تغطرس شراً..

-

تغطرس شراً..
 

 سمعنا عن مسؤول أميركي أنه قال في لحظة مصارحة على البث مباشر على قناة الجزيرة أن التاريخ سوف يحكم على سياسة أميركا في العراق، و"هنالك مجال كبير للنقد الحاد فقد تصرفت الولايات المتحدة في العراق أحيانا بغطرسة وغباء." فرح العرب فرحا عظيما كما هو متوقع للأسف، وكادوا ينظفون الرجل ويحولونه إلى شاهد حي. وكأن العراق بحاجة إلى شهادته. وما فتئت وسائل الإعلام العربية تكرر هذا الاقتباس حتى سحبه واعتذر عليه لرؤسائه ولمرؤوسيه. وهو قصد في الواقع أن يقول "غرور" أو "تكبر" وقد تخيلته يترجم كلمة arrogant فخرجت من فيه غطرسة. ومن انتبه سابقا لهذا المسؤول الأميركي العجيب البرتو فرنانديز الذي يلفت النظر للغته العربية المفخمة بالنبرة  الأميركية الغليظة كأنه أميركي من أصل عربي في الحزب الجمهوري، وهو يبدو كذلك أيضا، فلا بد أنه لاحظ انه يكثر من استخدام هذا اللفظ في وصف حزب الله الذي لا يصفه حتى خصومه بالغطرسة. قد يصفه أحدهم بالغرور، ولكن الغطرسة كلمة لا تلائم حزب الله حتى إذا تكبر أو اعتد بنفسه. ثم انتبهت إلى أن الرجل، وهو من قسم الإعلام والدبلوماسية العامةpublic diplomacy  في الخارجية الأميركية، أي من الأنماط البشرية التي جاءت بها كارين هيوز إلى وسائل الإعلام العربية، يكثر من استخدام هذه الكلمة بشكل عام بمناسبة وبدون مناسبة. وربما يحب استخدامها، فهي تملأ فمه. يقولها ويشدد على الطاء غير الموجودة بالانجليزية خشية أن تخرج تاء، ويشدد على الغين والراء لئلا يخرجا حرفا واحدا كما بالانجليزية التي لا يوجد فيه غين. فتخرج الكلمة من فيه متغطرسة مغتبطة،  مليئة بذاتها مثله، متكورة مثل علكة كبيرة، أو ما دامت بالطاء، مثل طابة مطاطية حتى "طجَّت" (لو كان في العربية مثل هذا الفعل) على طاولة الأستوديو قبل أن ارتدت وطبزت على مسامعنا.


 


 ولفظ غطرسة هذا يذكرني بأفعال المحاكاة المعروفة بمحاكاتها للأصوات، مثل صرير وأزيز وحفيف وفحيح وجعجعة وجعير وهكذا. أو مثل الأفعال التي تحاكي معنى الفعل ذاته مثل تأتأ وتأفف، أي كرر قول أفٍ من الضجر، تأخخ أو قال أخ من الوجع وهكذا، أو تأحأح، تأحح من البرد، أو تنحنح. حتى قطَّ أو قطع تصور فعل القطع أو "جعلك" العامية تتخيل القماش أو الورق وهو ينكمش في القبضة، وتدحرج وغيرها.


 


 وفعل غطرس وتغطرس في مخيلتي يحاكي الصفة وليس الصوت. فحالما تسمع الكلمة تتخيل صورة أو صفة. تماما كما أن فعل تشدق يجعل المستمع فورا يتخيل ما يعنيه. ولفظ الغطرسة يطبع فورا في الذهن صورة المتغطرس على شكل فرنانديز وربما أصدقائه العرب الذين علموه الحجج العربية المفحمة عن حزب الله وحماس وغطرستهما بعدم قبول الأمر الواقع، واتهام سوريا أنها لا تريد أن تحارب ولذلك ترسل غيرها. وهي حجة لا تلائم أميركي إطلاقا، فهي تحرض سوريا على الحرب اختبارا لها، ولكنه مع ذلك يرددها، يتشدق بها كأنه يتحدى ويستحث سوريا على فتح الحرب إذا كان فيها رجولة أو قومية...غريب أن يتكلم مسؤول أميركي هكذا. واضح أنه سمع هذه الحجة من عرب كما سمع فعل غطرسة. الرجل مغتبط كما كان عربه مغتبطين في الأسابيع الأولى من الحرب على العراق وكان في اغتباطهم غطرسة وغبطة و"عباطة" و"برطعة" و"لطاعة" و"طقاعة" وهناك طاءات وطاطات أخرى، وكلها تفيد المعنى إذ تطبعه في أذنك هذه الألفاظ دون أن تضطر أن تفهمها عزيزي القارئ.


