اللد والرملة: الحياة الثقافية في ظل التحديات

رغم ارتباط فلسطينيي اللد والرملة بمدينتيهما التاريخيتين، إلاّ أنّ الواقع المُعاش هُناك يُثير القلق ليس سياسيًا فحسب، وإنما ثقافيًا أيضًا. فلا حياة ثقافية باستثناء بعض المشاريع، لا تزال في طورِ البناء، أو بعض المؤسسات المحلية التي تحتاجُ لدعمٍ مادي كي لا تُضطر إلى الإغلاق. أما المثقفون والفنانون في البلدتين فلم يجعلوا الحالة البائسة في المدينة، تؤثِر على مشاعرهم وحبهم وارتباطهم بالمكان والهوية الفلسطينية، فهم لا يبرحون المكان، مؤمنون أنّ الُحلم الذي طال انتظارهم لغدٍ أفضل، قادم لا محالة، حتى وإن تأخّر. حواراتٍ أُجريت مع المثقفين من مدينتي اللد والرملة تكشف واقعًا وتعرض تطلعاتٍ مستقبلية.

اللد والرملة: الحياة الثقافية في ظل التحديات

رغم ارتباط فلسطينيي اللد والرملة بمدينتيهما التاريخيتين، إلاّ أنّ الواقع المُعاش هُناك يُثير القلق ليس سياسيًا فحسب، وإنما ثقافيًا أيضًا. فلا حياة ثقافية باستثناء بعض المشاريع، لا تزال في طورِ البناء، أو بعض المؤسسات المحلية التي تحتاجُ لدعمٍ مادي كي لا تُضطر إلى الإغلاق.

أما المثقفون والفنانون في البلدتين فلم يجعلوا الحالة البائسة في المدينة، تؤثِر على مشاعرهم وحبهم وارتباطهم بالمكان والهوية الفلسطينية، فهم لا يبرحون المكان، مؤمنون أنّ الُحلم الذي طال انتظارهم لغدٍ أفضل، قادم لا محالة، حتى وإن تأخّر.

حواراتٍ أُجريت مع المثقفين من مدينتي اللد والرملة تكشف واقعًا وتعرض تطلعاتٍ مستقبلية.

الانشغال عن الثقافة بالهم اليومي!
يعزو سكان اللد والرملة حالة الركود في الجانبين الثقافي والفني إلى الوضع الاقتصادي الصعب، الذي يدفع بأهل المدينتين إلى الانشغال بالهم اليومي كتعليم الأبناء والتخلص من البطالة والاحتياج، لتصبح المسائل الثقافية أمرٌ ثانوي.

ويختار الأهل مدرسة أبنائهم وفق إمكانياتهم المادية فالفقراء جدًا يختارون مدارس حكومية (عدد الطلاب في الصف الواحد 40 طالبًا) أما الأهل من أصحاب الدخل المتوسط فما فوق، فيفضلون المدارس الخاصة.

عن التعليم تقول الناشطة بثينة ضبيط (الرملة، مهندسة معمارية): "المدارس الخاصة في الرملة (بالأساس) واللد، تتصف بمستوى تعليمي رائع أفضل بكثير من التعليم الحكومي، لكنّ القلّة هم مَن يستطيعون تسجيل أبنائهم فيها، بسبب الأوضاع المادية الصعبة، لكن على العموم ألمسُ تغيرًا واهتمامًا أكبر لسكان اللد والرملة بتعليم أبنائهم ونسبة الأكاديميين بدأت تزداد، فالشهادة الأكاديمية قادرة على تغيير المستوى المعيشي في المنطقة المُحاصرة".

ويُضطر الأهالي في كثيرٍ من الأحيان إلى تحديد رغبات أبنائهم، الذين يريدون الانتساب إلى فعالياتٍ ونشاطاتٍ غير منهجية مسائية، لأنّ "العين بصيرة واليد قصيرة"، لكن في السنوات الأخيرة تمّ تخصيص مكتبتين في البلدتين (فيهما زاوية للعرب)، علّها تسُد بعض الاحتياج الثقافي.

وتؤكّد ضبيط: "مجتمعنا يعيشُ حالة إحباط في ظل العنصرية على جميع المستويات، وإن سألتهم عن المشهد الثقافي تريْنهم يتطلعون إلى الأفق البعيد، كأننا نتحدث عن شيءٍ غريب، هؤلاء يبحثون عن الأساسيات، عن لقمة العيش، والحياة الحُرةّ، أما المسائل الثقافية وهِي أيضًا من الأساسيات في مجتمعات حضارية، فإنّ مجتمعنا هُنا لا يزالَ يسيرُ بصعوبة نحوها".

