"نشيد الأنشاد الذي لنا"... جديد د.عزمي بشارة

-

تنشر صحيفة "الوطن" مقتطفات من كتاب يصدر قريبا يحمل عنوان «نشيد الأنشاد الذي لنا». وهو الاصدار الأدبي الثالث للمفكر العربي الفلسطيني عزمي بشارة بعد كتابي: الحاجز، وحب في منطقة الظل.

هذا النص هو معارضة أدبية حديثة، (ويمكن إضافة: عربية وفلسطينية...)، لنص قديم هو «نشيد الأنشاد الذي لسليمان». نص ليس شعرا كما يفضل بشارة توصيفه، وانما «ايقاعية»، تستلهم ذاتها من ايقاع الحياة وهوية نسجها على ارض تفيض عن حقيقتها الى حواف مقدسة لا نهائية، يلامسها بشارة بحرارة لا تقل حين يفضل العودة الى «سفوح المألوف» والعكوف على «حقائقنا الصغيرة».

الايقاع حوار الذات مع ذاتها، ومع الموجودات، والايقاع نص يقاوم التشظي ويرتب الحلم والأسطورة على مكان يتجدد في بقائه.

ننشر هنا الأصحاح الثامن من تسعة اصحاحات تشكّل «نشيد الأنشاد الذي لنا»، وفيه جزء من سرد شاعري على لسان الحبيبة، التي لا يهم تعيينها: عناة الكنعانية، ام فاطمة أم مريم التي اصبحت فلسطينية منذ ان دخلت النكبة من الخارج لكسر الايقاع (أو محوه بالأحرى)، ومنذ ان خرجت من الداخل لتعرف أنها مهزومة ومكلومة، وتنجز معجزتها خارج ايقاع المقرر الاستعماري الذي لا يعرف تهديدا لروايته اكثر من ذاكرة الأرض.

الإصحاح الثامن

قالَ لي:

تعبتُ كما وَعَدتُكِ. المكانُ الّذي لستِ فيه لستُ فيه... غادرني معنى الحركةِ في المكانِ، فعدتُ ولم أجدْ لي نقطةً في هذا الفضاءِ أنسحِبُ إليها، أنكفئُ عليها، أتحجَّمُ فيها.... لم أعثر على ما أغلقُ علينا بابَهُ لحياةٍ صغيرة.

خلعتُ ثيابي، فإلى أينَ أخرُجُ منهُ الآن؟! انتزعتُ روحي وزرعتُهُ مكانَها، فأيُّ هاويةٍ ستفغرُ فاها في نفسي إذا اقتلعتُه منّي؟!

خلعت ثيابي

فلم يتركْ جسدي عاريًا

منهُ

هُوَ لي وأنا لَه،

لن يتركَ مشجبي عاريا من ثيابِه

ليأخذني إليهِ حيثُ يكونُ

فلن أعودَ في هذا العمرِ

لارتداءِ ما نزعتُ عند بابِه

وَقَفْتُ له الروحَ مشرعةً

وأسكنتُهُ فيَّ

وقَصَرتُ عن منحه

كما عجِزَ عن منحي

نقطةً في فضاءِ البلادِ

يغلِقُها عليه وعليّ

صارحني أنه عندما عادَ من غربَتِهِ فقدَ وطنَه. لم يتعرّفْ إلى بلادِهِ داخِلَ الحدودِ. وغادَرَ. مضى دونَ أنْ يَخدَعَني. وتَبِعَتْهُ العاصِفَةُ.

سَحَبَ جَسَدي من روحي. سَحَبَ روحي من جَسَدي إليهِ عبرَ الحدودِ.

أبحث عنه، ولا أعثرُ عليه بين أنقاضِ قرى السَّاحِلِ.

أخرُجُ إليهِ، أمدُّ يدي لألاقيه. أتسلّقُ الشمالَ.