 


فرنانديز معجب بلفظ غطرسة ويحب أن يكرره. ولا شك أن العرب الذين علموه اللفظ قد ورطوه.


والفعل غطرس هو من الأفعال الرباعية التي لا جذر ثلاثي لها، وقد جمعها الياس عطا الله في معجمه للأفعال الرباعية، وهو يقول إن جزء كبيرا منها يتشكل من فعلين وهو يقول عن فعل غطرس الرباعي:


فلانٌ: تطاوَلَ وأعْجِبَ بنفسِهِ وتصرّفَ بقوّةٍ وصَلَفٍ. ـ فلانًا: أغضَبَهُ. من "غت" بمعنى جاهلٍ و- "رس" بمعنى أصلٍ. في (مقاييس اللغة لابن فارس) الرّاءُ زائدةٌ، فهي من غطسَ وغطَّسَ {فعرل}. تغاطسَ: تغافلَ. أرجِّحُ أنّها مُعَارَةٌ منّ الفارسيّةِ. يقتبس عطا الله  كتاب: السيّد إدي شير ( 1987- 1988). كتاب الألفاظ الفارسيّة المعرّبة. القاهرة: دار العرب للبستاني.( ط 1 بيروت، المطبعة الكاثوليكيّة 1908). الغِطرس والغِطريس: الظالم المتكبّر. مركّب من كلمتين فارسيتين"غت" أي جاهل وأحمق ومن "رس" أي أصل. ( ص 116).


إلياس عطا الله. معجم الأفعال الرباعيّة في العربيّة. (بيروت: مكتبة لبنان، 2005)


 


ولا شك أن الغطاريس أعلاه مجموعة من الجهلة الحمقى الأصيلين.


ويقول الخليل بن أحمد في العين:


غطرس: الغَطْرَسةُ: الإِعْجَابُ بالنَّفْس، والتّطاول على الأقران، يقال : فتىً مُتَغَطْرِس.









كم فيهم من فارسٍ مُتَغَـطْـرِسٍ


 


شاكي السِّلاحِ يذبُّ عن مكروبِ


 


ويتكرر بيت الشعر نفسه في  لسان العرب- لابن منظور:


غطرس: الغَطْرسة والتَغَطْرُس: الإِعجاب بالشيء والتَّطاوُل على الأَقْران؛ وقيل: هو الظُّلْم والتكبُّر. والغِطْرِس والغِطْرِيسُ والمُتَغَطْرِس: الظالم المتكبر، قال الكُمَيت يخاطب بني مَرْوان:









ولولا حِبالٌ منكمُ هي أَمْرَسَتْ


 


جَنائِبَنا، كُنَّا الأُتاةَ الغَطارِسَـا


وقد تَغَطْرَسَ، فهو مُتَغَطْرِس. وفي حديث عمر، رضي اللَّه عنه: لولا التَّغَطْرُس ما غَسَلْت يَدي. التَّغَطْرُس: الكِبر. وقال المُؤَرِّج: تَغَطْرس في مِشْيَتِه إذا تَبَخْتَر، وتَغَطْرَس إذا تَعسَّف الطريق. ورجل مُتَغَطْرِس: بخيل؛ في كلام هذيل.