المراكز الجماهيرية... تتعالى على العرب!
يتحدث فلسطينو اللد عن مراكز جماهيرية كانت فاعلة قبل عدة سنوات، لكنّ المؤسسة الإسرائيلية توقفت عن تقديم الخدمات بحججٍ مختلفة، وفي الوقت ذاته قامت بإقامة مركزٍ جماهيري يخدُم المهاجرين الأثيوبيين، المقيمون في اللد، حيثُ تلبي احتياجاتهم المختلفة.

أما في مدينة الرملة، فتمّ مؤخرًا تفعيل المركز الجماهيري مِن قبل مسؤولٍ عربي، وتُقام نشاطات الثقافية مُختلفة، لكنّ المؤسسة الرسمية تفرض سقفًا سياسيًا معينًا حيثُ يتدخل رئيس البلدية (يوئيل ليفي) في تحديد حُرية العربي، خاصة في مسألة الهوية والإنتماء الفلسطيني.

غياب مؤسسات المجتمع المدني!
رغم وجود عددٍ كبير من الجمعيات الأهلية في فلسطين المحتلة، لكنّ هذه الجمعيات في العادة ما تختار مُدنًا مركزية كحيفا، الناصرة، تل أبيب، عكا، مقرًا لها، لكنها في اللد والرملة غيرُ مُنتشرة، اللهم بنشاطاتٍ محدّدة، تنتهي بانتهاء المشاريع، وحتى الجمعيات التي كانت يومًا ما، تتخذ من اللد والرملة مقرًا لها، تركتها. وفي المدينتين نقصٌ هائل في النشاطات التوعوية والاجتماعية، بينما تنشط في السنوات الأخيرة ظاهرة الجمعيات الدينية، كالجمعية الأرثوذكسية واللاتينية وجمعية الهدى وساهمت هذه الجمعيات في رفع نسبة الوعي للعرب.

لأول مرّة: مسرح عربي في الرملة!
في اللد والرملة إهمالٌ كبيرٍ، ساهمت المؤسسة الرسمية في فرضه، فمِن أربعة دورٍ للسينما كانت قبل أعوامٍ خلت، إلى عروضٍ مدرسية بسيطة، واستئجار قاعاتٍ بمبالغ باهظة من أجلِ استقبالِ فرقٍ فنية وعروضٍ مسرحية في قاعاتٍ في المدينتين، لكنّها تجري في أوقاتٍ مُتباعدة، وتظلُ حُلمًا يُلبيه وجود "مسرح السرايا" في مدينة يافا القريبة، أو مسارح في شمالِ فلسطين، أو في رام الله، بينما يتعطشُ أبناءُ المدينتين إلى مسرحٍ يثريه فنيًا.
حتى بدأ المسرح الجماهيري العربي في مدينة الرملة، يتحضّر لإقامة فعالياتٍ فنية وعروضٍ مسرحية خدمةً لأربعة آلاف طالب عربي، ضمن السلة الثقافية المؤسساتية، بينما تركِّز الكاتبة رانية مرجية نشاطات المسرح، أما المدير الفني للمسرح الجماهيري فهو الممثل والمخرج الفلسطيني أديب جهشان.

وتقول مرجية: "طلابنا وشبابنا متعطشون لمسرح يعمل معهم ويكونون جزءً منه، ستتطرق الأعمال إلى الواقع في المدينتين المختلطتين المحاصرتين (اللد والرملة)، سيُساهم هذا المسرح في تغيير الواقع الصعب لجيلٍ جديد من أبنائنا، لم يعرفوا طعمَ المسرحِ والحرية مِن قبل".

وتعترف مرجية: "نعم، قد يتدخّل رئيس بلدية الرملة في الأعمال الفنية التي تُعرَّض إن لم ترُق له، لكننا نفعل ما باستطاعتنا من أجل الحفاظ على طابعنا الفلسطيني الثقافي، دون أن نخسَر هذا الإنجاز".

جمعية إطار–معهد موسيقي  البقاء!إ
نه أولُ معهدٍ موسيقي عربي في منطقة المركز، وقد تأسس عام 2004، في مدينة الرملة، التي تبعد 5 كم عن مدينة اللد و20 كم عن مدينة يافا الفلسطينية.

