20/07/2016 - 15:58

"تكرير المعرفة" استلاب لتجربتنا

تنمو تحت صخرة الخسران الثقيلة، لكنها تنمو، في ظرف غاية في القسوة والصعوبة، لكنها أيضًا، ستشق جلد التراب اليابس، وستشهق في فضاء عربي جديد، وستكون، لا محالة، شجرة نضرة عالية، ولو بعد مئة عام.

"تكرير المعرفة"  استلاب لتجربتنا

مثقفون عرب... صورة عن 'هناك'

يسيطر، في أدبياتنا المعاصرة ومنذ سنوات، خطاب جلد الذات والنقد الهدام المفزع، لمئة عام من التجارب العربية، تحت شعار 'أُنظر خلفك بغضب'، اقتباسًا لعنوان مسرحية جون أسبورن الإنجليزي، وبعيدًا عن هذا التيار، الذي نرى فيه نتيجة طبيعية لعقم التجربة 'مادة النقد' وخساراتها وهزائمها وثغراتها الواسعة، فإننا هنا، في هذه المقالة، ننظر خلفنا أيضًا، ولكن دون غضب، بل برويّة وهدوء، وتمعّن وإمعان في مئة عام من الخسارة الهائلة، ونحن نؤمن في الوقت نفسه، أن ثمة بذرة تنمو تحت صخرة الخسران الثقيلة، لكنها تنمو، في ظرف غاية في القسوة والصعوبة، لكنها أيضًا، ستشق جلد التراب اليابس، وستشهق في فضاء عربي جديد، وستكون، لا محالة، شجرة نضرة عالية، ولو بعد مئة عام.

والمشكلة، في اعتقادنا، وفي أحد مستوياتها المهمة، أن تيارًا عريضًا من المثقفين والكتاب والباحثين العرب، ومعظم صناع القرار الرسمي العربي، تواطأوا على تقديم هذا الخطاب الناقد المتكامل، أو الذي يبدو هكذا، ويحاولون، بشتى الطرائق والوسائل، فرضه على الشارع العربي من المحيط إلى الخليج.

والحقيقة الظاهرة، للأسف، أنهم ما زالوا يسيطرون على المنابر والمناهج والوسائل، حتى أنهم يجرّمون الصوت الآخر، أو الرؤية المختلفة، ويعتبرونها معاكسة لكل معاني التقدم والحياة، فهم الذين يقدمون لنا تاريخنا، أو للدقة؛ يعيدون لنا كتابة تاريخنا، والفانتازي في هذا الأمر، أو المفارقة، هي أننا نصدقهم، ونترسّم خطاهم، ونتباهى بحفظ ما يقذفون به إلينا.

وهم يقدمون لنا رؤيتهم المغلوطة، الناقصة والمشوّهة. وهكذا، ليس علينا إلا أن نصدق كذبة 'ظلامية العصور الوسطى'، التي تعني تاريخيا أوج الحضارة العربية الإسلامية، وأن نصدق عصر 'الاكتشافات الجغرافية'، التي تعني تاريخياً أن العرب سبقوا كل المكتشفين الأوروبيين بعشرات السنين، وأن نصدق 'عصر التنوير'، الذي يعني تاريخيًا اكتساب المعرفة عن طريقة التجربة العلمية التي بدأها الباحث العربي المسلم منذ القرن الثامن الميلادي.

إنهم بذلك يقنعوننا أنهم مركز الكون ومكتشفوه، ومصدر العلم ومنتجوه، وأن كل المساهمات البشرية الأخرى، ما هي إلا ظلال باهتة وتجارب هزيلة وجهود ضائعة.

إن 'تكرير المعرفة' وإعادة إنتاجها مرة أخرى، استلاب حقيقي لتجربتنا الفعلية وتبخيس لها، بل وقتلها أيضا، والمشكلة هنا أن الأمر وصل إلى المناهج الدراسية والبرامج التلفزيونية ومراكز البحث العلمي وإبداعات النخبة المثقفة.

