تصنيع الخرافة: المثقف العربي في عصر الحقائق الافتراضية/ د.علي سليمان

-

تصنيع الخرافة: المثقف العربي في عصر الحقائق الافتراضية/ د.علي سليمان
من العجائب الكثيرة في تاريخنا الحديث تلك المفارقة التي جعلت من احد اكبر انهياراتنا وتردينا نقلة نوعية في وعي الاخر فكر مابعد الحداثة في أمريكا واوروبا ان يختبر من خلالها ادواته ويعرض مفردات خطابه بواسطتها لتجربة حاسمة.

حيث أنهت الحرب بالنسبة لذلك الفكر وبشكل حاسم مرحلة حضارية كاملة وأدخلته في مغامرة جديدة من البحث عن خطاب يسعى للتخلص من ارث عصر التنوير الذي افضى الى الحداثة الاوروبية، وبعد الحرب وربما بسببها كان على المثقف الغربي ان يواجه وبشكل عاجل عالما جديداً تغير فيه مفهوم الحقيقة واكتمل موت الاشياء: الحقيقة والتاريخ والنص والمؤلف... لقد وضعت تلك الحرب المثقف الغربي امام حقيقة هي انه لم يعد هناك حقيقة وان الواقع لم يعد سوى ترميزات ووجودات افتراضية وتبادلية لا يمكن ادراكها الا من خلال الوسائط المتعددة لوسائل الاتصال الحديثة. وفي هذا السياق تم ادراك حقيقة جوهرية مفادها ان القوة والسلطة المطلقة ستكون لمن يمتلك سلاح المعلومات والوسائل الاعلامية واصبحت مقولة ان الاعلام هو الذي يصنع الواقع و الحقيقة وليس العكس في نظر الكثيرين في اوروبا وامريكا بمثابة المسلمات. وهكذا اخذ اصحاب القوة والسلطة اعادة تشكيل العالم ليتناسب مع الحقائق الجديدة. ‏

اما على الجهة العربية فكان الامر مختلفاً ليس هناك اختلاف على ان تلك الحرب كانت ضربة موجعة لاتقل في الدمار والتهتك الذي احدثته في الجسد العربي سياسياً وثقافياً واجتماعياً عن ارث هزائم النكبة والنكسة واحتلام اسرائيل لبيروت بل تميزت بأنها اطاحت بورقة التوت التي كانت تستر العورة العربية، وتحت وطأة العري الكامل والعار كان لابد من استنفاد اخر ماتبقى من اوهام المكابرة قبل البحث عن لغة جديدة، وباختصار كان الجميع يحس بأنه مقدم ليس على نهاية قرن بل على نهاية نموذج كما يقول محمد بنيس.. ‏

اذا كان الخطاب النقدي العربي قد احس بنهاية النموذج الذي صاغ الحياة العربية على كل مستوياتها لعقود طويلة، واذا كان قد بدأ عملية البحث عن لغة جديدة، فإن الخطاب السياسي لم يستطع فعل شيء سوى تعميق تلك الهوة الابدية بين الثقافي والسياسي في الحياة العربية وذلك عبر عجزه او رفضه استيعاب ما يجري. ‏

ومرة اخرى كان على الفلسطيني ان يعيد صياغة اسئلة التحول وان يتفرد بمهمة الارتقاء بالسياسي الى ملحمية الفعل اليومي ان يترك للثقافي فرصة النظر في المرآة واكتشاف مدى العري والتهتك في جسده من جهة، وان يتيح له فرصة استشراف إمكانية التحول والمغايرة من جهة اخرى، بدا الفعل الفلسطيني انه الوحيد القادر على النهوض بمهمة افتتاح القرن الحادي والعشرين وبإطلاق اسئلته على مستوى الفعل. وبدا أنه الوحيد المرشح لطبع انعطافة القرن الجديد بأسئلة نهضوية جديدة قد تعيد صياغة ما أجهض في انعطافة القرن الماضي من اسئلة النهضة العربية الاولى هكذا بدا الامر للكثيرين الذين فاجأهم أيلول الاول من القرن الحادي والعشرين مرة اخرى بفرصة نادرة لاختبار امكانية الفعل والانجاز انطلاقاً من البوابة الفلسطينية بعد ان بدت الابواب الاخرى موصدة تماماً. هكذا بدا الامر قبل ان يأتي ايلول الثاني من القرن الجديد بموعد مع صدام الجهالات.‏