وهي فكرة المربي الراحل فائق عازر، الذي أسس المعهد بمشاركة نجله فؤاد ومجموعة من المدرسين المتقاعدين من منطقتي الرملة واللد إضافة إلى مجموعة من الشباب الفلسطيني المحتمّس، من أبناء المدينتين.

ويدرس في المعهد حاليًا 70 طالبًا من الأطفال والأجيال المبكرة، حيثُ يتدربون على الآلات الموسيقية الشرقية والغربية إضافة إلى دورات الفنون في الرسم والأشغال اليدوية.

ويقول مدير المعهد الشاب فادي عازر: "نتعطش هُنا في الرملة واللد لثقافتنا وتراثنا الفلسطيني، حيث كان يلجأ المعنيون منا إلى المؤسسات الثقافية في المدينة، لكنها لا تخاطبنا كعرب فلسطينيين، فهي خالية ومجردة من أية حضارة وتراث فلسطيني شرقي ولا نشعر بانتمائنا إليه، من هنا كانت الحاجة لمعهدٍ موسيقي في المنطقة يعزز انتماءنا ويجذرنا في أرضنا".

هذا الحماس الذي نستشعره من مدير معهد إطار، لا يجعله ينسى الصعوبات التي يواجهها المعهد خاصة مع بداية كل عام، فهو كصراع البقاء، في ظل الضغوطات المادية الكبيرة، "فهناك الكثير المشاريع الفنية والعروض الموسيقية ومعارض الرسم التي نُقيمها، وسنواصل تنفيذها، لكنها مُكلفة للغاية، بينما يبقى الدعم المادي محدودًا، نتلقاه من أصحاب مصالح وأفراد مهتمين من مدينة الرملة، وهي مبالغ بالكاد تُسهم في دفع تكاليف مُدرّسي الموسيقى في المعهد". مُضيفًا: "لكننا لن تخلى عن مشروعنا الكبير، في ظل النجاحات الكبيرة التي حققتها عروضنا الموسيقية خلال الأعوام الماضية".

يرى فادي عازر أنّ الموسيقى عنصرٌ هام في التوعية والتثقيف والتهذيب الإنساني، خاصةً في منطقة خالية من الخدمات، "وحينما ينتمي الأطفال مِن جيل أربع أو خمس سنوات لمعهدٍ تربويٍ موسيقي كهذا، فأنّ الواقع المُعاش في منطقتي اللد والرملة حتمًا سيتغيّر للأفضل".
فرقة دام اللداوية تُسجّل نجاحات رغم التحديات!

بدأت فرقة دام (راب فلسطيني) في العام 1999، وبدأت تحقّق نجاحها بعد عامٍ، مباشرةً بعد هبّة الأقصى في اكتوبر 2000، أطلقت أعضاء الفرقة: تامر وسهيل نفّار ومحمود جريري أغنيتهم "مين إرهابي"، التي انتشرت في الداخل الفلسطيني، وفي العالم عبر الانترنت، وحصلت على ملايين المعجبين.

ومنذ البداية قرّرت الفرقة أن تحمل الهم الفلسطيني وتتطرق إلى الواقع في مدينتهم (اللد)، حيثُ تنتشر المخدرات والفقر والبطالة والتمييز العنصري ضد العرب. ولا يخجَل مؤسس الفرقة تامر نفّار مِن الاعتراف أنّ مدينته "هي أكبر سوق مخدرات في الشرق الأوسط، يمكنك أن تحصيل على ما تريده من الحشيش أو الكوكائين بإشارة من الإصبع".

وخلال حديثنا مع فنان الراب تامر قال: "لا أحب الهروب من واقعي، هُناك نقصٌ وتقصيرٌ وجريمة في بلداتنا العربية، خاصة هُنا في اللد، ولا يُضيرني أنني أقيم في هذه البقعة، وما كان هذا ليمنع انتشاري في الوطن العربي، فحتى لو كنتُ نصراويًا أو حيفاويًا، فإنّ جوازُ سفري الإسرائيلي، المُجبَر بحمله هُو الذي يُحدّد نجاحي في الدول العربية تحديًا، وخيرُ مثالٍ على ذلك أنني أقمتُ 20 عرضًا في نيويورك وعرضٌ واحد في عمّان، وقدمنا 30 عرضًا في امستردام بينما اكتفت مصر مِنا بعرضٍ واحد فقط".

يضيف تامر: "يضايقني في مدينتي التاريخية، أنني لا أجدُ مقهًا بسيطًا أجلس فيه مع زوجتي، بينما يكتفي الشباب بجلسة أرجيلة تجمع الرجال دون نسائهم، عدا مظاهر أشد عنفًا مِما يُمكن استيعابه".

