سليمان منصور: يصير الفنّ أخرق إن لم ينتمِ إلى بيئته الأولى

الفنّان سليمان منصور

 

مجالسة سليمان منصور في القدس تبعث فيك حيرةً ما؛ ما الفرق بين الشخص ولوحته؟ هل هما شيء واحد؟ أنظر إلى هذا الرجل، وأفكّر في أنّ الخطوط والألوان الأولى الّتي وقعَت عليها عيناي الجاهلتان في سريري وأنا رضيعة، كانت خطوط لوحة "جمل المحامل" والألوان الحامية الداكنة لملصق يوم الأرض الأوّل. كيف تُصنع الأيقونة؟ أتسجن صاحبها أم تفتح له الدنيا على وسعها؟ فنّانون وشعراء من جيل سليمان منصور مرّت حياتهم الفنّيّة على خطّ موازٍ وشبه متطابق مع حياة الفلسطينيّين السياسيّة، كيوم الأرض والانتفاضة الأولى والنكسة. أهو حظّ ورافعة أم قفص؟

منصور، الّذي أسّس لمدرسة فنّيّة سنتبيّن ملامحها في حياته، واضحة وقادرة على التأثير وفخمة، يتحدّث بهدوء دون زواجر أو أفكار تعكّر سلاسة كلامه، كأنّه يرسم بالكلام. تنكمش سحنته عند الحديث عن القدس المتحوّلة، وأدوات الفنّ التكنولوجيّة، ثمّ تنفرج عند الحديث عن الطفل الّذي كانه، الّذي سيكبر ويصير واحدًا من أبرز الفنّانين التشكيليّين العرب.

حاولت في هذا الحوار الطويل الّذي أجريته معه لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، أن أزور معه حقبًا زمنيّة متعدّدة، وأن أعرّج على مساحات شخصيّة وفنّيّة وسياسيّة عديدة. لكنّ الحديث عن لوحة واحدة أو فترة واحدة سيطول ويتشعّب دون أن تشعر.

 

فُسْحَة: سأبدأ معك من هذه اللحظة؛ علامَ تشتغل؟ وما الّذي يُشغلك فنّيًّا؟

سليمان: الهمّ دائم؛ ابتداءً من اللحظة الّتي يقول المرء لنفسه إنّه فنّان، يبدأ الهمّ، الّذي يتبدّى في الرغبة في عدم التكرار وجلب الجديد المتوائم مع العصر، وإيصال كلمة شعبه. هذا القلق لا ينتمي إلى فترة زمنيّة؛ ما دمت أعيش في عالم الفنّ فسيبقى القلق مستقرًّا في رأسي، ثمّ إنّ الهمّ السياسيّ كبير. ثمّة فنّانون يحاولون عزل أنفسهم عن السياسة، السياسة وراءَكم وراءَكم، لا تستطيعون الهرب منها. أمّا حجم الظلم الحاصل في هذا العالم فيجعل المسألة أكبر من أن تختار. المسألة حاضرة رغمًا عن أنوفنا. أعمل في هذه الأيّام بالطين، وأرسم، وكلّ شيء يصبّ في هذا الهمّ.

 

"جمل المحامل"، سليمان منصور، 1973

 

فُسْحَة: هل يستطيع هذا القلق العيش إلى جانب رضاك عن منجزك الفنّيّ؟

سليمان: لا أقول إنّي لم أقم بالّذي كان ينبغي لي القيام به، لكنّي لست راضيًا مئة بالمئة؛ أتصوّر أنّه كان بإمكاني أن أُنتِج أكثر من ذلك كثيرًا، لكنّ الحياة تجرف الإنسان وتلهيه بمسائلها الاقتصاديّة والعائليّة، وأحيانًا يشعر المرء بأنّه يرغب في الراحة. كلّ ذلك يُعتبر وقتًا مقتطعًا.  

 

فُسْحَة: لكن إن رجعنا بالوقت إلى الوراء، فستظلّ هذه الأمور موجودة.

سليمان: يعني لو تفرّغتُ مئة بالمئة للعمل الفنّيّ، لكنت أنجزت الضِّعْف، لكن هكذا سارت الأمور، والإنسان يظلّ إنسانًا ضعيفًا، أمور جمّة تخترقه وتروح وتغدو في حياته.

