعمل متكامل، لكن من أكثر المعاني التي أحرص عليها من خلاله التأكيد على شكل رؤية الكاتبة لحقيقة هذا الصراع، فالواقع الفلسطيني الصارخ بوضوح مأساته، لا يمكن أن يستحيل في تلك المسافة الهلامية بين الرغبة في الكتابة وفعل الكتابة إلى مفاصل رمزية، كل مفصل فيها يفجر قضية خاصة، تتحد فيما بينها كي تبلور رؤية الكاتبة التي تجلس خلف سردها في إطار من الإحاطة الكاملة لأبعاد هذه القضية، واقعية المأساة قد تمنحني اليقين المبدئي أن(أم أحمد) شخصية واقعية، بل ومتكررة الوجود في المناخ العام لهذا المجتمع، لكن أن ترفض في استماتة الاعتراف بموت ابنها، فهي حتما تتجاوز على محك الرمز كونها أما حقيقية، بل هي القضية الفلسطينية التي ترفض أن تعترف بموت هذا الشعب وعجزه عن المقاومة، وما كان تشبيهها بشجرة زيتون ضاربة بجذورها سوى للالتفاف حول المعنى الرمزي لأمومتها.
ربما وردت في هذه القصة ذلة لسان عبقرية، ولسوف ابتهج فعلا إذا تيقنت من أنها مقصودة، فلقد وضعتنا "أنوار" في إشكالية غريبة، فـ استوقفنا كانت تستوجب بطاقات هويتنا، فلِم جاءت بطاقة هويتي؟
إذا اعتبرت- مثلا- أن الشعب الفلسطيني كله كان نازلا من هذه الحافلة، فلا أقل من الاعتراف المبدئي بأن ياء المتكلم( في هويتي) تعبير جدا مهم عن خصوصية الذات الساردة، فالعدو لم يكتفِ بنفينا فقط، وإنما بالحرص على تشرذمنا؛ لأن مضامين الإحالة بناء على هذه الصياغة النحوية قد تمنحني يقينا خاصا بأن السؤال عن الهوية لم يكن مطروحا لكل النازلين من الحافلة. ربما كل الوجوه العربية تتشابه، لكن قيمة الرمز في الحافلة هو بالضرورة إشارة جغرافية للمكان الذي قدمت منه، فاستوجب هذا من قبل الشرطي السؤال عن الهوية ربما، إذن يبقى السؤال. أين يذهب مرموز الإقليم الجغرافي إذا كان السؤال عن الهوية لم يوجه لكل ركاب الحافلة حال نزولهم على محك الدلالة؟

ربما سيقول أصحاب القراءات البريئة إن الشرطي كان يستطيع أن يتجاوزها، ولكنه سألها عن الهوية حيث رأى ملامحها ممتعضة من هذا الإجراء، أو أن الحديث الدائر مع أم أحمد قد دفع به للارتياب في أمريهما كاحتياط أمني، لن اعترض عموما على هذا التأويل، لكن أزعم أن الكاتبة وهي تصوغ هذا المعنى كانت تشير إلى حقيقتين . أن مأساة النفي والمنع والحظر التي تحيط بالمسجد الأقصى تجاوزت جغرافيا بكثير من هم واقعيا فلسطينيو الضفة أو كانوا من عرب 48 ، فنحن عرب إسرائيل نُسأل عن هويتنا، ولسنا محسوبين عليهم، لم ننس هذه الحقيقة والدليل أن الخمار الذي ترتديه هو من جلب هذا الإجراء المجحف عبر الجسر. وحقيقة أخرى أكثر دلالة، أن الوطن الحافلة يحوي الجميع، هي فقط اختلافات تسبب فيها اختلاف المقاعد. ربما بعد هذا العرض سيكتشف من يطالع هذه السطور أنه ليس قدحا أبدا، ولا ينبغي لي القدح في الفطرة المستقيمة والعفوية الأدبية عندما تصوغ أطروحة قصصية لقضية شعب كامل بشكل يتجاوز بها المعتاد والمألوف.

.

التعليقات