أما محمود جريري فيقول: "نعاني في اللد والرملة من حالةٍ ثقافية شبه معدومة، وما ميزنا إضافة إلى نوعية الغناء الجديدة (الراب والهيب هوب)، أنّنا أخذنا كلماتنا مِن واقع حياتنا. الخالي مِن النوادي والفعاليات التوعوية والفنية، وحتى الأسماء الفنية شحيحة. في هذه الظروف ليسَ لنا مكانٌ نذهب إليه، فالمؤسسات الصهيونية تعمل لصالح اليهود، أما نحنُ الفلسطينيون حاملي الهوية الإسرائيلية، فإننا مُحاصرون داخل أبوابٍ مغلقة، ويجهلُ العالم العربي بواقعنا فيتعامل معنا وكأننا جسمٌ غريب مشكوكٌ بأمره، ووسط هذا الواقع المأساوي، لا نزال نتطلع إلى استقلالٍ ونجاحٍ ثقافي وفني".

يضيف جريري: "أغنية مين إرهابي قوبلت بنقدٍ إسرائيلي كبير، فهم لا يتقبلوننا في شكلنا الحالي، ونحنُ نقف مرفوعي الرأس، يريدوننا مطأطئي الرأس، نكتب كلماتِ حُبٍ لا معنى لها، أما في السياسة والوضع الاجتماعي الصعب فإنهم يصمّون آذانهم تمامًا".

شخصيات مؤثِرة من اللد والرملة!
تميزّت مدينتا اللد والرملة عبر التاريخ، بأسماءٍ لامعة، لكنّ أبرز الأسماء الفلسطينية بعد النكبة، الوزير الفلسطيني الراحل (خليل الوزير- أبو جهاد) ابن مدينة الرملة، والشهيد الراحل جورج حبش (ابنُ مدينة اللد)، وقد حرِصَ أهلُ مدينة اللد على إحياء الذكرى الأربعين للراحل جورج حبش، كرسالة منهم للمجتمع الفلسطيني وللعالم أنّهم لم ولن ينسوا ابنهم البار، الذي هُجّر من وطنه عام 1948، ليعيش لاجئًا، ثم يرحَل بعيدًا عن ترابِ مدينته.

وفي الرملة وُلد  أيضًا الكاتب الصحافي فوزي الأسمر المقيم في استراليا، وأيضًا الروائية دينا سالم حلحل التي زارت مسقط رأسها عام 2010. أما أبرز الفنانين المقيمين في الرملة فهم:  يوسف سلامة ونهاد ضبيط وايلي عامر (فن تشكيلي)، والممثلة المخرجة الشابة ميشلين شمشوم، والفنان سامي فانوس، والممثلة فيفيان كتيلي. واشتهر من اللد كلٌ مِن ابراهيم ساق الله ، والفنانة التشكيلية اميلي عازر وزوجها الراحل فايق عازر.

الآثار التاريخية في اللد والرملة شاهدة على العصر!
يرتبط اللداويون والرملاويون بمعالمهم التاريخية التي تؤكِد على عراقة المكان وتجذره عميقًا في الأرض، فهناك مصبغة الزيتون وخان الحلو وفنادقُ قديمة، الجوامع والمآذن والكنائس والبِركة تحت الأرض، حتى سكةُ الحديد والمطار جزءٌ من تاريخِ المدينتين.

ورغمَ أهمية هذه الآثار وعراقتها لكنّ المؤسسات الصهيونية تتعمّد إهمال هذه المكان، وتُساهِم في تحويلها إلى أوكارٍ لتجارة المخدرات وتعاطي السموم، علمًا أنّ الأطفال لا مكانَ لهم يلعبون فيه إلا هذه الأماكن البعيدة عن الشوارع الرئيسية الخَطِرة.

يقول عبد أبو شحادة من اللد: "على مدار عشرات السنوات تجاهلت السلطات هذه الأماكن التاريخية، وأهملتها، بينما يفتقر الفلسطينيون هُنا إلى الماديات التي لو كان بالمُستطاع لرممنا الأماكن وجعلناها مصدرًا سياحيًا لا يختلف عن مدينة أريحا، وحسنًا أنّ اليهود لم يعثروا في المكان على أيِ معلمٍ مرتبط باليهود، فلو أنهم وجدوا حرفًا مكتوبًا باللغة العبرية، لكانوا سيطروا على المكان وحولوه إلى متحفٍ يساوي الكثير".

التعليقات