31/10/2010 - 11:02

عن يواكيم مبارك، "الإنسان الإستثنائي" / جورج طرابيشي

عن يواكيم مبارك،
ما التقيت الأب يواكيم مبارك سوى مرة واحدة لكنها كانت كافية لأتأكد من أنه، كما يصفه جورج قرم في تقديمه لهذه المنتخبات من كتاباته، «إنسان استثنائي» (الكتاب صادر عن «المكتبة الشرقية» في بيروت، 2004، 568 صفحة).

فالأب يواكيم مبارك (1924ـ1995) كان إنساناً استثنائياً بما يتقنه من لغات عربية وسريانية وفرنسية وانكليزية ولاتينية ويونانية.

وكان إنساناً استثنائياً بحجم ما تركه من مؤلفات، لا سيما الخماسية الانطاكية ـ المارونية في خمسة مجلدات وعشرة أجزاء، والخماسية الإسلامية ـ المسيحية في خمسة مجلدات (ومن عناوينها: القرآن والنقد الغربي، الإسلام والحوار الإسلامي ـ المسيحي، فلسطين والعروبة).

وكان إنساناً استثنائياً بالدور الوظيفي الذي لعبه كسكرتير لكبير المستشرقين الفرنسيين لويس ماسينيون، ثم كمعاون للمستشرق هنري لاوست في مختبر التاريخ المقارن للشرق الإسلامي، وكمدّرس للفلسفة الإسلامية وللاهوت الأديان غير المسيحية في جامعات باريس ولوفان والبلمند، وكرئيس تحرير لعدد من الدوريات مثل «مجلة دراسات إسلامية» و«التقاويم المسيحية ـ الإسلامية» و«ليبانيكا».

وكان إنساناً استثنائياً، على الأخص، بمواقفه. فقد نذر حياته ـ وكتاباته ـ للنضال على جبهات ثلاث قضايا: القضية اللبنانية، والقضية الفلسطينية، وقضية الحوار الإسلامي ـ المسيحي.

فقد كان يواكيم مبارك ـ مستلهماً في ذلك خطى معلمه لويس ماسينيون ـ واحداً من أنشط اللاهوتيين الذين هيأوا لأنشطة مجمع الفاتيكان الثاني وضغطوا باتجاه اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بالاسلام كديانة نبوية وتوحيدية. وكان واحداً ممن ساهموا في صوغ وتطوير مقولة «الأرومة الإبراهيمية» المشتركة للديانات التوحيدية الثلاث، انطلاقاً من أطروحته للدكتوراه في اللاهوت: «إبراهيم في القرآن». فالماثرة الكبرى للإسلام أنه أعطى كتاباً لأمة بلا كتاب، وكسر الاحتكار اليهودي ـ المسيحي للوحي الإلهي، وأدخل «المستضعفين في الأرض» من قلب الجزيرة العربية الى أقاصي آسيا وافريقيا في «الوعد بالخلاص» الذي كان الله التوراتي قد أعطاه لإبراهيم وذريته.

ولكن رغم انتصاره لفكرة «الأرومة الإبراهيمية»، بادر في السنوات الأخيرة من حياته الى انتقادها عندما لاحظ ما طرأ عليها من تحريف واستغلال سياسي بهدف شرعنة احتلال إسرائيل في 1967 للقسم المتبقي من فلسطين، وتأويل وعد الخلاص لإبراهيم بأنه الحق في الاستيلاء على الأرض بالقوة وبإقامة دولة عليها باسم «الحق الإلهي»، وتفسير الإسلام على أنه محض دين «اسماعيلي»، نسبة الى اسماعيل ابن هاجر، أَمَةَ إبراهيم، التي بادرت سارة، زوجته الأولى العاقر، الى طردها مع ابنها حالما حملت، بأعجوبة إلهية، بابنها اسحق.

وكرجل لاهوت ما كان ليواكيم مبارك إلا أن يرحب بالنزعة المسكونية الجديدة للديانات التوحيدية الثلاث من أجل تبادل الاعتراف في ما بينها تحت مظلة الشجرة الإبراهيمية. لكنه يلاحظ كرجل سياسة ايضاً ـ وهذا بالمعنى المثالي لهذه الكلمة بوصفها مرادفاً لتوق الإنسان الى العدل ـ أن التقارب اللاهوتي بين الديانات التوحيدية الثلاث لا يمكن أن يقتصر رمزياً على بناء مشترك لكنيس ومسجد وكنيسة في طور سيناء، بل لا بد أيضاً أن يجد تعبيره الفعلي في تلبية متطلبات العدل لدى الفريق الأكثر معاناة من الظلم في هذا التقارب، أي سكان فلسطين العرب من يهود ومسيحيين ومسلمين معاً.

وقد يستغرب القارئ أن يدرج يواكيم مبارك على هذا النحو اليهود في عداد المظلومين من سكان فلسطين الأصليين، لكن موقفه هذا يتضح حالاً متى ما أدركنا أنه يعتبر أن اليهودية السياسية ـ أي الصهيونية ـ قد الحقت بالروحانية اليهودية أذى لا يقل عن ذاك الذي ألحقته المسيحية السياسية بالروحانية المسيحية من خلال الحروب الصليبية أو الحروب الكولونيالية، أو عن ذاك الذي يلحقه الإسلام السياسي بالروحانية الإسلامية من خلال النموذجين الدولانيين اللذين عايشهما يواكيم مبارك في العقد الأخير من حياته، أي النموذج الإسلاموي السني في أفغانستان والنموذج الإسلاموي الشيعي في إيران، أو أخيراً عن ذاك الذي ألحقته المارونية السياسية بالروحانية المارونية في الحرب اللبنانية الأخيرة.