يمكننا أن نفتح منهاج أي صف، من صفوف مدارسنا، لندرك أن كتابة التاريخ عندنا، غالبًا، هي ترداد لرؤية الغرب التاريخي، أو فهمهم له، وهكذا، ننتج أو نساهم في إنتاج أدمغة، تعتقد أن التاريخ بدأ من 'هناك'، وليس من هنا، وتعدى الأمر ذلك، ففي كتابة التاريخ بالذات، هناك عمليات غسيل، ومناطق عتمة، ومراحل مسكوت عنها.

وحتى برامج الأطفال الكرتونية، تقدم البطل الغربي والحياة الغربية، وأنماط سلوكها وقيمها، وهكذا ينشأ الطفل العربي على بطولة 'روبن هود' و'إيفنهو' و'بوباي'، ولا يتعرف إطلاقًا على أبطال العرب والمسلمين 'من العصور الوسطى'، ولا يكفي ترجمة كلمة 'نبيذ' بكلمة 'عصير'، وكأننا بهذا قد خلّصنا ضميرنا أمام الأطفال.

ولن نتجاوز هنا ما قاله إدوارد سعيد حول إقناعنا بأن صورة الغرب عنا هي الصورة الأفضل أو الأدق، بمعنى أن الصورة التي يكوّنها الغرب عنا هي صورتنا عن أنفسنا، وهكذا، لا نكلف أنفسنا عبء البحث أو المراجعة أو النظر أو المساءلة، وبهذا، فإن عملية تطبيعنا مع الغرب تامة وقائمة، لأن التطبيع في جوهره هو قبول رواية الآخر عنا. وعليه، فإن ثمة أسئلة تتوالد تباعًا، بناءً على هذه النتيجة، أهمها:

من هو المسؤول عن نشر 'وفرض' المفهوم الغربي ومصطلحه ورؤيته؟!

ومن المسؤول عن هدم الحدود والخصوصيات والهوية والذات؟!

ومن المسؤول عن هذا الاستلاب والدونية والضآلة والقزمية؟!

وقد نعتقد أن الإجابة تكمن، ليس فقط في انهيار النظام السياسي أمام وحشية الاستعمار وآلته العسكرية الغاشمة، فهناك دول تعرضت لما تعرضنا إليه، ولكنها استعادت عافيتها واستردت قوتها، كاليابان والهند، بمعنى أن انهيار النظام السياسي لا يشكل انهيارًا للذات وانكسارًا لها بالضرورة، ولكن المسألة معقدة لدينا، إذ إن النظام السياسي، أيضًا، يلعب الدور الأكبر في رسم الحاضر والمستقبل، ويشكل رؤية للماضي كذلك،  وللتوضيح، فإن النظام السياسي العربي الذي قام بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، كان ملتصقًا بالغرب، ربيبًا له، مقلدًا ومقيّدًا ومنبهرًا ومسلوبًا وخاضعًا لكل المعادلات والقيم والرؤى التي كان ظاهريًا يناضل ضدها.

فالنظام العربي السياسي الذي ورث الإمبراطورية العثمانية لم يأت بجديد، ولم يتقدم برؤية مخالفة أو أصيلة، ولم يؤسس لتجربته من خلال بيئته أو محيطه، ولم يعتمد على جماهيره أيضًا، بل سرعان ما تنكّر لها، وأكثر من ذلك، قام باستبعاد ما هو أصيل في هذه التجربة، وقد نستثني هنا تجارب بعض القوى التي وصلت إلى سدّة الحكم، لكنها سرعان ما تلاشت. ولهذا، سرعان ما اتسعت الفجوة بين النظام السياسي والجمهور وصار كلٌ منهما في واد، ونحن الآن، وفي هذا الوقت بالذات، نرى آثار هذه الفجوة وتجلياتها تأخذ أشكال الصراعات الإثنية والعقدية والطائفية والمذهبية، ورأيناها، ونراها سابقًا ولاحقًا، على شكل هزائم فظيعة ومرعبة، ونراها على شكل هرولة واستجداء مضحك نحو أحضان العدو الذي حورب طيلة قرن.

