من تعب من الفكر (من وحي ابن عربي)..

-

من تعب من الفكر   (من وحي ابن عربي)..
"من تعب من الفكر وقف حيث تعب، فمنهم من وقف في التعطيل، ومنهم من وقف في القول بالعلل، ومنهم من وقف في التشبيه، ومنهم من وقف في الحيرة فقال لا أدري، ومنهم من عثر على وجه الدليل فوقف عنده فكلَّ عنده".
ومنهم من وقف في القدر ومنهم من وقف في الجبر، ومنهم في المادة، ومنهم من وقف في الوجود، ومنهم من تاه في العدم، ومنهم من تمرس في التحليل الفلسفي ومنهم من اضطجع عند التحليل النفسي، ومنهم من عثر على المادية التاريخية، ومنهم من لامس الواقع في الظاهر، ومنهم من حط الرحال في الوضعية.
ومنهم من ابتعد إلى "ما بعد" ذلك الذي كان قبل، ومنهم من ذهب إلى ال"نقد" و"نقد نقد" لهذا الفكر أو ذاك مما ذكر وما لم يذكر أعلاه.
ومنهم من فكر أن الفكر هو تفكير بالتفكير فصفن ولم يجد شيئاً.
ومنهم من ضل الطريق إلى الفكر فحسب أنه نقد دون معلومة، وسجال دون ثقافة، فانهمك وحسب أن يتقدم فيما هو يركض ركضا موضعيا، يفكر موضعيا.
ومنهم من أغرته سهولة نقد فكر غيره، وانقضى الإغراء مثل كل إغراء قليل اللبث، مخلفا خيبة.
ومنهم من أعياه تقليد غيره فعاد إلى نفسه فإما وجدها بائسة هزيلة تنتظره فلم يدر ما هو فاعل بها، أولم يجدها.
ومنهم من انتحل فكر غيره، فأمضى وقته يفكر بطرق إخفاء ذلك وأساليب دفع التهمة عن نفسه في حال تعذر الإخفاء.
ومنهم من وقف في التعبير وسرقته البلاغة من الفكر.
ومنهم من استنزفه البحث عن أفكار يزرعها في الفصاحة فانتهى إلى صناعة الكلام.
ومنهم من وقف عند الاستقراء مكتفيا باستنتاج العام من حالات معدودة، منتظرا أن تفند أفكاره حالة واحدة.
ومنهم من وقف عند الاستدلال مكتفيا باستنتاج فكرة من فكرة، وصواب من صواب وخطأ من خطأ.
ومنهم من تجاوز كل منهما إلى الشطط.
ومنهم من تجاوزهما إلى الجمع بينهما، فتوقف عند الجمع بينهما.
ومنهم من ارتعدت فرائصه عند وقوفه أمام هاوية المطلق السحيقة فجمد مكانه، ومنهم من انسحب مبتعدا عن الهاوية خافق القلب.
ومنهم من خشي استنتاج انعدام معنى للوجود خارج المعنى الذي يضفيه هو على الوجود.
ومنهم من اكتشف أنه لا يعرف معنى وجوده، أو لم يكتشف معنى وجوده، ولم يجد معنى للتفكير بمعنى خارج معنى وجوده، فاكتفى بهذا القدر.
ومنهم من وقف عند حدود القوة والسيطرة والمصلحة.
ومنهم من لم يستوعب الفرق بين الفكر والانتماء فانتمى لفكرة وتوقف عندها.
ومنهم من وقف عند مرحلة المعرفة قوة، ولم يتجاوز ذلك إلى المعرفة الأرقى معرفة القوة، لتصبح معرفة ضد معرفة وقوة ضد قوة، ومنهم من توقف عند الأخيرة، ولم يتجاوزها إلى تحرر من القوة ومن المعرفة ذاتها كقوة إلى المعرفة لذاتها.
ومنهم من انتقل من هنا إلى الإيمان.
ومنهم من انتقل من هنا إلى الشك.
ومنهم من تعب من البحث عن معنى خارج الإيمان وخارج الشك، فارتاح مطمئنا عاثرا على سعادته في أحدهما.
ومنهم من لم يجد لظاهرة سببا واحدا أو أكثر من سبب ليفسرها بأسباب محصورة فأخذه الإعياء من الأخذ بالأسباب.
ومنهم من وقف حذرا، ومنهم من وقف خوفا، ومنهم من وقف جبنا، ومنهم من جمد لمشهد إجماع ضاغط عليه لأنه يخشى أن يكون مختلفا.
ومنهم من خشي العزلة عن الناس أكثر من الموت.
ومنهم من خاف من مجتمعه أكثر من خوفه من الاستعمار.
ومنهم من خاف من نفسه ألا يخسرها فبقي سعيدا دون نفسه أو تعيسا دونها حسب طبعه ومبغاه في الحياة.
ومنهم من خشي العرف والعادة والمتفق والمصطلح والمجمع عليه.
ومنهم من خاف أن يلتقي مع ذاته، ومنهم من خاف أن يخسر نفسه كما عرفها، وأن يلتقي مع ذاته كما عرفته.
ومنهم من اجتنب الحقيقة.
ومنهم من أعجب بالحذاقة في الكذب فانهمك به.
ومنهم من أعجب بالنجاح فحاول أن يقلده وتوقف هناك.
ومنهم من جزع عندما أوصله الفكر إلى الحزن فنفر عائدا إلى خلو العقل المغتبط.
ومنهم من هدأ نفس الحزن من روعه، فانساب فيه بهدوء واطمئنان.
فكل إنسان وقف حيث تعب أو حيث وجد راحة. فمن تعب رجع إلى مصالح دنياه وراحة نفسه وموافقة طبعه. فإن استراح من ذلك التعب، واستعمل النظر في الموضع الذي وقف جلس فأطرق ومات، أو مشى حيث ينتهي به فكره إلى أن يتعب فيقف أيضاً أو يموت، إن توقف مات وإن مشى توقف بعد أن يموت.
ومنهم من تعب ولم يرجع إلى مصالح دنياه وراحة نفسه فبقي يفكر وهو طريد الجنتين.
ومنهم من بقي وحيدا من أثر الفكر بالمجتمع، لأنه ندم لمغادرة وحدته أصلا ووجد طمأنينة في الوحدة. ومنهم لم يغادرها أصلا، وهو سعيد غير نادم.
ومنهم من أحب فتعب من الفكر، وما زال على هذا الحال حتى أحب في الفكر أيضا.
"ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".


التعليقات