هكذا يعنون ادوارد سعيد المرحلة.. انه صدام الجهالات وليس« صدام الحضارات» ولعل ادوارد سعيد لايتصدى هنا لخرافة صدام الحضارات فقط بل انه يشير الى التحدي الكبير الذي يواجه المثقف العربي في هذه المرحلة.. انه تحدي التصدي للخرافة لقد اتاحت احداث الحادي عشر من ايلول الارهابية فرصة ذهبية لنفض الغبار عن الخرافات الامريكية من مثل « صدام الحضارات» و«نهاية التاريخ» وهكذا يبدو ان المثقف العربي الان مطالب تاريخياً ليس بمحاربة الخرافة في داخل المجتمع العربي فقط، كما كان الحال دائماً، بل بمحاربة نوع حديث من الخرافة على جبهة خارجية. ‏

لقد اظهرت تداعيات احداث الايلوليين كم ان المجتمعات العربية باتت ضحية العفن والخرافة، عنف الداخل وخرافاته وعنف الخارج وخرافاته! وكأن قدر المجتمعات العربية ان تكون ساحة صدام الخرافات. فهل يمكن للمثقف العربي العقلاني ان يواجه هذا التحدي؟ ‏

ولكن يكف نواجه الخرافة ؟ ليست آلية تصنيع الخرافة في عالمنا المعاصر بظاهرة بسيطة. انها من اكثر الظواهر تعقيداً وخطورة في تاريخ تطور البشرية ولنفهم مدى خطورتها وتعقيدها يجب الانتباه الى حقيقة تغيب عن الكثيرين وهي ان الية تصنيع الخرافة هي في جوهرها بالنسبة لصناع القرار الكونيين الية صناعة الواقع نفسه، ان فكرة ان الاعلام هو الذي يصنع الواقع وان هذا الواقع ليس الا منظومة المعلومات والحقائق الافتراضية وعلاقتها بها هي فكرة في منتهى الجدية بالنسبة للمنظرين والمفكرين الذي يرسمون استراتيجيات القوى العظمى في عالمنا. هؤلاء هم صانعو الخرافة التي هي في جوهرها الحقيقة الافتراضية التي يجب على العالم كله ان يعيشها دونما اي خيار اخر. وهكذا فإن اي محاولة لرفض تلك الحقيقة هي في عالمنا كفر بالحقيقة وبالواقع وخروج عن سنة الكون والطبيعة. هذه هي الالية التي صاغت العبارة الشهيرة في التاريخ الامريكي المعاصر « اما معنا او ضدنا». ‏

مرة اخرى، كيف يمكن مواجهة تصنيع الخرافة؟.. جورج بوش نبي الديمقراطية وحارسها الامين في العالم، سقوط بغداد فاتحة عصر تنوير جديد في عالم مظلم، دماء مئات الالاف من الاطفال في العراق قربان على البشرية تقدمه لإله الديمقراطية الآتي عبر الاطلسي، سورية هي الشيطان الجديد الذي يعيث فساداً في جنة الشرق الاوسط التي ترفرف في سمائها ملائكة السلام، وتجري في ربوعها انهار العسل، العالم فضاء من العدالة مكرس للقصاص من قتلة الحريري! خرافات خرافات!.. ام هي كلمات كلمات كما قال هاملت! ولكن للاسف لم يعد كافياً ان نكذب ولن يكون تأمل بطل شكسبير، ولاتردده تجاه الخرافات التي تحكم عالمنا كافياً لم يعد بالامكان مواجهة الخرافة اخلاقيا فقط. فليس الامر هو تناول الموضوع من جهة انه حقيقة ام كذب فقط، بل يجب تناول الخرافة من جهة قدرتها على تشكيل الواقع السياسي عملياً. ومن هنا لاتكفي قناعتنا او قناعة الاخرين بزيف الخرافة لان هذا بديهي، بل يجب استخدام ادوات لتفكيك الخرافة و،من ثم ابطال وهم تماهيها مع الواقع وصولاً الى هدف تعطيل عملها في صياغة الواقع والوعي. لابد من مواجهة هذه المسؤولية.. على المثقف العربي ان يتصدى لمهمة اكتشاف وتجريب ادوات فعالة لقراءة الخرافة ثم تفكيكها. ‏

هل نضيف ونكرر ان على الاعلام العربي ان يواجه هذه المسؤولية ايضاً. هل يستطيع الاعلام العربي قراءة خرافات عصرنا والعمل على تفكيكها وابطال هم تماهيها مع الواقع؟ أم انه سيستمر في عملية اعادة انتاجها بسبب جهله او تجاهله لالية عملها في حياتنا.

التعليقات