 


وفي  تهذيب اللغة للأزهري جاء فعل غطرس: قال الليث: الغطرسة: الإعجاب بالشيء، والتطاول إلى ألأقران، المتغطرس: الظالم المتكبر، وهو الغِطْرِيس.
ولفظ غطريس أوحتى غِطرٍس يلائم أمثال فراننديز وجماعته الغطارسة. ولكن حبال المقاومة في العراق أمرست جنائب عشيرة الغطارسة هذه.


وغطريس على وزن عتريس أيضا. والعَتْرَسَةُ عند ابن منظور هي : الغَصْب والغَلَبَة والأَخذ بشدِّة وعُنْفٍ وجَفاء وغِلْظَةٍ، وقيل: الغَلَبَةُ والأَخْذُ غَصْباً. يقال: أَخَذَ مالَه عَتْرَسَةً. وعَتْرَسَه مالَه، متعدّ إِلى مفعولين: غَصَبَهُ إِياه وقهره.


ولذلك يصح أن نقول إن هؤلاء الغطاريس قد عترسوا العراق وأهله وشعبه.
وعَتْرَسَهُ
: أَلزقه بالأَرض، وقيل: جذبه إِليها وضَغَطَهُ ضَغْطاً شديداً.



وفي حديث ابن عمر قال: سُرِقَتْ عَيْبَةٌ لي ومعنا رجل يُتَّهَمُ فاسْتَعْدَيْتُ عليه عُمَرَ وقلت: لقد أَردتُ أَن آتي به مَصْفُوداً، فقال: تأْتيني به مصفوداً تُعَتْرِسُه؟ أَي تَقْهَرُه من غير حُكْمٍ أَوجب ذلك؛ قال شمر: وقد روي هذا الحرف مصحَّفاً عن عمر، فقال: قال عمر بغير بينة، وهي تصحيف تُعَتْرِسُه؛ قال: وهذا محال لأَنه لو أَقام عليه البينة لم يكن له في الحكم أَن يكتفه. وفي حديث عبد اللَّه: إذا كان الإِمامُ تَخاف عَتْرَسَتَه فقل: اللهم رَبَّ السموات السبع ورَبَّ العرش العظيم كُنْ لي جاراً من فلان.والعَتْرَسُ والعَتَرَّسُ والعِتْريسُ، كله: الضابط الشديد، وقيل: هو الجَبَّار الغَضْبان.



والعِتْريسُ والعَنْتَريسُ: الداهية. والعِتْريسُ: الذَّكَرُ من الغِيلانِ، وقيل: هو اسم للشيطان. والعَنْتَريسُ: الناقة الصُّلْبَةُ الوثيقةُ الشديدة الكثيرةُ اللحم الجواد الجريئة، وقد يوصف به الفرس؛ قال سيبويه: هو من العَتْرَسَةِ التي هي الشدة، لم يَحْكِ ذلك غَيْرهُ؛ قال الجوهري: النون زائدة لأَنه مشتق من العترسة.
أَبو عمرو: يقال للديك العُتْرُسانُ والعِتْرِسُ.


ذكر الغيلان والديك إذا، حسنا. واصلا لفت نظرنا أن غطريس على وزن عتريس، لا بأس بهذه الألفاظ.


 


انتبهت في سبعينيات القرن الماضي عندما كنت طالبا في الجامعة أن بعض الصحافيين والكتاب اليهود القدامى المختصين بالعرب أكثروا من استخدام ألفاظ وأمثال وحكم عربية مفهومة ولكنها قليلة الاستخدام بالعربية، ويستغرب أن تسمع من قبل يهود لا يكادوا يتقنون العربية: "يا خوف عكا من هدير البحر"، "امشي الحيط الحيط وأقول يا ربي السترة"، و"يا شايف الزول يا خائب الرجا"، "بكرا بالمشمش"، وأيضا "كل كلب بيجي يومُه!!". ثم تبين لي أنهم تتلمذوا في ستينيات القرن الماضي عند شاب عربي واحد محبط كان يعلمهم العربية ويتهكم، "يتفشش"، وهم كرروا كلماته بجدية، وبحثوا عن مناسبة لاستخدامها.  


 


التعليقات