بكلمات أخرى، وصلت أزمة هذا النظام إلى الدرجة التي اكتشف فيها أن كل ما تم فعله طيلة هذه العقود كان خاطئًا، وأن الدخول في عصر جديد ومرحلة جديدة تتطلب السلام مع العدو، هي الطريقة الأسلم والأفضل، والمعنى من هذا الكلام أن كل ما قيل وكل ما كتب وكل ما رفع من شعارات، كان دجلًا وكذبًا وبهتانًا ؟!

إنها أزمة طاحنة وساحقة تدفع الجماهير ثمنها.

ذلك أن النظام السياسي، وبالقدر الذي لا يعني انهياره انكسارًا للذات، يعني أيضًا، وبالقوة والقدرة ذاتيهما، فرض رؤيته واختياره وانحيازه أيضًا.

وإن عدم قدرة النظام السياسي على تقديم رؤية حقيقية تتلاءم مع محيطها وناسها ومكانها، يعني بالضرورة، هزيمتها أو تهشيمها، أو بقاءها معطّلة ومستلبة وضعيفة، وهذا ما يجعلها أنظمة شرسة وقامعة أيضا، وأكثر من ذلك، فإن تقديم رؤية خاطئة أو غير ملائمة من قبل هذه الأنظمة يعني تعطيلاً لمبادرات الجمهور، وتثبيطًا لها، وهزيمتها أيضًا، ولهذا السبب نرى هجرة العقول والأحزاب السرية والعنف والعنف المضاد والجوع والفقر والمرض والتسوّل من صندوق النقد والدول المتحكّمة الكبرى.

وتأكيدًا لهذا كله، وقبل هذا وبعده، ندرك أسباب وجود هذا الذي يسمى 'التغريب'... تغريب الروح والجسد والكلام والهوى والمصلحة.

والمهزوم يعبد الهازم، والمسحوق يتمثّل الساحق، وهذا من عجائب اتجاهات النفس البشرية، ويمكن بهذا الصدد رسم صورة لمثقف عربي عادي، قارئ ويمارس بعض النشاط الإبداعي، فنراه بالضرورة ينأى بنفسه، أو يربأ من ذلك الكم الهائل من التجارب والنماذج الرائعة التي تزخر بها ثقافته الأصيلة، وهو، إن عرفها، سيبخسها حقها أو يقلل من شأنها أو يحللها بطريقة أو بمنهج غربي، وهو منهج شكّاك، مقارن، يعتمد العلوم الإنسانية من سوسيولوجيا وأثنولوجيا وأنثروبولوجيا وأركيولوجيا في فهم الظواهر، ويحللها بصورة ميكانيكية أيضًا.

وبهذا، يتحوّل الوحي إلى مصدرٍ مشبوه للمعرفة، وتتحول ظاهرة الأمّة إلى أضحوكة. إن هذا المثقف، الذي اتفقنا على عاديته، سيهاجر بعقله إلى تلك الإنجازات العلمية والأدبية والفنية التي أنتجها عصر النهضة أو عصر التنوير، وسيعتبر أن كل شيء بدأ من 'هناك'، وقد نبحث لهذا المثقف عن عذر، فهو يعيش في نظام سياسي يستورد كل شيء من 'هناك'، ويستعير القوانين التي نبتت من 'هناك'، ويبني معرفيته على طريقة 'هناك'، ويتبع سياسة 'هناك'، ومناهجه من 'هناك'، واللغة الرسمية الثانية من 'هناك'، وملابسه من 'هناك'، وبرامج تلفزيونه من 'هناك'، فماذا يبقى لهذا المثقف أن يفعل، هو بالتأكيد يرى أن تقليد مجتمعه 'لهناك' تقليد مشوّه، ناقص ومضحك، لهذا نراه يعتمد 'هناك' معيارًا للتقدم وحسن الإدارة وقوة القول والتعبير.

