07/10/2012 - 01:55

تونس / بيروت حمّود

تونس أنتِ الوحيدة القادرة على إرجاع روحي لي، أنت الوحيدة التي ستفهمين هذا الحضن الذي فقدت، أنتِ الأم والأخت والحبيبة والرفيقة والصديقة، أنتِ الكنز المفقود والمهد الضائع، أنتِ ضالتي ومتاهتي، أنت وجودي ورجوعي وحنيني، أبكيك بين الشموع وروائح اشتريتها من بائعيك، أبكيك الآن كما لمْ أبكِ أحدًا من قبل، لا تقتليني في البعد وتحضري لاغتيالي في القرب، لا تبتاعي لي كفنًا خاطته نساؤك في أزقة باب البحر.

تونس / بيروت حمّود

توطئة للخلاص: العودة دون روح

تونس أنتِ الوحيدة القادرة على إرجاع روحي لي، أنت الوحيدة التي ستفهمين هذا الحضن الذي فقدت، أنتِ الأم والأخت والحبيبة والرفيقة والصديقة، أنتِ الكنز المفقود والمهد الضائع، أنتِ ضالتي ومتاهتي، أنت وجودي ورجوعي وحنيني، أبكيك بين الشموع وروائح اشتريتها من بائعيك، أبكيك الآن كما لمْ أبكِ أحدًا من قبل، لا تقتليني في البعد وتحضري لاغتيالي في القرب، لا تبتاعي لي كفنًا خاطته نساؤك في أزقة باب البحر.

تونس، لا تكوني غيرك، تونس، كفي حصارك عني وأبعدي سكاكينك عن نخاعي كي لا أغرم بسواكِ. هذا كله هدية لكِ كي يصير النص قريبًا من روحي التي تركتها في أزقة سيدي بوسعيد، وبين حانات المرسى، وعلى أطراف شارع الحبيب بورقيبة.

مسلك آخر، بعد العودة...

أولى ساعات الصباح، يوم الإثنين، السابع عشر من أيلول، العام 2012. ساعة بعد هبوط الطائرة التركية في مطار اللد والقادمة بنا من إسطنبول، بعد ست ساعات من عودتها بنا من تونس.

سأل شاب يهودي في السابعة والعشرين، أو أكثر بقليل، عندما دخلت بنا السرفيس إلى إحدى ضواحي حيفا، بناءً على طلب زوج يهودي في السبعينات بإيصاله وزوجته الشيباء إلى مدخل شقتهما، "لماذا أدخلونا في متاهات الضواحي الحيفاويَّةِ؟ كان عليك أيها السائق أن تنزلهم في أوّلِ الشارع ليكملا طريقهما إلى البيت وحدهما.. أنا لست مضطرًا - ولا هؤلاء الركاب أيَضًا- أن نصل متأخرين إلى بيوتنا لأن حضرة العجوزين لا يريدان إكمال الطريق على أقدامهما.. سخف! هراء!"

نظرت من شباك السرفيس وتنهدت؛ إنه شاب يهودي قضى زمنًا في الخدمة العسكرية، لا بد أنه قتل من الأطفال والأمهات والمقاومين رجالًا ونساءً ما يؤهله ليكون جنرالاً، أو أعلى بقليل، يا للوقاحة! لا يريد أن يكمل ما بدأه العجوزان، إنه يريد أن يمحو ما تبقى منّا عن بكرة أبيه، لا يعجبه ما بدأ به أجداده، ربما يتساءل بينه وبين نفسه أسئلة استنكارية  بنكهة المجاز عما دفع بأجداده إلى ترك ما تبقى من الفلسطينيين في الداخل دون قتل أو تهجير؟ لماذا لم يكملوا التطهير العرقي الذي بدأوه؟ لماذا تبقى من هذه الأرض ما ينطق بأنه عربي؟ يا للوقاحة.. يا للوقاحة، يقول إنه ليس مضطرًا لإكمال الطريق معهما.. يريد أن يسلك مسلكًا آخر!

أول الهوى.. تونس

إن الارتباك الذي أحسسته في مطار تونس ظهر واضحًا على وجنتي وحركاتي العابثة، بان على رأسي المطأطئ وقلبي الخافق بلا توقف، كانت حركات يديّ تشير إلى أنني أُهرّب سلاحًا أو حشيشًا على أقل تقدير.. الرهبة التي سرت في أوداجي منعتني من مبادلة موظف الجمارك الابتسامة التي أطلقها لي. لمْ أستطع أن أستنشق من هواء تونس الأول ولو قليلاً.. كان جواز السفر الأزرق في يدي يرتجف ويرتجف قلبي معه.. شارفت دموعي على الانطلاق..

