خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة
لا يمكن، عند النظر في أعمال الفنّان ستيف سابيلا، تحييد القيمة البصريّة الّتي تحملها عن الرؤية الفكريّة والفلسفيّة، الّتي تتكوّن على شكل أسئلة أو إجابات يظلّ البصر - أو للدقّة - المخيّلة البصريّة، الوحيدة القادرة على تمثيلها. لكنّ سابيلا يتعاطى مع هذه المخيّلة من حيث إنّها سلسلة من العلائق الّتي تشنقنا بعدد لانهائيّ من الأشياء، حال انزلقنا من بطن الحياة، وما تجاربنا أو تجاربه الفكريّة والفنّيّة إلّا محاولات إثر محاولات في تحرير نفسه من هذه العلائق.
سابيلا، المولود في مدينة ينافس فيها الواقع أجود مخيّلة، يعتبر القدس عاصمة مخيّلته الشخصيّة. ومن حيث هي لم تعد لديه جذرًا أو منفًى بمعناهما المفهوم سياسيًّا، ستظلّ تشكّل موضوعًا للبحث والتجربة في أعماله. نجد آخرها أعمال كولاج يستخدم فيها سابيلا صورًا تاريخيّة للقدس، سيشعر الناظر أمامها بحيل المكان، وتساؤلات عن الحقيقة أو الوهم لِما يراه. وهي خيوط ومساحات برزخيّة يظلّ الكثير من أعماله الفنّيّة يقف عندها، يظلّ المتلقّي مضطربًا عندها وحاملًا حيرة بصريّة وفكريّة مثيرة.
أردت لهذه المقابلة مع الفنّان ستيف سابيلا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، أن تقف عند أعماله وعالم أفكاره الوجوديّة، فيضع الأخير تجربتنا البصريّة معه في سياقاتها الأعمق.
فُسْحَة: تتحدّث عن ضرورة تحرير النفس والوطن من خلال تحرير الخيال؛ هل تربط هذا الخيال بالضرورة بالمكان المستعمَر؟ وماذا أحدث انتقالك إلى برلين لهذا الخيال؟ أأجهده أم حرّره؟
ستيف: إنّ استعمار الخيال هو الشيء الأخطر على الإطلاق، إنّه متلازمة تُصيب كلّ واحد منّا. ولأنّه غير مرئيّ لنا ومن الصعب قياسه، فقد تمكّن من اختراق لاوعينا بصورة عميقة. على الرغم من ذلك، فإنّ جذور هذا الاستعمار ستكون مرئيّة أكثر حين يكون ثمّة احتلال على أرض الواقع، كما هي الحال في فلسطين. تحرير الأرض وتحرير النفس يتطلّبان تحريرًا للعقل. بمعنًى آخر، طالما أنّ ثمّة فلسطينيًّا واحدًا يتخيّل فلسطين حرّة، فلن يكون هناك أيّ فرصة أمام الاحتلال. بإمكاني القول إنّ وعيي تجاه الحياة تَكَثَّفَ حين تعلّمت كيف "أكون" في برلين، ببساطة، أن أكون. في اللحظة الّتي تهبطين فيها في برلين، ستعمل طاقة المدينة وعقليّتها على تغييرك، وعلى دفعك في اتّجاه كسر حواجزك الداخليّة وتحرير نفسك. الحرّيّة في برلين ليست نظريّة، وهي ليست فكرة أو يوتوبيا، إنّها شيء محسوس.
فُسْحَة: على أيّ شاكلة تكوّنت علاقتك الأولى بمدينتك، سياسيًّا وبصريًّا وشخصيًّا؟ ولأيٍّ من هذه الشاكلات كان الأثر الأقوى في أعمالك الفنّيّة؟
ستيف: منذ أن كنت ولدًا صغيرًا، حتّى جيل متقدّم، لم يتغيّر فهمي لحقيقة أنّ الدولة الّتي أنتمي إليها ليست دولة، إنّما أرض تحتلّها إسرائيل اسمها فلسطين. جميعنا نولَد أحرارًا، لكنّي أعتقد أنّ الإجابة الصحيحة للسؤال حول تطوّر الرابط بيني وبين القدس، هي في الحديث عن ولادتي، عند اللحظة الّتي فُصِلْتُ فيها عن حبل السرّة ثمّ صرت مربوطًا، معقودًا بعلاقات لانهائيّة، من بينها الاحتلال الإسرائيليّ للأرض وللنفس والعقل. صارت الحياة في ما بعد عبارة عن رحلة لانهائيّة من أجل تحرير أنفسنا من كلّ شيء؛ كي نعيش الحياة الّتي نتخيّلها لا تلك المفروضة علينا. لسنواتٍ كنت أدّعي أنّ القدس عاصمة مخيّلتي. وفي القدس، لا يمكنك الهروب من السياسة؛ فهي مدينة تستهلكك سياسيًّا وبصريًّا وشخصيًّا. والبصريّ أكثر ما يستفزّني لأنّه يشكّل وسيلة التعبير لديّ. مع الأسف، لوّث الاحتلال رؤيتنا. أحيانًا أعمد إلى تحويل هذه السمّيّة إلى فنّ أو العكس، أبحث عن الجماليّات غير المرئيّة من خلال تفحّص طبقات المرئيّ الملوّث.