إن هذا المثقف سيبدأ في كراهية مجتمعه وتطوير مشاعر عدائية ضده، فيقع بالضرورة في ازدواجية القول والفعل، سيضطر إلى ممارسة حياة لا تشبه قوله أو إبداعه، وسيضطر إلى المجاملة والكذب والنفاق، وهكذا 'نربح' مثقفًا كاذبًا دجالًا. ومن هنا نرى هامشية تأثير المثقفين على الفعل السياسي والقرار السياسي دائمًا، هذه الإزدواجية قد تدفع بعض هؤلاء المصابين بالصَّغار الاجتماعي، تخلصًا من هذا الشعور بالكذب، فنرى البعض يكتب بحدة كبيرة ضد أخص خصوصيات مجتمعة، وأكثرها احترامًا وقدسية، وهو يفعل ذلك من منطلق غير أصيل، وإنما من رغبته في التخلص من هذا الوضع المحرج على المستوى الشخصي والنفسي، وقد يندفع البعض إلى هذا، نتيجة الجهل، الجهل المعرفي نقصد، أو، وهذا أيضًا صحيح، من منطلق الهوى والغرض والمصلحة.

هذا المثقف المزوّد بمنجزات القرن التاسع عشر الفلسفية والعلمية، المردد لمقولات المذاهب الأوروبية الكبرى، هو نتاج نظام سياسي مهزوم، لم يستطع أن يقدم له نموذجًا حقيقيًا يتلاءم والمجتمع والتاريخ، ومن هنا، فإن كلا المقصودين مهزوم... مهزوم هزيمة ساحقة وماحقة...

هذه الهزيمة الماحقة والساحقة تتجلّى في تلك النقاشات العقيمة حول التطبيع مثلاً.. أُمّة كاملة تتحدث عن التطبيع ولا تتحدث عن التحرير، أمّة كاملة تتحدث عن كيفية التعامل مع 'إسرائيل'  في مرحلة السلام، وثلاثة أرباع جماهيرها جائعة، فقيرة، مقموعة، وفي عتمات السجون، وتعاني من التصحر والإهمال والتبعية وسرقة الثروات.. ويفتك بها غول المرض والهوان والاقتتال المجاني العبثي المخيف؟!!

مثقفون يلبسون ربطات عنق ويتقعّرون بالكلام عن كيفية رؤيتهم للتطبيع ، الذي نعتبره خيانة وجريمة... وهم لا يستطيعون كتابة ما يريدون !! والذي يتربع على كاهلهم لا يعرف الجغرافيا ولا التاريخ. هذه الهزيمة الماحقة الساحقة، تنتج سينما رديئة، وأغاني هابطة تقترب من وحوحات الجنس، وكتب تعتبر سيدنا محمَّدًا ،عليه السلام ، مجرد رجل سياسي داهية، أو تجاهر بأن بناة الكعبة هم الفراعنة، وأن موسى ،عليه السلام، عاش في الجزيرة العربية، وتتجاهل النص القرآني الكريم الصريح، والكارثة أن أصحاب هذه الكتب يُعتبرون رأس رمح الثقافة التقدمية، بل إن معارضتهم تعتبر غاية الرجعية وأول أسباب التخلف والضلال.

إن هذه الهزيمة الماحقة الساحقة، وصل معها بعض المجرمين الذين أصبحوا أو تحولوا إلى رموز أنظمة مشبوهة تقرر شكل المنطقة وسياستها الكبرى.

هذه الهزيمة الماحقة الساحقة وصل الأمر فيها إلى الشِعر... هذا القول المهيب المقدّس العذب الخارق، الذي يقال فيه إن الشعر لم يعد يكفي، فتعالوا نكتب ما لا يكتب... لنكتب الصمت واللاوعي والمكبوت والهامشي والمُعتم والمضغوط والمهموس والمغموس... وما لا ندري، وليس السوء في هذه الزوايا، بل في ضحالة معرفة 'الناقل' بالفكر الذي يزعم أنه 'ينقله'... والشِعر، هذا البدائي الرائع... الذي لا يهزم... سيقول دائمًا وببساطة.. و'بوعي' كبير وواسع وعريض، سأحب أرضي وأُمّتي وعقيدتي دائمًا، سأحميها، لأبقى حرًا عليها ومعها وبها، إلى أبد الداهرين... هكذا أحتمي من صمت الهزيمة ولاوعيها... وأحصّن نفسي مما تقوله أصداء 'هناك'، هؤلاء الموجودون هنا وهناك.

اقرأ/ي أيضًا لـ المتوكل طه

التعليقات