أشار ضابط الحدود إليّ بالتقدم وعن بعد متر، أو أقل، سأل:

- من أيّ بلد حضرتك؟

أجبته بثقة:

- فلسطين.. أنا من فلسطين.. !

- أهلا وسهلاً .. أهلاً وسهلاً بكل أهل فلسطين.. من أي بلد في فلسطين؟

- من بلد صغيرة بالجليل اسمها مجد الكروم تابعة لقضاء عكا!

- أهلاً وسهلا .. نورّت تونس.

سلمته الجواز الأزرق واستدركت:

- إحنا بفلسطين الـ 48 نحمل جواز سفر إسرائيلي غصبًا عنا.. إحنا الأصل بفلسطين هني يلي احتلونا وحملونا هويتهم وجنسيتهم.. ما كان في قدامنا خيار آخر.. تاريخ طويل.. نحنا ما بنحبهن ولا هني بحبونا، نحنا مضطرين نحمله للتنقل وهذا الجواز ما بشرف الغبرة يلي بتعلق بأقدامنا.

- أهلا وسهلاً.. أنتم الأصل والصمود أنتم الفخر، تفضلي.. لا حاجة للختم على جوازك!

ابتسم الضابط.. ابتسم ابتسامة بريئة لا تشبه أبدًا ابتسامات ضباط الحدود في الدول العربية الأخرى.. هذه تونس!

يداي على خدي غير مصدّقة، أجرّ حقيبة الفرحة.

قليل من الكلام المرح عن الصداقة والحياة، عن المفاجأة والانتظار، عن المنفى والوطن، عن الحب والحرب، عن كل شيء إلا عنّا.. فقدنا الكيان فجأة، فقدنا أعضاءنا وحواسنا، فقدنا رغبتنا في الحياة التي سبقت..

فلسطين تتدلى من كوفية على جسدي كخصلات كرز في سفوح هضبة الجولان.. يأتي النادل يسترق الكلام مع صديقتي عني؛ عن كوفيتي، كوفيتها، ويجبرنا على التعهد بأن نعطيه إياها عندما نعود! ومن أين سنعود؟ هذه فلسطين هنا في تونس، ولا فلسطين أخرى بعدها.

مهبطنا الأول: نابل

خرجنا من المطار غير مصدقين أننا صِرنا في تونس، كان الاتجاه شمالاً نحو نابل، ولنابل تراث عريق وحضارة وتاريخ من زمن الرومان، يمتد اسمه نحو نابلس الفلسطينية، ولينا أولى الشهيدات في الانتفاضة الأولى. يسرقنا المكان بطريقة البناء الأندلسية؛ المشربيات والهواء الأكثر والضوء الأقل، يسرقنا بحره وحب سكان المكان للحريق والفلفل.

كان مهبطنا في وزراة التعليم -المركز الجهوي كما يسمونه بالتونسية-  حيث كان مؤتمر الشباب القومي باستضافة الدولة، وحيث اجتمعت شظايا الوطن العربي المفكك لتعيد صياغة الفكرة في بوتقة الزمن، وتُصر أن لا حدّ يباعدنا ولا دين يفرقنا. الأصدقاء والشباب المناضلون الثائرون من كل أرجاء الوطن جاؤوا، عانقنا من تعرفنا إليهم سابقًا في المغرب ومصر، وتبادلنا بشكل سريع وموجز ذكرياتنا السابقة وتساءل الجميع عن راوي...

راوي في السجن، راوي غصتنا، تمتد عيناه لمقابلة النجوم بعد ثلاث سنوات من الانقطاع.. ليس فرحًا بكل تأكيد، لكنه راضٍ وعزمه لا ينقطع، وإصراره الأكيد على الفكرة يمده بالصبر، وإنه ليشتاق إليكم أيها الشباب، وأنتم أيها المغربيون يشتاق إليكم بشكل خاص، وإلى أغانيكم الجميلة وتراثكم.. هكذا كانت إجابتنا.

وغصصت ببكاء حجري في المقلتين وتذرعت بالجوع فتركتهم وخرجت لآكل.

كفاتجي؟!