 

فُسْحَة: هل تفكّر في الأيقونة الّتي صارت إليها لوحاتك؟ هل تشغلك رمزيّتها على نحوٍ ما؟ وكيف أثّر تحوّلك إلى عَلَم في فنّك؟ أسَجَنَك أم حرّرك؟

سليمان: هذا ليس شعورًا دائمًا؛ أحيانًا أشعر فعلًا بوجود هذا الرمز، وأحيانًا أشعر بأنّي لا أختلف عن أيّ فنّان عاديّ يحاول أن "يُخبّص". يتولّد الشعور من طبيعة اللحظة العينيّة. ليس من شكّ في أنّي أشعر بأنّ حرّيّتي محدودة، وهذا يمنعني أحيانًا من أن أتصرّف على سجيّتي.

 

فُسْحَة: حسنًا، سأسألك عن أعمالك لا عن شخصك؛ عندما تشبّعت عيناي من لوحة "جمل المحامل" كطفلة، لم أكن أعرف اسمك. أعمالك تحوّلت إلى أيقونات وطنيّة تعيش وحدها؛ أما زلت تشعر برابط حميم بها؟ أم تشعر بأنّها فلتت من بين يديك؟

سليمان: لدى "جمل المحامل" حالتها الخاصّة، وهي تختلف عن بقيّة أعمالي؛ ليس لأنّها أثيرة أكثر من غيرها، أو لأنّي أراها أفضل من أعمال أخرى، إنّما المسألة تقف عند الشهرة والاهتمام اللذين حظيت بهما. أشعر بأنّها سُرقت منّي ولم تَعُد جزءًا منّي، وأنا قبلت بالأمر الواقع (يقول ضاحكًا). على العكس، ثمّة أوجه إيجابيّة في هذا الأمر الواقع. في المقابل، ثمّة لوحات بيعت أو وُضعت في متاحف، يلازمني حيالها الشعور بأنّها لي. من المستحيل أن أشعر بعكس ذلك، أعرف كلّ تفصيل صغير وكبير، كلّ خدعة فيها.

 

فُسْحَة: هل فكّرت لحظة إنجازها في "عظمتها" أو في تميّزها الخاصّ، قبل أن ترى عيون الناس؟

سليمان: نعم، شعرت بتميّزها حين أنجزتها، لكن ليس إلى درجة أن تصل إلى ما وصلت إليه.

سليمان منصور في مرسمه، 2012

 

فُسْحَة: عُلّقت "جمل المحامل" في بيوت عائلات لا تستهلك الفنّ أو تربطها به علاقة ما. كان انتشارها يعود أيضًا إلى قرار طباعتها من قِبَل "منظّمة التحرير الفلسطينيّة"؛ كيف تنظر إلى هذه العلاقة بالثقافة الشعبيّة؟ هل ترى أنّ المدخل إليها سياسيّ فحسب؟ وهل فَسُدَ في رأيك؟

سليمان: أتصوّر أنّ ثمّة شيئًا ما نفتقده الآن، مقارنةً بفترة السبعينات والثمانينات؛ ثمّة عناصر وقِيَم خسرناها، أهمّها الانتماء الوطنيّ. لقد بَهِتَ، لا أعرف السبب المباشر، وقد أذكر العديد من الأسباب، لكن ينبغي ربّما دراستها وتفحّصها. حين يَبْهَت هذا الانتماء يَبْهَت كلّ شيء: الدافع السياسيّ، والرابط الإنسانيّ، والرابط الاجتماعيّ. إنّ اهتمام الناس بـ "جمل المحامل" وغيرها من الأعمال، لا يعود إلى أسباب سياسيّة حصرًا. ثمّة جملة من الأمور الّتي وجدها الإنسان العاديّ في اللوحة، كالبُعد الدينيّ وقبّة الصخرة، والبُعد التراثيّ المتجسّد في الرجل وزيّه الشعبيّ الّذي يذكّر كلّ شخص فينا بجدّه أو بأبيه، وثمّة البُعد السياسيّ الّذي يقول إنّنا لا نتخلّى عن القدس. عام 1980، رسمت لوحة طبيعة صامتة، رسمت خبز طابون وحبّتَي بندورة وبصلة، وقد حظيَتْ بإقبال كبير جدًّا، ربّما أكثر من "جمل المحامل".