أعبر وادي عارة، وأنزِلُ من إسكَندَرَ وأعبُرُ سهلَ مجيدو لأعلوَ الكرمِلَ، أعبرُ أمّ الزينات وأقف عند المحرقة لأُناديه، أعبرُ بلدَ الشيخ ووادي الصليب، ومسجدَ الاستقلال، وساحةَ الحناطير، وسوقَ الشوام، وشارعَ الملوك، والألمانيّة صعودا إلى مار إلياس لأناديه. أجتازُ مرجَ ابنِ عامِرٍ إلى جبلِ الطُّورِ ثم مسكنة وحطين، أقطعُ الشّاغورَ من جامعِ الجزارِ وشاطئِ عكَّا حتَّى جبلِ حَيدَر، ومن جبلِ حيدر إلى صفد، عودةً إلى ترشيحا مرورا بدير القاسي وكفر برعم وسحماتة، ومن معليا إلى الزيب مرورا بإقرث، ومن البصّة إلى الناقورة.

وأجمد هناك

بين الجليل وهدير الموج

يبتلع البحرُ صوتي

سمِعوا صَوتي في جَبلِ لُبنانَ

في هضبةِ الجولانِ

في قاسيونَ والجلعادِ وعمونَ

واَنْخَرَست جنباتُ البِلادِ عن رجْعِهِ

كنتُ أعثرُ عليهِ

منهكا في الطَّريقِ

عائِدًا من هوامِشِ البلادِ

إلى هوامِشِ البلادِ

كنتُ أعثرُ عليه في المهجِ

في الوجدِ، في الوجدانِ

في الانصياعِ للحرجِ

هناكَ حيث يستجيبُ مسايرا

لم لا يرغبُ

من هرجٍ ومن مرجِ

في العزوفِ عن خصومةٍ عبثيةٍ

عافها رغمَ توفرِ الحججِ

في الصبر على حديث فارغٍ

تأدبا، بانتظار الفرجِ...

حيثما وليت وجهي

أعثرُ على أثرٍ له

حيثما وجّهت نظري

لا أعثرُ له إلا على أثرِ

حتَّى الحرجُ باتَ يُحرِجُهُ

أفلَتَ من خجَلِه

ومضى

توهّجَ فيّ جمرًا

فأرخَتْ قبضتَها البلادُ وأفلَتَـتْهُ

استَعَذْتُ بكنّ يا بنات العَربِ

أَيّتُها المتجمّعاتُ فضولاً

مثلَ عنقودِ العنبِ

أنْ تبلِغَهُ من تَراهُ

أني عييتُ من البحثِ

في السرابِ

في الأرض اليـبابِ

في الخرابِ، في الكتُبِ

أن ضيقي ضيقَه يسعُ

أَنْتظرُه هنا في ضيقيَ الرحبِ

يجدني هناك حين يلهثُ

في لحظة التعبِ

حيثُ يقفُ ليلتقطَ الأنفاسَ،

يَلتَقِط نَفْسِي

إذا عرَّجَ طرَفا لسدِّ رمَقٍ

لا بدَّ أن بالطرْفِ يرمقَني

وحين يسقطُ مرهقا،

يجدُني على الأرضِ الوثيرةِ

أحتضِنُهُ

لن يذهبَ بعيدًا

فهو لا يذهبُ إلى حيثُ يهدَأ

وإلى حيثُ يرتاحُ لا يندفعُ

وبعدَ حينٍ يهجعُ

حينَ يأمرُ البدنَ

فيأبى ذاك الشقيُّ ويمتنعُ

هو أزهارٌ صغيرةٌ تكسو الصخورَ، سجّادةٌ حريريّةٌ من طحالبِ الصوّانِ العنيدة تطمئن كفّي يدي.

صحراءُ يانعةٌ، قفْرٌ مزهِرٌ، أجملُ من أغوارِ الأردنّ القاحلةِ وقد أطلقَت ربيعا ومراعيَ في نهاية آذار.

هو أقحوانُ التلالِ

كما انطبعت في خيالي

فلُّ ساحاتِ البيوت

شذا الأيام الخوالي

سنديانُ الجليل

ياسمينٌ تدلّى من شبابيكِ البلادِ

شهوةُ البلادِ إلى ذاتِها

حزنُ الروابي على روابٍ

يستحيل عليها احتضانُها

توقُ المراعي للسحابِ

حقُ السؤالِ عن الحقِ الذي

ناء بحمله أولو الألبابِ

شوقٌ إلى زمنِ المدينةِ

في الشتاتِ وفي الغيابِ...