فُسْحَة: تقول إنّ الخيال هو الجسر الوحيد للوصول إلى الرؤية، ومن الممكن تَتَبُّع وزن الخيال كمفهوم ومساحة في الكثير من أعمالك، لكن إذا ما تحدّثنا عن فنّ التصوير (Photography)، فإنّه سيكون في جوهره أداة للقبض على لحظة من الواقع إذا ما قارنّاه بالرسم مثلًا، وبهذا فمن الممكن أن يتضادّ مع الخيال؛ ما رأيك؟
ستيف: في مقال لي بعنوان "أركيولوجيا المستقبل"، كتبت كيف أنّ تعديل الضوء على الورق والألواح المعدنيّة هزّ العالم. إنّ الصور الناتجة خلقت أعظم تماثل مع الوهم الّذي بإمكان أعيننا رؤيته. من جهة أخرى، فليس فيها أيّ صلة بالواقع لأنّها شكّلت عالمًا خاصًّا بها. ومن حيث إنّ الصور قادرة على خلق وعيها تجاه العالم، أتساءل ما إذا حان الوقت لكي نتوقّف عن التركيز على العلاقة بين الصور والعالم الحقيقيّ. ربّما ينبغي لنا أن نستكشف العناصر البصريّة للعالم من خلال التأمّل في الصورة نفسها، بالضبط كما هي الحال في التجارب العلميّة. علينا دراسة الصور، علائقها ببعضها بعضًا، خصائصها، منابتها، من خلال مشاهدتها المباشرة لا من خلال مقارنتها الدائمة بالواقع. وقد يتيح لنا ذلك أن نكتشف احتمالات لانهائيّة مخبّأة في الصورة.
إنّ علاقتي بالصورة تشبه أن أكون في أوديسة الفضاء، في بحث عن إدراك لتكوين الصورة. وبما أنّ الصورة جزء من المخيّلة، فإنّ فكّ الرمز سيتيح لنا رؤية ما هو أبعد من واقعنا. وبصورة أعمّ؛ فالسيرورة ساعدتني على إيجاد حرّيّتي.
فُسْحَة: دائمًا نربط الخيال بالمستقبل والذاكرة بالماضي. المعادلة عندك أكثر تعقيدًا وتداخلًا. كيف يمكن هذا الخيال الّذي تدافع عنه أن يتوظّف في الماضي؟ وكيف يمكن الذاكرة أن تُسْعِف المستقبل، فنّيًّا طبعًا؟
ستيف: لكي أجيبك من ناحية فنّيّة، أعود لما كتبته في مذكّراتي "معضلة مظلّة هبوط"، الّذي أستكشف فيه مسألة استعمار المخيّلة. يتوهّم الناس أحيانًا أنّك حين تكتبين سيرة ذاتيّة عن الماضي، ستتمحور الكتابة حول الوقائع فقط، أو الحقيقة إن جاز التعبير.
أتحدّى أيّ شخص؛ هل بإمكانه أن يكتب منزوعًا من المخيّلة؟ عندما تأمّلت في تاريخي وماضيّ، كانت المخيّلة القاعدة الّتي نسجت جميع المشاهد ببعضها بعضًا؛ ولهذا السبب يشعر قرّاء هذه السيرة بأنّهم ينتقلون من بُعد إلى آخر، من الماضي إلى ما ينبغي فعله من أجل المستقبل.