 

فُسْحَة: هل ترى الأمر غريبًا؟

سليمان: لا، ربّما أسقط الناس عليها العناصر السياسيّة والتراثيّة وحتّى الاقتصاديّة؛ فقد توحي بأنّ بإمكان الإنسان الفلسطينيّ أن يعيش من أرضه ومن أبسط الأمور. أنا لم أقصد أن تحمل اللوحة أبعادًا كهذه؛ كلّ ما قصدته مجرّد تمرين بمادّة جديدة، وهو تمرين استُخدم قبل عصر النهضة.

 

فُسْحَة: سأعود للمرّة الأخيرة إلى "جمل المحامل"، فهي رُسمت ثلاث مرّات، ربّما واحدة على الأقلّ جاءت إعادتها بناءً على طلب، وثمّة لوحات أخرى أعدْتَ رسمها مع إجراء بعض التغييرات...

سليمان: دعينا نُسمّيها محاورة...

 

فُسْحَة: حسنًا. أحبّ أن أسمع منك الدوافع وراء هذه المحاورة، في أمر إعادة رسم "جمل المحامل"؛ هل هي سياسيّة؟ مادّيّة؟ شخصيّة؟

سليمان: لعلّها تحمل جميع هذه الدوافع. تحدّثنا عن شعوري بأنّ لوحةً ما سُرقت منّي. أحد الأسباب الّتي تجعلني أعيد رسم اللوحة رغبتي في إعادة امتلاكها؛ قد لا يكون جانبًا جوهريًّا لأنّه مادّيّ. لم أكسب شيئًا يُذكَر من اللوحة الأولى من "جمل المحامل"؛ فأنا لم أبعها، ولم أكسب شيئًا من طباعتها أيضًا. عام 1976، شاركت في معرض في لندن، ورأيت أنّه من الضروريّ أن تبقى اللوحة لبُعدها السياسيّ؛ فأعدت رسمها، واشتراها السفير الليبيّ، وحين رسمتها عام 2005، كان ذلك لأسباب مادّيّة. كانت لندن بالنسبة إلينا آنذاك شيئًا كبيرًا، على الرغم من أنّ المعرض كان على متن قارب متحرّك (يقول ضاحكًا)، ذلك يعكس حالة الفلسطينيّ.

 

فُسْحَة: هل منعتك الأيقنة الّتي حصلت على أعمالك، والجمهور الّذي كسبته، من التجريب؟ أو "التخبيص" كما تسمّيه؟ وهل تفكّر في المتلقّي عندما ترسم؟ هل هو واضح المعالم بالنسبة إليك؟

سليمان: لا، لم يمنعاني. أحاول أن أستعيد الزمن، رسمت بقناعة تامّة. إن كنت مثلًا امتنعت عن رسم امرأة عارية؛ فذلك لم يكن خوفًا من المجتمع، إنّما ببساطة لم يشغل ذلك اهتمامي. وإن امتنعت عن السخرية - وفي ذلك موضة رائجة اليوم في الفنّ - فذلك لأنّني لست مهتمًّا بها. كنت في بعض الأحيان أضيف بعض التفاصيل على اللوحة، مثل الزخارف أو الخلفيّات؛ لأقرّبها من الإنسان العاديّ.

 

"الزوّادة"، سليمان منصور، 1980

 

فُسْحَة: وكنتَ في أحيانٍ أخرى تزيل بعض التفاصيل! كأن تزيل شجرات الزيتون وتبقي على الأشخاص الّذين يقطفونه.

