01/05/2013 - 12:49

شغيلة وأولاد في حَيّ المُصرارة.. 1982../ خالد بركات

عيونهم تبحث عن أي مخلوق يشبه شلومو، تترقب طلة سيارته البيضاء من خلف شارع قديم، سيارة تأتي وتأخذهم إلى العمل في "الورشة" كي يعودوا إلى بيوتهم ونسائهم وصغارهم وقد حملوا معهم دفاتر مدرسية وأقلام رصاص وعلبة "نيدو"!

شغيلة وأولاد في حَيّ المُصرارة.. 1982../ خالد بركات

 

1

كانتْ المدينةُ المقدسة تَفتح أبوابها ودُروبها الكثيرة من الجهاتِ الأربع، وللجميع.
ومع الفجر، يأتي العمال والبدو، ثم يصحو الطلبة والأطفال ويحضر باعة الجرائد والعلكة واليانصيب، وهنا، يرفع بائع الموز خيمته على الناصية المقابلة "لباب العامود". هذا الرجل العجوز، كان قصير القامة وفي السبعين من العمر تقريبا، يشبه طفلا عنيدا لا يهدأ ولا يتعب وبدا كأنه هرم بسرعة البرق... كالمعجزة!

بعد قليل تعبر مركبات الجنود الذاهبين للحرب، هناك، حيث الحصار في بيروت، وتأتي باصات "البلد" تزعق وتعلن عن وجودها، تغيب ثم تعود حبلى بالفلاّحات القادمات من الحقول والموشحات بفجر التين ورائحة الزعتر، يحملن على رؤوسهن خير الوطن، كي يأكل الشعب، وتشبع المدينة من سلال القش التي تولد في لحظة، لكن وراء كل سلة حكاية لا تنتهي..
هاذي الشوارع تمشي وتمشي ولا تتعب.

بعد ساعة واحدة، أو أقل، تدبُ في مدينتي روح الله وأسباب الحياة، والمدينة نصف غافية ونصف عتمة، وقد بدأت الأزقة والحواري تستيقظ على وقع حنفية الماء الوحيدة أمام الباب. تصحو ملامحنا التي تشبه المكان، لأنه لنا، وهي موغلة في أعماق ماضٍ بعيد وسحيق، في حيّ المُصرارة، من هذا المربع الحجري الذي ينام تحت سور المدينة، يبدأ العالم كله، ويرتفع صوت الآذان ويقرع الجرس، يعلو إيقاع يومنا، يعلو، ويعلو الضجيج والصخب وتأتي كل الناس الى المدينة.

يصحو ديك عنيد من (..) الفجر، وتغتسل "ندى" بماء بارد وتمشي، بعد ساعة واحدة يلبي "سيدي عابد" نداء الله وتمسح "ستي عفيفة" وجهها بإسم الرحمن والأولياء الصالحين، وتعاتب "سيدي" لأنه صار ينسى كثيرا، وينسى وعده لها، وينسى عتابها بالأمس!
هنا تنهض كل الأشياء على وقع خطى الفقراء الشغيلة القادمين من القرى والمخيمات ومن مضارب البدو، جاؤوا بالأمس وعادوا اليوم، ولن يعرفوا أين تنتهي رحلة البحث عن "عفودا" (عمل). شغيلة بلادي تعمل بأجر يومي ومؤجل أحيانا، حتى إشعار آخر.

جاؤوا يجرون نعاسهم وبقايا أحلام تطاردهم منذ أول الفجر، وصايا أطفال تكوي ظهورهم. يحملون أكياسا قديمة ونصف فارغة، وضعوا فيها أشياءهم الفقيرة، وهي الآن تتحرك تحت قبضاتهم كبندول الساعة وكأنها جثث تتدلى من أعمدة المقاصل وتترنح بهدوء تحت ضوء الفجر..
تلك الأكياس الملونة، ُترى، ماذا خبأوا في جوفها؟
حبة بندورة وكّمْاجتيّن وعِلبة سَردينْ، هذا هو كله، زوادة للطريق اليومي، وكلها "مسجلة على دفتر الدَين" الذي لن ينساه صاحب البقالة. هي زوادة تكفي للشمس والحظ، وللبقاء أطول مدة ممكنة في بطن هذا النهار الطويل.

2

لا شيء معهم، لا شيء أمامهم، لا شيء في جيوب بناطليهم وسروايلهم المعفرة، لا شيء غير "الهوية"، وهذه لا يتحرك الإنسان بدونها في مدينتي المقدسة..

