ناجون فلسطينيّون من التعذيب يطاردون أشباح ماضيهم

الفنّان رمزي مقدسي في أحد مشاهد الفيلم

المصدر: The Electronic Intifada.

ترجمة: فريق التحرير.

في مكان ما من رام الله، يتردّد صدى الخطوات على الجدران الإسمنتيّة للقبو الفارغ. يرشد رائد أنضوني رجلًا مقيّد اليدين، مغطّى الرأس، إلى غرفة رماديّة مجوّفة، ويده على كتف الرجل.

" هل تسمعني؟" يسأل أنضوني الرجل مغطّى الرأس، معصوب العينين والأذنين. يجيبه الرجل: "نعم". حينها يرفع أنضوني الغطاء عن وجهه ليظهر محمّد خطّاب، رجل العائلة والمعتقل السياسيّ سابقًا.

يُظهر لنا الفيلم خطّاب، أو أبو عطا، رجلًا حنونًا وأبويًّا، هادئًا على الرغم من صدمة القهر التي عاشها في سجنه.

يزفر بحرقة، وينظر في عيني أنضوني. يبتسم الرجلان – لا ابتسامة سجّان وسجين، بل ابتسامة رفيقين - في تعارض مع أجواء التوتّر التي يبنيها الفيلم.

هكذا يفتتح رائد أنضوني "اصطياد الأشباح"، آخر أفلامه الذي يمزج بين الأنواع السينمائيّة المختلفة، والذي يتجنّب التصوير التقليديّ لمشاهد الاستجواب والسجن، سعيًا وراء لمحات وإشارات تجسّد الفوضى التي تحتلّ ذهن السجين وتستهلكه أحيانًا.

تصوّر هذه السرديّة الفضفاضة المواجهة الفعليّة لأبو عطا مع قسوة وشراسة نظام السجون الإسرائيليّ. لكن حين يقطع المخرج المشهد، تستمرّ الكاميرا في الدوران.

بهذا التنقّل بين الروائيّ والوثائقيّ، يفسح "اصطياد الأشباح" المجال أمام شخوصه للتعبير التلقائيّ عن أعمق مشاعرهم داخل بنية الفيلم الروائيّة، ويتيح لهم في الوقت نفسه أن يكشفوا عن آثار الصدمة المستمرّة التي عاشوها. بهذا المزج بين الأنواع، أمكن لأنضوني أن يترجم قلق السجناء للمشاهد؛ على المستوى البصريّ، يصوّر الفيلم العجز عن التمييز بين الكابوس واليقظة.

في صميم التجربة الفلسطينيّة

بينما اعتاد المشاهدون على تجارب السجون المختلفة في كلّ مكان، يتحدّث هذا الفيلم تحديدًا، عن تجربة ما لا يقلّ عن 800,000 فلسطينيّ خضعوا لأشكال مختلفة من الاحتجاز، والاعتقال، والسجن الإسرائيليّ.

افتتح الفيلم في مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ، المعروف بـ "برلينالي" في فبراير (شباط) من هذا العام، حيث فاز الفيلم بالجائزة الأولى عن فئة الأفلام الوثائقيّة، وبهذا شقّ "اصطياد الأشباح" طريقه إلى واشنطن دي سي في أكتوبر (تشرين الأوّل)، حيث عُرِضَ (بعد أن بيعت جميع التذاكر) في الليلة الافتتاحيّة من المهرجان السنويّ للأفلام والفنون الفلسطينيّة.

بعد عرض الفيلم، تحدّثت رندة وهبة، المناصرة الدوليّة السابقة لمؤسّسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، عن التضامن مع السجناء الفلسطينيّين، الذين يَمْثُلون أمام المحاكم العسكريّة الإسرائيليّة، حيث تبلغ نسب الإدانة بحقّهم أكثر من 90%.

يتعرّض السجناء الفلسطينيّون باستمرار للتعذيب، النفسيّ والجسديّ، ويخضعون للاستجواب مدّة 75 يومًا، ويُحرمون من الاتّصال بمحاميّيهم معظم الأوقات، كما تقول وهبة. يكشف الفيلم عمق ما يحدث [وراء ما تُظهر الإحصائيّات]، ويُظهر إلى أيّ مدى تستمرّ تأثيراته في المعتقلين.

المخرج رائد أنضوني خلال أدائه لدوره في الفيلم

تضيف وهبة قائلة إنّ تأثير ذلك في المجتمع الفلسطيني مدمّر. "لهذا السبب تحديدًا، فإنّ الاعتقالات أداة للاستعمار وأداة للاحتلال"، بحسب تصريح وهبة للانتفاضة الإلكترونيّة. "إنّها وسيلة فعّالة لمحاولة تدمير البنية الاجتماعيّة".

يخبرنا "اصطياد الأشباح" بأنّ الهدف من الضغوط الدقيقة التي يمارسها نظام السجون، كما تقول وهبة، كسر روح السجين ومعنويّاته.

"إنّ التضامن، والمجتمع الذي يبنيه هذا التضامن"، بالإضافة إلى المقاومة الذهنيّة الفرديّة، هي "الوسيلة التي تذكّرنا بسبب اعتقال هؤلاء وسجنهم: لأنّهم حاربوا من أجل أمّتهم، وهذا هو جوهر الأمر برمّته"، وفقًا لوهبة.

البحث عن الأشباح

نجح أنضوني في جمع طاقم العمل بأكمله من السجناء السابقين، وذلك بعد أن وضع إعلانًا صغيرًا في إحدى الصحف برام الله، كما يشرح في الفيلم. يطلب الإعلان سجناء سابقين ممّن يملكون خبرات في الهندسة المعماريّة، أو المقاولات العامّة، أو التمثيل.