سليمان: نعم، لذلك فلسفة أخرى لكنّها مشابهة. رسمت مثلًا قرًى فلسطينيّة، كنت أحذف فيها أنتينات التلفزيون، وخزّانات المياه على الأسطح، أو عمارات جديدة ظاهرة في المشهد كنت أحذفها كذلك؛ فأعيد القرية إلى نفسها قبل مئة سنة. وأحيانًا أضيف من مخيّلتي بعض التفاصيل كالشجر، أو أعيد ترميم بيت مهدّم. القرية مربوطة بالخضرة والطبيعة، لكنّ قرانا الحديثة فقدت ذلك الرابط، فانشغلت في إعادته. لا يمكننا الإشارة إلى عناصر رمزيّة دون غيرها؛ فإضافة عناصر تراثيّة كالتطريز مثلًا، ارتبطت بالنسبة إليّ بإلحاح مسألة الهويّة، الّذي كان سائدًا في سنوات السبعينات والثمانينات. كان ثمّة إنكار لوجودنا شعبًا فلسطينيًّا، وهذا ما دفعنا إلى العمل على تأكيده بصفتنا فنّانين، من خلال خلق رموز بصريّة تؤكّد وجود هذا الشيء التجريديّ؛ فخضرة القرية، وإن بدت أمرًا جماليًّا، إلّا أنّها تعبّر كذلك عن الانتماء إلى القرية الفلسطينيّة. أنواع الأشجار، أيضًا، تُسهم في هذا التعبير، جغرافيًّا وزمنيًّا؛ فالبرتقال يعود بنا إلى ما قبل 1948، والزيتون إلى ما بعد الاحتلال. إسماعيل شمّوط رسم شجرة واحدة نصفها زيتونة ونصفها الآخر برتقالة، وكان ذلك قمّة في دمج الزمان والمكان.

 

فُسْحَة: أتتحدّث عن انتماء جمعيّ للقرية، أم هو شخصيّ أيضًا؟ كيف أثّرت فيك نشأتك الأولى في قرية بير زيت، ولا سيّما أنّك لم تعش فترة طويلة فيها بعد وفاة أبيك؟

سليمان: وُلدت في بير زيت، ونشأت فيها حتّى سنّ معيّنة. كانت أجمل أيّام العام أيّام الصيف، كنّا نقضيها في بير زيت. وُلدت في أرض جدّي هناك، ومن ثَمّ قضيت هذه الأيّام من السنة فيها. كان هناك أجمة صغيرة أذكرها، أذكر أشجار التوت والخوخ والإجاص والزيتون، كانت جنّة بالنسبة إليّ طفلًا. يأتي الرعاة ويغسلون أغنامهم في الأجمة، فنسبح معها. نخرج من الماء ونشرب حليب الأغنام بعد أن يحظى بقطرات حليب التين، فيصير مثل الجبنة.

 

فُسْحَة: تتحدّث عن ذكريات طفولتك ببهجة!

سليمان: طبعًا ثمّة ذكريات أليمة، وأخرى جميلة.

 

فُسْحَة: ماذا عن الذكريات الأليمة؟ هل ترتبط بموت أبيك؟

سليمان: أتذكّر موته كما أتذكّر حلمًا، لم يؤثّر موته فِيَّ آنذاك، لكن بعد فترة من الزمن بدأت أشعر بالفقدان. كنت حينما تنتهي العطلة الصيفيّة مع الأهل، أُجَرّ جرًّا إلى المدرسة الداخليّة. في مرّة من المرّات هربت واختبأت في مغر، وأخذوا يبحثون عنّي (يقولها ضاحكًا).

 

فُسْحَة: احكِ لي عن محاولة استعادة أرض الطفولة؛ هل صحيح أنّك عن طريق بيع لوحاتك تحاول استعادتها قطعةً واحدة؟

سليمان: نعم، جُزّئت أرض جدّي حصصًا على أفراد العائلة، وأنا أحاول الحصول على الأرض كاملةً من الأقرباء. فنّي دخلي الوحيد؛ لذلك أسعى من خلاله إلى ادّخار المال لهذا المشروع.

عائلة سليمان منصور عام 1952

 

فُسْحَة: ثمّ في شبابك، التحقت بـ "أكاديميّة بتسلئيل" الإسرائيليّة وخرجت منها لأسباب عنصريّة؛ هل واجهت صراعًا عند الالتحاق بها في البداية؟ أم كان أمرًا عاديًّا أن يكون ذلك مكانك بصفتك فنّانًا فلسطينيًّا؟