شغيلة الفجر، ولدوا في رحم هزيمة كبرى، وحين شبوا على الحياة، اكتشفوا أنهم فقراء وبلا وطن في الوطن، ولم يجدوا غير تعب أجسادهم للبيع "في إسرئيل" وهي المعروضة الآن على قارعة المصرارة، في سوق الغرباء المستوطنين، الذين جاؤوا من بعيد واحتلوا مدينتنا المقدسة..

أما نحن الأطفال، فقد ولدنا بعد هزيمة كبرى ثانية، كنا في أرحام أمهاتنا، وحدثت المعجزة الكبرى وولدنا! ولدنا كما يولد كل الناس، تفتحت عروقنا وأيامنا على الفقر وعربات الجنود وصوت اللاسلكي وسيارات الضريبة وسياط "الأرنونا"، والضريبة، الضريبة المضافة، وضريبة الدخل، وضريبة السفر، وضريبة العمل، المؤجلة والباقية والأكيدة. وصار لنا أهل وبيت، نصفهم في السجون والبيت رهن المصادرة أو الهدم!

العمال المساكين، لم يكونوا عمالا ولم يكونوا مساكين. أقصد حين كانوا يزرعون ويأكلون ويحلمون بعشرة أولاد وعروسة تشبه "جبينة"، لا تكبر ولا تهرم وتظل تعطي الحب، تشاجروا كثيرا وصلوا على النبي كثيرا. لكنهم الآن، بعد الاحتلال، كبروا، كبروا بسرعة، وصاروا يتجمعون هنا، في حي المصرارة، ينتظرون "شلومو" الذي يأتي ولا يأتي، أو "المعلم شلومو"، أو "أدوني شلومو". ولا أحد يفهم سر هذا التجهم والعبوس والقهر الذي يسكن ملامحهم. ولماذا ينفخون دخان سجائرهم في وجهه الهواء كيفما اتفق، ويتمتموا بكلمات نابية كلما مرّت سيارة البلدية!

عيونهم تبحث عن أي مخلوق يشبه شلومو، تترقب طلة سيارته البيضاء من خلف شارع قديم، سيارة تأتي وتأخذهم إلى العمل في "الورشة" كي يعودوا إلى بيوتهم ونسائهم وصغارهم وقد حملوا معهم دفاتر مدرسية وأقلام رصاص وعلبة "نيدو"!

بعد قليل تأتي السيارة وتعبر زقاقا ضيقا، يأخذك إلى حيّ المصرارة، من هنا، مرّ عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، وعبرت جيوش كثيرة وانكسرت ورحلت، صارت صفحة ُتقرأ وقد لا تقرأ في كتاب التاريخ، هنا كان الشعب يذبح قرابينه المقدسة من أجل أن ترضى عشتار الجميلة وهي لا ترضى أبدا، وهنا غضبت علينا آلهة متمردة وكانت لنا ذات يوم، ولم يعد يذكرها أحد. وعلى هذا الطريق سار المسيح بن مريم حاملاً على كتفيه عذابه وصليبه وهو ينزف من أجلنا، ويصعد إلى السماء خلف تلك الغيوم البعيدة!

هذا الميدان المقدس جمع كل الرسل وكل الأنبياء حين جاؤوا للتعارف الشخصي المباشر ولأول مرة، تسامروا مع النبي العربي محمد، صلوا خلفه جمعاً، وكان إمامهم وخاتمهم. ولا يساورني الشك، أنهم ودعوه بكل الحب والوفاء والدموع فيما هو في طريقه إلى ربه العلي القدير..

3

يأتي شلومو، يبتسم لك لترى أسنانه القوية، ثم يعبس في وجهك. هكذا يتصرف بلا سبب! شتم أحدهم لأنه "خاف عليه"! ولأنه حين تحلق العمال حول سيارته كاد أن يدوسه تحت العجلات، صرخ شلومو من داخل سيارته: "انت شو.. يا، ها؟ خرى؟ وكان يصرخ. لكنه حين خرج من داخل سيارته انقلب، في أقل من ثانية، وراح يربت على كتف العامل بلطف وشفقة ويمد له سيجارة وولعة. يتحدث إليهم، يشتمهم، لكن على طريقته الخاصة. يتفحص أجسادهم بعينيه، فيقول العم راضي "شوف اخو الشرمو..، بيروزنا كأنه يشتري نعجة من سوق الجمعة"؟!