- يسمونها الكفتاجي!

هكذا أجابت البائعة في الكشك عندما سألت مشيرة بإصبعي نحو أكلة تونسية.

ضحكت.. ثم سألت:

- ما هو الكفتاجي؟

- عظم مفروم مع تونة وسلاطة مشوية..

- إيه ده إيه ده يا ختي إنتي حتأكليني عظم؟!

قهقهت بصوت عالٍ على لهجتي المصرية المصطنعة وهرولت نحو مطعم غربي تناولت سندويشة هامبرغر وخرجت!

بعد أيام فهمت، متأخرًا، أنّ العظم هو البيض، لكن ذلك لم يكن ليغيّر قراري.

البوسة، الطائفة والقات

كان هذا الخليط من الثقافة، والسياسة، والتنظيم، والسياحة، والاجتماعيات في المخيم رائعًا، وكان تبادل الخبرات والتجارب ومناقشة المواضيع المتنوعة جميلاً ومحفزًا، وكذلك مخالطة شباب كانوا في الميدان وقت الثورات، حتّى أن بعضهم كان جريح ثورة بانت الجروح على جمجمته وساعده؛ وكان أجمل من ذلك أن نضحك على طريقة التظاهر، فشباب المغرب كانوا وقت المظاهرات يتبعون طريقة غريبة ليعلقوا مع الأمن، حيث كان الشباب كما قالوا لنا يقفون على بعد أمتار من الشرطة ويطلقون صيحات مثل "أعطيني بوسة.. أعطيني بوسة"، فيعتقد الأمن بأن الشارع سينقلب إلى بيت دعارة ويهرولن بالهروات نحو المتظاهرين حيث ينفجر الموقف.. وشاب لبنان كانوا يصرخون في وجه الأمن "شو طائفتك؟ ...لبناني"، شباب اليمن كانوا الأكثر غرابة، من يصدق أن القات كان مصدر الهام وإصرار على مواصلة الثورة والمبيت في الخيام لأوقات طويلة دون نوم؟! إنه الحشيش اليمني المنشط ... صدق أو لا تصدق.

سوريا لمْ تكن حاضرة بشبانها بسبب الأزمة التي تمر بها، وكنّا حزينين جدًا لأننا لم نلتقِ غير وجه واحد من سوريا ولا يمثلها بالمطلق، إنه رجائي الناصري "المثقف" المعارض الذي أجاب بكل وقاحة عندما سألته عن قيمة الاستقلال الوطني من اجتماعه مع المخابرات الأمريكية في مؤتمر البحر الميت، وعن إجابته لمقدمة برنامج في قناة الجديد اللبنانية عن سؤالها حول دعم عسكري إسرائيلي؛ أجاب بأن حصارًا إعلاميًا على سوريا وليس لديه مانع أن يقوم الأمريكيون بإيصال صوت "الثورة"، وعن الدعم العسكري الإسرائيلي أجاب بالوقاحة نفسها.

كلّ الكرامة

كانت إلى جانبنا في المؤتمر فرقة الكرامة التونسية، لا يعزفون لحنًا حزينًا وأغان ثورية لفلسطين فقط، بل يسمون بناتهم بأسماء مدن فلسطين (يافا، ناصرة، حيفا، كرامة، وعزة).. يحبون فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، ومستعدون للموت من أجل كرامتها..

ذات ليلة ونحن نغني لفلسطين، وحين كان برفقتنا أنور النجمي، والد الشهيد بليغ النجمي، وقفت بفرح وقلت: كلما نظرت في عيونكم رأيت فلسطين أقرب، رأيت الطريق إلى التحرير يمر عبر قلبوكم الممتشقة ورصاص شهيقكم المتواصل وأمنيتكم في معانقتها.. وردوا ببكاء ممض محرق جميعهم هؤلاء الحالمون بمعانقة ترابها.

في نهاية المؤتمر أقمنا حفلا اختتاميًا في مدينة الحمامات التونسية، وهي مدينة  من أجمل المُدن في شمال تونس، وهناك وزعت شهادات وجوائز على المشاركين المتميزين، وقد أنشدنا "موطني" ولم ننشد "فدائي"، وبكينا وتعانقنا تحضيرًا لمغادرة بعض الوفود في صباح اليوم التالي.

التتمة تأتي، لكن في العدد القادم، ستكون عن الحب واللقاءات.. وأسرار أخرى.

التعليقات