سليمان: كانت سنّي تسعة عشر عامًا آنذاك، ولمّا أكن قد شكّلت بعدُ انتمائي الوطنيّ. حاولت الأردنّ ما استطاعت أن تسلخ هذا الانتماء عن الفلسطينيّ بأساليب شتّى، منها المناهج المدرسيّة وصورة الملك والملكة. أتصوّر أنّه قُبِلت سريعًا في الأكاديميّة بسبب أنّ فكرة وجود فلسطينيّ هناك راقتهم. في البداية، كوّنت صداقات وزمالات، جميعنا يحمل همًّا فنّيًّا لم أشعر معه بالعنصريّة من الطلّاب أو الأساتذة. تعرفين، قد يشغل بال الطلّاب سيجارة أو كأس أو حفلة، هذا ما بدا لي؛ شعرت بأنّني في البيت، ربّما هي قدرتي على التأقلم. تقرّبت إلى زميل لي فكنّا نتحدّث في التاريخ، فقال لي ذات مرّة: "إن كنت مؤمنًا فسينبغي لك أن تؤمن أيضًا بأنّ الله أعطى هذه الأرض لإبراهيم، أي لنا"؛ قلت له: "سنترك موضوع ملكيّة إبراهيم جانبًا، فلنقل إنّه لكم، هو أعطاكم هذه الأرض وأنتم رميتموها، وذهبتم إلى مصر، أعطاكم النعمة ورفستموها". بعد أيّام، حقّقت المخابرات الإسرائيليّة معي في أمور كثيرة، من بينها هذه المحادثة.

 

فُسْحَة: وماذا عن حادثة المكتبة؟

سليمان: بالنسبة إلى هذه الحادثة، فقد احترقت مكتبة الأكاديميّة في لحظة شعرت بعدها بأنّ الجميع ينظر إليّ بحذر. مَنْ سيقوم بهذه العمليّة التخريبيّة سوى هذا الفلسطينيّ؟ ومِن ثَمّ اكتشفوا أنّ السبب وراء الحريق كان خللًا في الكهرباء؛ وكان ذلك إليّ بمنزلة انكسار لوح زجاج دقيق.

 

فُسْحَة: هل اعتذروا إليك؟

سليمان: لا، لم يعتذروا، عادوا إلى الابتسام فحسب. لم يعتذروا لأنّهم لم يتّهموني بشكل مباشر، إنّما حقّقت معي الشرطة، ورأيت الاتّهام بالنظرات والتعامل. وفي العام نفسه انسحبت من الأكاديميّة. توجّهوا إليّ بطلب دفع رسوم الدراسة المتراكمة عليّ، وكان ذلك سببًا إضافيًّا، ثمّ إنّ شهادتهم لا يعترف بها أحد. أنا لم أستفد فنّيًّا من تجربتي هناك؛ أعتبر أنّي طوّرت نفسي بنفسي. الموضة هناك كانت الفنّ التعبيريّ والتجريديّ "اللطش"، وهذا لا يُغويني.

 

فُسْحَة: هل شكّل هذا المفصل تغييرًا على أعمالك؟ هل جعلها تبدو سياسيّة أكثر؟ وهل شكّلت اللحظات التاريخيّة السياسيّة تغييرًا مباشرًا عليها؟ أين كانت لحظاتك؟

سليمان: لا أعتبر هذه اللحظات، الّتي كانت تُخرِج منّي لوحتين أو ثلاثًا، كحرب لبنان مثلًا، لا أعتبرها مشكّلةً لمراحل فنّيّة. ربّما أستطيع تقسيم مسيرتي إلى مرحلتين: مرحلة السبعينات والثمانينات، مرحلة الهويّة، تأكيدها وتعزيز الانتماء؛ هذه المسألة لم تكن مخطّطة ولم تتأتَّ من وعي سابق. أمّا المرحلة الثانية فبدأت عند الانتفاضة الأولى؛ حصل تحوّل تقنيّ في الأقلّ، حين بدأت العمل بموادّ خامّ محلّيّة، أنا وغيري من الفنّانين. قاطعنا المنتوجات الإسرائيليّة تبعًا لفلسفة الانتفاضة، فاستخدمت موادّ من محيطي، كالطين والتبن، وهذا أحدث تغييرًا على أسلوب الرسم؛ فذاك الدقيق الّذي يُرسم بالزيت لا يمكن أن تحصلي على دقّته بالطين، فصار الرسم يميل إلى التجريد والتبسيط. في بداية الأمر كنت أخفي التشقّقات الّتي يُحدثها الطين، ثمّ شيئًا فشيئًا أدركت جمالها الّذي يعكس وضعنا السياسيّ المتشرذم، ويعكس على المستوى الشخصيّ الكبر في السنّ الّذي بدأت أشعر به، والأرض الّتي رسمتها. عوضًا عن رسم المشهد الطبيعيّ، بدأت أرسم به، بمادّته. اعتقدت أنّ الناس لن تتقبّل هذا الأسلوب، لكنّي شاهدت الألفة الّتي تكوّنت بين الناس واللوحات، واقترابهم لشمّ الطين أو الحنّاء أو التبن. إن رغبتِ في دراسة أثر الانتفاضة في الثقافة الفلسطينيّة، فسترين أثرها بائنًا في الفنّ التشكيليّ أكثر من أيّ فنّ آخر.