شلومو فاهم وعارف، يقدَر ويجَسّ ويتفحص على مَهله. نصفه الأمني ونصفه التجاري في حوار دائم ولا ينفصلان، والآن يستفز نصفه الأول نصفه الثاني، والعكس صحيح، هكذا، يقول في سره: ترى؟ كم يسوى الواحد من هؤلاء؟ يحسب معادلة صعبة، يحسب الخطر والربح في آن واحد، وهي معادلته الوحيدة ومشكلته الوحيدة التي لا يعرف غيرها مذ وطأت قدماه هذه البلاد، لأن أكثر ما يقلقه الآن هي النظرات العربية التي لا يحبها من عامل جديد لمحه بين العمال ولم يعرف له اسم أو طريق.

شلومو يقول للعمال "أنا بعرف العرب كويس" و"العمال تعوني أنا بجيبهم على كيفك"، بعناية فائقة يختار عماله اليوم، كما بالأمس، كان يقلّبَ الأجساد التي صنعت الزّحام حوله، ويأخذ من قوة العمل الرخيصة التي تدافعت إليه ترجوه وتغريه. فاختار عشرة، أخبرهم بقراره الحاسم: "اليوم بس عشرة" يأخذ عشرته، وما يكفي حاجته منهم ويأمرهم بالصعود إلى داخل السيارة.

لا ينسى شلومو أن يعتذر بأدب وحياء لعامل بَدويّ لم يحالفه الحظ في هذا الصباح.
قال له شلومو: اليوم لأ، بكرة ممكن، انشالله.
قال البدوي: أجري على كوم عيال..
رد شلومو بسؤال: وأنت تقبل إني أنا أخسر؟
قال العجوز: لأ، الله لا يحب الخسارة.
ومضى..

يأمرهم بالصعود، يمتثلون. ولا أحد يسأله: إلى أين يا معلم شلومو؟ أي مستوطنة سنبني لك اليوم؟ وعلى أي أرض؟ وهل هناك في هذه البلاد أرض ليست لنا؟ لا أحد يسأله في ذاك النهار البعيد.

4

صديقي "باسل" سألني وهو يضحك ويواصل حديثه وذكرياته
مين كان القائد العام لشياطين المصرارة؟
قلت: أنت طبعا.
قال: كنا أولاد شوارع!


الشيخ حسين قال الكثير عن الجن والعفاريت، قال إنها تطلع في الليل من حفرة في مقبرة "باب الأسباط"، وكنا نمازحه ونطلب منه أن يحدثنا عن الجنية التي كمنت له في زاوية حارة السعدية.
قال الشيخ وهو يضحك: طلعت سايحة المانية، فكرتها جنيه والله. دنيا ليل وهي بيضاء زي الجبنة.. ملعونة الوالدين!
قال الشيخ وهو يضحك ويمسح دموعه: لو طلعتتلي مرة ثانية رح اخطفها وأتجوزها وبجوز نسافر على ألمانيا!
وزاد وهو يتنهد ويستغفر الله: يا راجل شيء بقرف. انتو صغار ومش عارفين شو صاير في العالم..
قلنا: شو صاير في العالم؟
قال: بيروت، بيروت احترقت!

5

لم يعد يأتي الرسل والأنبياء. حتى الملائكة لم تعد تزورنا، ونحن لا نبالي بأي شيء، نصرف تعب النهار وما جمعناه من بيع الجرائد والعلكة لنصرفه على تذكرة "لوج" في سينما الحمرا وعلبة "تايم" ورغيف فلافل. في مدينتنا المقدسة كل الأشياء تمشي: الدين والدولار والأردني والشيكل والتنانير القصيرة والصلاة على النبي وآخر صرعة موديلات في "جوردان" وبيانات تدعو للثورة والعصيان ومجلات "السيكس" الإسرائيلية المهربة، كلها تمشي.

كل شيء يتحرك في بطن هذه المدينة، بائع "الشراب" وعربة "الكعك" ومقهى "كت كات" الذي يعج بالشباب والأطفال ودخان السجائر. وأصوات صراخ وشتائم وارتطام كرات البلياردو ورائحة "طوشة" تفوح في الجو، هنا بلاد منتهكة وصوتها مثل وخز الإبر وكالوجع في الجمجمة، هنا يقرع الجرس، في رؤوسنا، مضت عشرون سنة، مرّت ّأربعون سنة، ستون سنة، ولا يزال هذا الجرس يقرع و يَطنّ و يقرع ويطنّنننننننن.

التعليقات