حامي البلادِ من الحدودِ

ومن حرَسِ الحدودِ

هو لي وأنا له

أشتهيه كما هو

مرارةُ البلادِ حلاوةٌ على شفتيه

اليومَ، لم أعِدَّ قهوةَ الصباحِ

ولم أقرأ الصحيفةَ

لم أستقبلْ معه نهارا آخرَ

قال لي:

حتى عندما لا تداعبُ أنفاسكِ أنفاسيَ، عندما لا أرى خيالَك بأعينٍ مغمَضةٍ، عندما لا أُحِسُّ بكِ في نومي، لا تخشَي أن يوقظَني أحدٌ غيركِ.

قالت النّسوةُ في مقهى مجمّعِ التّسوُّقِ: هربَ حبيبُكِ، هل أدارَ لكِ ظهرَه؟

هرب متراجعًا وَوَجْهُهُ لي

وعيناه على جسدي

ما أدارَ ظهرَه يومًا لصدري

لوجهي، لعنقي، لمقلتيّ

لطعمي، لرائحتي

لخدّي المخمليِّ

أشمُّ رائحتي عليه

أحبُّ طعمي على شفتيه

منفيًّا على خاصِرَتي

يقرأُ ربيعًا في جَسَدِي

يجمع شذايَ مثل فراشة

ورحيقي مثلَ نحلة

يطعمني ويسقيني

يغسلني، يدثّرني

وينشرني ويطويني...

هوامش على الإصحاح الثامن

أخرجتُه مني، فلم تفغرْ فوهةٌ فاها. لا يحسّ الفراغ بالفراغ.

كان بيتُنا... حافظنا على الحلمِ بعد ما صارَ بيتُنا دمًا وطينا، وجدرانًا ومعسكراتٍ مسيّجةً محاطةً بأبراجِ حراسة، وطاقةً فتحتها له في هذا الفضاء لكي يسترقَ النظرَ إلى حسرتِه الأبديّة.

مضى الحلمُ وهمًا. وصار بيتُه سرابا، وبيتي صفنةً مشدوهةً بالتّلفاز، تتبدّلُ إلى مشاهدة متبرِّمةٍ من قلّةِ التأثّر. أنظرُ في الشاشةِ فيروعُني أنّ هذا الانحلالَ لا يغضبُني. أتساءلُ مثل عجوزٍ عن أهلِ كلِّ هؤلاءِ الشبّانِ الصغارِ يومِئون بحركاتٍ إباحيّةٍ، ويتفوّهون بتفاهاتٍ بثقةٍ بالنفس.

كنا، أنا وهو، نؤمنُ بالحريةِ، حرية ضدّ العبوديّةِ، لا حرية للاستعراض. وكنا نؤمنُ بالحبِّ المباحِ وليس بالإباحيّةِ دونَ حبّ.

كنت أسمعُ قلبَه. تبلغُني نبضاتُه، وتهزُّ روحي، فأسلك طريقا التفافيّا حول ما يُعجبُ وما لا يعجب الناسَ. وأنعطِفُ حول حساباتِ الربحِ والخسارة. لم أدخلْ دربَ هنا وهناك، وبلدي وبلدِه. تجنبت زقاقَ أنا وهو. وكنت أجِدُه حيث انطلقتُ للبحث عنه. كنت أجدُه معي عندي، كلانا، أنا وهو، كنا بانتظاري.

استنـزفني. لم أعُدْ أنتظرُ إلا نفسي التي أطلبُها بالهاتف «دليفري»، أو أنتظرُ في المقهي أن يوضبوا لي نفسي «تيك أواي» أو «دوجي باج» للثلاجة. وفي الليل حينما أكون وحدي أُذيبُ الجليدَ عن نفسي في الـ «مايكرو ويف» لكي أتمكّنَ من استهلاكها.

الدنيا نفسُها أصبحت صمّاءَ، وأصبح مستطلعو الرأي العامّ يقرّرون ما يعجبُ الناسَ، إذ يقلدون ما استطلعوه لهم.

رفضُ الكذبِ بات داعيًا للقنوطِ، ولم يعد دافعا لأيّ فعل.

في هذه الأثناء أصبح حقُّ عودة اللاجئين إلى ديارهم حقَّ العودة إلى مخيَّمهم الذي فرِّغَ سكانُه أثناءَ الاشتباكات.

التعليقات