 

"البيّارة"، سليمان منصور، 1984

 

فُسْحَة: في مراحل معيّنة من التاريخ الفلسطينيّ السياسيّ، كان هذا الفنّ قادرًا على الحشد، متمثّلًا في فنّ الملصق مثلًا؛ أتعتقد أنّ هذا الأمر انتهى، أم أنّ الفنّ لا يزال قادرًا على هذا التأثير؟

سليمان: الفنّ لا يفقد هذه الخاصّيّة، لكنّها قد تَبْهت، تدخل عناصر عديدة على العمل الفنّيّ. إن تحدّثنا عن الملصق، فقد تدخّلت التكنولوجيا مثل "الفوتوشوب"، ولم نَعُد بحاجة إلى الريشة من أجل رسم الملصق. هذه أدوات معاصرة أعتبرها عدوّتي الشخصيّة. كذلك الكاميرا و"الفوتوشوب". ليس لديّ المقدرة على منافسة هذه الأدوات، ثمّ إنّني لا أرغب في منافستها، رغم أنّني أرى أنّ الملصق المعاصر اتّخذ على عاتقه جزءًا من المسؤوليّة السياسيّة، الّتي عبّر عنها الملصق القديم في إشارته إلى يوم المرأة أو الأرض أو الطفل أو غيره.

 

فُسْحَة: سمعت عن ذكريات حادّة، عشتَها مع أوّل مظاهرة خرجت في الرام في الانتفاضة الأولى، حدّثني عنها...

سليمان: اعتقدت آنذاك - مخطئًا - أنّي أحد أهمّ الأشخاص في الثورة، كنت ماخد بحالي مقلب! اعتقدت أنّ أيّ مظاهرة تخرج، لا بدّ لفنّي من أن يكون حاضرًا فيها. خرجت في هذه المظاهرة في الرام، وانتبهت إلى أنّ الناس لم يعرفوني ولم يحملوا لوحاتي. أطفال ورجال ونساء، يمشون ولا ينتبهون إليّ؛ فسبّب ذلك لي صدمة نوعًا ما. أنا لست مَن أظنّه. هذا الموقف أعطاني الشجاعة؛ شجاعة التجريب، كالتجريب في الطين والموادّ الجديدة الّتي تحدّثنا عنها.

 

فُسْحَة: لكنّ الناس كانوا يعرفون لوحاتك المتداولة...

سليمان: نعم، عرفوا "جمل المحامل" في الأقلّ، لكنّ كثيرين لم يعرفوا مَنْ صاحبها أو اسمه. رأيت مرّة لوحة "جمل المحامل" في الولايات المتّحدة، كُتب عليها "من التراث الفلسطينيّ"؛ سعدتُ بذلك كثيرًا.

 

فُسْحَة: أحبّ من لوحاتك تلك الّتي تظهر فيها امرأة ممشوقة العنق، وتحمل القدس فوق رأسها. انحيازي إليها يأتي من أنّها لوحة نسويّة في رأيي؛ فبينما ينحني الرجل في "جمل المحامل"، ترفع المرأة رأسها بهدوء وثقة؛ كيف تنظر أنت إلى هذه المقاربة؟

سليمان: المرأة في لوحاتي متعدّدة الرمزيّة؛ فهي ترمز إلى الثورة والوطن والأمّ. المرأة رمز شامل؛ هذا إذا نظرنا إليها من جانب واحد، ومن جانب آخر أنا أراها جميلة، وجهها جميل، جسدها، ثوبها... لذلك جذبتني جماليًّا ورمزيًّا.