والواقع أن يواكيم مبارك يمضي الى أبعد من ذلك في نقد انحراف الفكرة الإبراهيمية. فهذه الفكرة، التي رأت النور في الأصل تعبيراً عن إرادة انفتاح للديانات التوحيدية الثلاث على بعضها بعضاً، قد تخفي ايضاً إرادة انغلاق. فهي إذ تستدخل الى «الحَرَم الإبراهيمي» المشترك الديانات النبوية الثلاث، تستبعد منه أيضاً الديانات غير النبوية مثل البوذية أو الهندوسية. ومن هنا يقترح يواكيم مبارك تأويلاً جديداً للمسكونية الإبراهيمية بحيث تغدو مرادفة للأخوة البشرية الكونية وبحيث تتسع لكل تعابير الروحانية الإنسانية، سواء أخذت شكل حب إلهي كما لدى شهيده الحلاج، أم شكل حب لفقراء الأرض كما لدى فرنسيس الأسيزي، أم شكل ديانة لا عنف كما لدى غاندي.

ولعل هذه الإشادة بغاندي برفعه الى مستوى القديس المسيحي أو المتصوف المسلم تنمّ عن كل كراهية يواكيم مبارك للعنف، ولعلاقة العنف بين البشر، وتفسر إدانته الصارمة والمطلقة للحرب اللبنانية التي شكلت التجربة الأكثر مرارة في حياته. فهذا العاشق الكبير للبنان الذي كانه مؤلف الخماسية الإسلامية ـ المسيحية ما آلمه شيء كما آلمه أن يرى لبنان وقد تحول الى ساحة حرب بين أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث: مباشرة بين المسيحيين ـ المسلمين، وبصورة غير مباشرة ـ ولاحقاً مباشرة ـ مع اليهود. ولقد كان تنبأ في نص له كتبه عام 1970 تحت عنوان «المسلمون والمسيحيون واليهود على المحك الفلسطيني» بأن الخطر الذي يتهدد لبنان هو المواجهة - المنذرة بأن تكون وشيكة - بين ثلاث قوى متعادية حتى الموت، ولكن متحالفة بطبيعتها الايديولوجية: انصار اليهودية السياسية المتصهينة في اسرائيل، وانصار الثيوقراطية والحاكمية الالهية في اوساط الاسلام السياسي، وانصار دولة طائفية منفصلة عن محيطها العربي وموضوعة تحت حماية القوة الغربية في اوساط المارونية السياسية.

والحال ان يواكيم مبارك، داعية التجديد اللاهوتي في الكنيسة المارونية، لا يماري في انه لولا الموارنة لما كان لبنان سيكون هو لبنان. ولكن لو صار لبنان ايضاً مارونياً على نحو ما يريده له دعاة المارونية السياسية لكف عن ان يكون لبنان. فلبنان اما ان يكون متعدداً او لا يكون. والغالبية الوحيدة التي تستطيع ان تحكمه ليست غالبية مارونية او سنية او شيعية، بل بالحتم والضرورة غالبية مختلطة. ولقد دفع اللبنانيون غالياً حتى يفهموا هذه الحقيقة. ومع ذلك فان يواكيم مبارك قد فارق هذه الدنيا عام 1995 من دون ان يتأكد من انهم قد فهموها حقاً.

وبديهي ان يواكيم مبارك لا ينكر المسؤولية المباشرة للبنانيين عن الحرب اللبنانية، لكنه يرى ايضاً أن لاسرائيل يداً طولى فيها. فاسرائيل ارادت من اللبنانيين، وتحديداً من الميليشيات التي تولت تدريبها وتسليحها، ان ينوبوا منابها في ايجاد وتطبيق «الحل النهائي» - بالمعنى النازي للكلمة - للمشكل الفلسطيني الذي كانت هي نفسها وراء خلقه في لبنان. ولكن هذا الهدف المعلن كان يخفي هدفاً آخر ابعد مدى ايضاً. فاسرائيل ما كانت تريد تدمير الوجود الفلسطيني في لبنان فحسب، بل كانت تريد تدمير لبنان نفسه، او بتعبير ادق الصيغة اللبنانية. ذلك ان لبنان بصيغته التعددية هو النقيض التام والمباشر لاسرائيل بصيغتها الاثنية - الطائفية الاحادية. وقد يكون لبنان، من بين سائر «دول المواجهة» هو العدو الاصغر لاسرائيل، لكنه هو العدو الاخطر، لأن النموذج الحضاري الذي يمثله، على شوائبه، يطرح علامة استفهام كبرى حول شرعية النموذج الاثني - اللاهوتي الصلف للدولة اليهودية التي اقامها الصهيونيون على فكرة «شعب الله المختار» وحقه «الالهي» في امتلاك «الارض الموعودة». ولهذا اصلاً، وفي الوقت الذي يعتبر فيه يواكيم مبارك ان واحدة من كبرى جرائم العصر هي المحرقة النازية لليهود، فانه لا يتردد في ان يجزم بأن الصهيونيين بإقامتهم الدولة اليهودية على اساس «حقوق وامتيازات ذات طبيعة اثنية - دينية» لم يفعلوا هم ايضاً، شأن الجلاد النازي، سوى ان يقيموا دولة عنصرية. وبهذا المعنى فان لبنان كان ويجب ان يبقى - وهذه وصية يواكيم مبارك الاخيرة - ترياقاً ضد كل دولة تدّعي لنفسها حرمة القداسة وتنسب ذاتها الى ارادة الهية او ميتافيزيقية مفارقة.

التعليقات