فُسْحَة: يُسأل المبدع دائمًا عن الأنساق الّتي توضع فيها هويّته الجغرافيّة السياسيّة، ومن ثَمّ التوقّعات الّتي تُبنى منها، حين يقدّم أعماله إلى ثقافات أخرى؛ أما زلت تواجه هذه الأنساق؟ وكيف تتعامل معها؟ وهل يمكن الفنّان أن يصل إلى وضع يكون فيه تلقّي أعماله بمعزل عن هويّته؟
ستيف: أين يولد المرء وفي أيّ ثقافة هي حقائق لا يمكن تغييرها، إنّما احتواؤها فحسب. أدركت منذ وقت طويل أنّ الطريقة الفضلى للتقدّم إلى الأمام أن أحيك حياتي من خيوطي ذات الألوان غير المحدودة. إنّ رؤيتي وأفكاري الشخصيّة تجاه الحياة، الّتي تكوّنت من خلال تأمّل تفاصيلها، هي الّتي تشكّل هويّتي الحقيقيّة. لم أتعامل ألبتّة مع هويّتي على أنّها وسم، بل على أنّها سيرورة سائلة تتغيّر يوميًّا، ولعلّ ذلك يفسّر الصعوبة الّتي كانت تواجهني في الماضي حين يسألني الناس من أين أنا، متوقّعين إجابة مباشرة وبسيطة ترتبط بموقعي الجغرافيّ. أردت لإجابتي أن تكون حقيقة ما أشعر به.
أمّا في أمر هويّة الفنّان، وفي سياق الفنّ بعامّة، فهل يحتاج مَنْ يستمع إلى "الفصول الأربعة" لفيفالدي إلى أن يعرف شيئًا عن مؤلّفها، أو عن الإلهام الّذي يقف من ورائها، حتّى يستمتع بها وينجذب إليها؟ نبدو كأنّ لدينا فهمًا واضحًا في هذا السياق عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى، لكنّ هذا الفهم يتوه في الحديث عن الفنون البصريّة. يُسْتَحْسَن أن ننظر إلى الفنّ وأن نتواصل معه بأعيننا، وليس أن نجد معاني في حواشيه. بمعنى آخر، ينبغي أن نشاهد كما نستمع ونتمتّع بما أمامنا، ونتجاهل ما لا نحبّ، ونذهب عميقًا في الإيقاعات والطبقات الكامنة في الأشياء الّتي نشاهدها.
فُسْحَة: في عملك "Mentalopia" أنشأتَ طوابع بريديّة لبلدان تحمل صور فنّانين لا ينتمون إليها؛ يعني أنّك لعبت في خيوط الانتماء المفهومة وخلقت غربة مكانها. وفي حين أنّك تشعر بهذه الغربة في مدينتك؛ إذن، أين تشعر أنّك في البيت؟
ستيف: ابتكرت مصطلح "Mentalopia" لكي أشير إلى الفضاء الأيديولوجيّ أو اليوتوبيّ الّذي نُنشئه في أذهاننا. عمل "Mentalopia" تناول قضايا الاختلاف الثقافيّ والهويّة والفخر الوطنيّ والحدود. سألت عشرة فنّانين معروفين أن يُحْضِروا طوابع بريديّة من دولهم، ثمّ أجريت تداخلًا بين صورة الفنّانين الشخصيّة والطوابع الّتي تخصّ بلدان غيرهم. أردت أن أزعزع السطح الفوتوغرافيّ عن طريق وضع هؤلاء الأشخاص في فضاءات غريبة. أردت للمشاهد، الّذي قد يُظهر حيرة في الأمر، أن يسائل مفاهيم الهويّة والتطابق. حين كبّرت الطوابع كشفت النصوص المطبوعة، حين ظهرت كأختام على الرؤوس، عن دلالات مختلفة يحيلها تمثيل الآخر.
للتوضيح، أنا لم أعد أشعر بالمنفى في القدس أو في أيّ مكان آخر. وكما كتب الفيلسوف والمفكّر فيليم فلوسر: "لا تغدو المنافي حرّة حين تنكر أوطانها، بل حين تدرك كيف تتقبّلها"، وهذا ما حصلت عليه؛ فقد نظرت إلى المنفى من مناظير كثيرة ووجدت طريقي فيه. حين أطلقت عمل "Everland" في كانون الثاني (يناير) الماضي، كتبت: "أن تولد في القدس أو في أيّ مكان آخر، سيعني دائمًا أنّك صرت مواطنًا في هذا الكوكب. نحن جميعًا من كلّ مكان ولا مكان. شعريًّا، جميعنا من مكان آخر، وهذا اللامكان هو المكان الأبديّ الّذي نبحث كلّنا عنه. إنّ رحلة الوصول إلى هناك استثنائيّة ومحفوفة باستكشاف لانهائيّ".