 

فُسْحَة: رغم وجود لوحات لنساء عاديّات لديك، منزوعات من رمزيّتهنّ وأسطورتهنّ...

سليمان: نعم، ثمّة بعض اللوحات، لكنّها قليلة.

 

فُسْحَة: هل رسمت أمّك؟

سليمان: نعم، رسمت أمّي وأبي في زواجهما عام 1941 أو 42. أعجبتني الصورة لأنّ أمّي كانت أقصر من أبي كثيرًا؛ فوضعوا مخدّة تحت قدميها، وعلى ما يبدو أنّ قدمها انزلقت فوق المخدّة، فمالت على أبي. ظهرت صورة غير تقليديّة، فيها الكثير من الألفة. أتذكّر على نحو واضح كيف كانت أمّي ترسم خريطة البيت الّذي تحلم به؛ فرسمتُ "بورتريه" شخصيًّا لها على هذه الخريطة، الّتي صارت جزءًا من أمّي.

 

لوحة تُجسّد والديّ سليمان منصور في زواجهما، 1984

 

فُسْحَة: سواء اقترب فنّك من المرأة أو ابتعد، يظلّ في تلاحم مع مفهوم المقاومة. في نظرتك إلى الفنّ المعاصر وصُنّاعه؛ ألا تزال ترى علاقة وطيدة بينه و المقاومة؟ وهل يشارك الوضع الفلسطينيّ في تشكيل هذه الرؤية؟

سليمان: هذا السؤال لم يغِب عنّا؛ في فترات زمنيّة معيّنة تبرز أهمّيّته. بالنسبة إليّ، أؤمن بأنّ على الفنّ أن يعبّر عن فكرة. لست مستعدًّا لرسم لوحة، عالية الجمال من حيث الألوان والأشكال كأنّها قطعة ديكور. ثمّة مَنْ يتفلسف حول المعاني المحمولة من الفنّ الّذي يبدو كأنّه لا يقول شيئًا، لكنّي لا أوافق على استنطاقه بالقوّة، عليه أن يحمل فكرة شخصيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة.

 

فُسْحَة: هل تشعر بصوت هذه الفكرة أمام الاحتلال؟

سليمان: المشكلة أنّها غير مسموعة؛ الاحتلال أكبر منّا. في الماضي، شعرنا بأنّه باستطاعتنا أن نقاوم الاحتلال، لكن اليوم فقدَ الناس الأمل في قدرتهم على صنع التغيير.

 

فُسْحَة: هل فقدته أنت؟

سليمان: فقدته منذ زمن، لكنّي على مفاوضات دائمة مع نفسي.

 

فُسْحَة: ما الّذي يجعلك تستفيق في الصباح، وتستعدّ ليومك، وتذهب إلى مرسمك؟

سليمان: بعمل هيك عشان معنديش إشي تاني! (نضحك معًا).

 

فُسْحَة: هل تعتقد أنّ الأمل، الجمعيّ هذا، ضروريّ للرسم؟

سليمان: ليس بالضرورة أن يكون الأمل هو الدافع، قد يكون اليأس هو الدافع؛ فالفكرة - سواءً ارتبطت بالأمل أو اليأس أو الحبّ أو الحزن - ستصبح حقيقة في الرسم، بغضّ النظر عن الشعور الجمعيّ الّذي يحيطني. حتّى في أكثر أوقاتي يأسًا، يخرج هذا في العمل الفنّيّ، بل عليه أن يخرج. أحد الأساتذة في "بتسلئيل" - وكان يساريًّا جدًّا - رأيته منهمكًا وينقّط عرقًا، عندما سألته: "ما الخطب؟"، قال لي إنّه يتحضّر لمعرضه الفرديّ. وعلى الرغم من سنّه، إلّا أنّي ذُهلت لمعرفتي أنّه يتحدّث عن المعرض الرابع فقط. أسوأ المعارض تلك الّتي تُقام من أجل البيع. تعلّمت ذلك منه في سنّ مبكّرة. كثير من معارضنا تنشغل في البيع، وتُعرَض في "جاليريهات" تجاريّة.

 

سليمان منصور في شبابه، لندن، 1976

 

فُسْحَة: كيف ترى أعمال الفنّانين والفنّانات من جيل الشباب في فلسطين؟

سليمان: تختلف طبيعة حكم المرء بعد سنّ طويلة من التجربة. ثمّة فنّانون قد لا تعجبني أعمالهم كثيرًا لكنّهم مثابرون، ولديهم طاقات كامنة هائلة قد تتطوّر؛ فأشعر حيالهم بالاحترام. ثمّة أعمال تظهر فيها تقنيّات رسم عالية، لكنّها قد لا تُثير فيك أيّ مشاعر. في المقابل، قد تجدين فنّانًا لا يملك هذه التقنيّات لكنّه ذو فكر عميق؛ فالفنّ في النهاية فكر. أنا متفائل بشأن مستقبل الفنّ الفلسطينيّ، على الرغم من ملاحظتي وجود خطر معيّن على هؤلاء الفنّانين؛ أجدهم على عجلة من أمرهم، في أمر الشهرة والعرض في الخارج والبيع. ضرورة إقناع الألمان مثلًا بفنّهم، يجعلهم يُنتجون فنًّا كفنّ الألمان. التأثير الأوروبّيّ، بسبب هذه الحاجة إلى الاعتراف، يصبح سائدًا ويُفقد المرء انتماءه. أعتبر أنّ الفنّان الّذي لا يملك هذا الانتماء يصبح فنّه أخرق، لمحيطه، وللألمان كذلك.

 

فُسْحَة: قد يكون أيضًا هذا الجيل أقلّ حظًّا منكم؛ إنّ الفرصة التاريخيّة الّتي حظيتم بها، بسبب مظلوميّة القضيّة الفلسطينيّة وفرادتها وحضورها عالميًّا، لم يحظَ بها الجيل الجديد، وهذه الفرصة من الأمور الّتي دفعت بفنّكم؛ ماذا علينا أن نفعل حتّى نأخذ حصّتنا؟

سليمان: صحيح، الشرط التاريخيّ السياسيّ ساعدنا، لكنّكم تعيشون وضعًا مختلفًا. أنا أرى أنّ عليكم أن تعكسوا واقعكم، وأن تكونوا صادقين مع ذاك الّذي يحرّك أخلادكم. أكرّر ذاك الانتماء الّذي يشعر به المرء تجاه حياته وبيئته الأولى وهمومه. على الفنّان أن يكون أوعى من أن يكرّر أفكارًا لأنّها رائجة أو مطلوبة أو تبيع أكثر من غيرها.

 

فُسْحَة: بودّي لو أسألك عن القدس، علاقتك بها؟ هل تغيّرت؟ كيف تقضي يومك فيها؟

سليمان: مجرّد النظر إلى القدس أو العيش فيها، يجعلني أشعر بأنّها تجربة فريدة، حتّى لو اعتدت العيش فيها، لكنّي لا أحبّها كثيرًا، أشعر حيالها كما أشعر حيال "جمل المحامل"، لقد خرجت من يدي. أشعر بأنّها مدينة سياحيّة؛ فقدت الألفة معها، أمشي في شوارعها ويظنّني الناس أجنبيًّا، أشعر بغربة ما. إنّ الوضع الاقتصاديّ القاسي زاد من سياحيّتها.

 

فُسْحَة: هل فكّرت يومًا في العيش خارج فلسطين؟

سليمان: لا، أبدًا. على الرغم من أنّه كان باستطاعتي الحصول على الجنسيّة الأمريكيّة من أمّي. عندما أسافر أحسّ باختناق... لا أعرف لماذا.

 

"سلام"، سليمان منصور، 2007

 

فُسْحَة: هل تفكّر في موتك الشخصيّ؟

سليمان: نعم.

 

فُسْحَة: هل يدفع هذا التفكير فنّك إلى سباق مع الزمن؟

سليمان: لا، عندما أفكّر في الموت لا أخاف، ربّما أنزعج. أرى نفسي ممدّدًا (يقول ضاحكًا)، وأفكّر في ما سيكتبون عنّي.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.