فُسْحَة: نلحظ في مشاريع كثيرة مثل "Metamorphosis"، و"Euphoria"، و"In Exile" صخبًا بصريًّا يتّكئ على تكرار أشكال (Patterns)؛ أيّ معانٍ منحتك هذه التقنيّة؟
ستيف: هذه الأشكال تصدر عن كولاج صور ملتقطة من زوايا مختلفة، لكنّي لا أصنع هذه الأشكال ضمن أيّ تساوق؛ أي أنّي لا أتبع أيّ معادلة رياضيّة لكي أضعها معًا. أتعامل مع الهندسة الّتي تعمل على الباطنيّ، الهندسة السليقيّة. إنّ التقاط الصور الفوتوغرافيّة للأشياء من زوايا مختلفة، أتاح لي النظر إلى الحياة من مناظير متعدّدة، وتوسيع أفقي، وتحقيق إمكاناتي في النظر إلى ما هو أبعد من السطح، عميقًا في حقيقة الأشياء. أنا مهووس في خلق الفنّ الّذي لم يُرَ من قبل، أو لوجه الدقّة، يثيرني كلّ ما هو استثنائيّ بصريًّا. ولأنّني أستخدم مئات الصور، ذات زوايا التقاط وأزمنة مختلفة، فإنّه من المستحيل إعادة خلق العمل، من خلال استخدام تقنيّات التصوير الفوتوغرافيّ ذاتها.
من أجل إنتاج كولاج الصور، أنسحب من العالم لمئات الساعات، أضع نفسي في حوار معي، وأحفر عميقًا فيها. صور النوافذ في عمل "في المنفى" تبحث في ماضيّ. خلال عمليّة تصفيف هذه الصور، تعمّقت فيها مطوّلًا حتّى وجدت طرقًا لجمع أجزائي فأغدو أكثر ثباتًا، والحجارة الّتي حملتها على ظهري غدت أكثر خفّة. وجدت مسارًا في اتّجاه التحرّر، الّذي يبدؤه المرء من الداخل. التغيير كان قد بدأ يتحقّق، وحالتي الذهنيّة المتنبّهة أفسحت مساحة لجذور جديدة ستنمو. كان ذلك في عمل "Euphoria"؛ وهو كولاج من أغصان شجر، حين اختبرت انفجارًا نيرولوجيًّا، يقظة، بتعبيري عن الطريقة الّتي اجتثثت فيها جذوري وزرعتها في السحاب، حتّى تظلّ دائمًا في حالة تحوّل، وحرّة.
فُسْحَة: ما انشغالك الفكريّ والفنّيّ في هذه الأيّام؟ وهل أنت راضٍ عن العلاقة بين الانشغال الفكريّ والحسّيّ وبين العمل الملموس الّذي يُنتجه؟
ستيف: أنتجت في الشهور الماضية ما أُنتجه عادةً في خمس سنوات؛ فبالإضافة إلى "Everland" و"Endless" و"A Short Story" و"The Sound of Jerusalem"، أُنجز "Palestine UNSETTLED"، وهي رحلة تحرير بصريّة لفلسطين؛ كانت يومًا متحقّقة فيها، إنّه تحرير لفلسطين الّتي تزدهر في أرواحنا. "Palestine UNSETTLED" سفر بين الصورة والمخيّلة، يكشف طبقات من التاريخ، هناك حيث بالإمكان لمس نسيج الثقافة الفلسطينيّة الّذي نسجه أناس يعانقون الحياة. كما أقوم أيضًا بنشر الكتب الأوّل والثاني والثالث من "The Secret of Life"، وهي كتبي الجديدة عن الوعي في أن نكون. هذه الثلاثيّة دراسة عن فنّ الحذف، وإزالة الطبقات المرئيّة، وتعرية اللغة والنثر والشعر حتّى جوهره المُطلق. وبروح عمل "The Great March of Return"، أعمل أيضًا على كولاج جديد يُعيد خلق فلسطين باستخدام صور تاريخيّة.
شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.