يرى المشاهد عمليّة جمع طاقم العمل في المشاهد الأولى من الفيلم؛ يجلس أنضوني إلى مكتب أبيض متهالك، يستجوب السجناء السابقين عن خبراتهم، بالطريقة نفسها التي قد يستجوب بها العملاء الإسرائيليّون السجناءَ عن انتماءاتهم السياسيّة.

على طول الفيلم، لا تغادر الكاميرا الغرفة الرماديّة؛ تستعرض شهادات معتقلين سياسيّين سابقين، من بينهم محمّد خطّاب، وعاطف الأخرس، وعدنان الحطّاب، وعبد الله مبارك، ورمزي مقدسي، ورائد أنضوني نفسه، لتُستعمل الذاكرة الجماعيّة بهدف إعادة بناء مركز الاستجواب سيّء السمعة في المجمّع الروسيّ (المسكوبيّة) في القدس.

إعادة بناء المعتقل

يتعمّد الفيلم عدم التطرّق إلى انتماءات المعتقلين السياسيّة؛ فقد تعرّض 15 إلى 20% من السكّان الفلسطينيّين "إلى السجن، على الأقلّ مرّة واحدة"، كما يقول أنضوني، ويضيف "أمّا سبب الاعتقال، فليس مهمًّا".

وُلد أنضوني في رام الله عام 1967، وهو العام نفسه الذي احتلّت فيه إسرائيل الضفّة الغربيّة. في عام 1985، اعتقله الجنود الإسرائيليّون واقتادوه من بيته في "بيت ساحور" بالقرب من بيت لحم إلى المجمّع الروسيّ.

وبعد اتّهامه بالانتماء إلى إحدى فصائل منظّمة التحرير الفلسطينيّة، استُجوب أنضوني الشابّ، وعُذّب، وسُجِنَ مدّة عام (وهي التجربة التي يقول إنّها لن تغادره أبدًا).

وبالتالي، فإنّ إنتاج فيلم "اصطياد الأشباح"، بحسب أنضوني، لم يكن مسألة تتعلّق بـ "كيف؟" أو "لماذا؟"، بل كانت مسألة تتعلّق بـ "متى؟".

"لقد عاشت هذه القضيّة معي منذ اعتقالي في عمر الثامنة عشرة، ثمّ إنّ القصّة قد أصبحت جزءًا من سلوكي اللاواعي، كأنّها تعيش داخلي"، هكذا صرّح أنضوني للانتفاضة الإلكترونيّة. "بصفتي مخرج أفلام، وبصفتي فنّانًا، أعتقد أنّ التعبير عن المشاعر العميقة التي اختبرتها كانت مسألة وقت لا أكثر".

حرّيّة العقل

بشيء من روح الفكاهة، يتذكّر أنضوني مشاعر الاعتقال الجسديّ، ليقول لنا إنّ الحرّيّة الوحيدة التي وجدها خلال السنة التي قضاها في الاعتقال هي حرّيّة خياله.

"لقد تلقّيت دروسي الأولى في السينما في مركز التحقيق"، يقول مازحًا ويضيف: "إنّني أشكر الإسرائيليّين لأنّهم علّموني السينما". ويقول أنضوني إنّ فكرة الفيلم كانت جزءًا من جهوده لمواجهة الصدمة التي عايشها خلال اعتقاله.

"كنت أقول لنفسي: ماذا لو أحضرت مجموعة من السجناء السابقين معًا وطلبت منهم أن يعيدوا بناء مركز التحقيق". ثمّ يقول: "لكن، في اللحظة التي شرعت فيها بالعمل على الفيلم وبدأت بمقابلة الشخصيّات، أصبح النصّ الذي أعددته بلا فائدة".

فالسجناء السابقون – بمن فيهم مقدسي، الممثّل المحترف الوحيد في المجموعة، والذي قضى عامًا في السجن – قد جلبوا معهم رؤاهم الخاصّة إلى "اصطياد الأشباح".

إنّ الجزء الأكبر من الفيلم يُظهر لنا عمليّة الرسم، والتخطيط، وإعادة البناء العمليّة لمركز التحقيق، بإشراف أبو عطا.

حين أنهى عدنان الحطّاب عمليّة إعادة بناء إحدى الزنازين، نادى أبو عطا ليتفحّص الظلال الرماديّة على الجدران الداخليّة للزنزانة.

وافق أبو عطا على درجة اللون، وحشر نفسه في الزنزانة التي لا تكاد تسمح للإنسان داخلها بالوقوف منتصبًا، فضلًا عن التحرّك فيها. وفي مشهد هزليّ، أحنى أبو عطا ظهره إلى الأمام وابتسم للكاميرا. لكنّ الفيلم يُذكّر المشاهد هنا، بأنّ أبو عطا قد قضى بالفعل 19 يومًا في زنزانة مشابهة تحت التحقيق والتعذيب.

يزخر "اصطياد الأشباح" بمثل هذه المشاهد، حيث تصبح وحشيّة الاعتقال السياق الضمنيّ، لكنّها ليست القصّة.

سجناء الأمس، رفاق اليوم

 لم يكن من الممكن إيجاد هذا التوازن، وفق أنضوني، لو لم يكن هو نفسه سجينًا سابقًا؛ فتشكيل هذه العلاقات مع الشخصيّات بات أسهل لأنّه لم يكن غريبًا عنهم، سواء من ناحية كونه سجينًا، أو من ناحية دوره كشخصيّة في الفيلم.

"لم يشعر [طاقم العمل] بأنّني غريب عنهم، ليشرحوا لي ما هو السجن"، هكذا صرّح للانتفاضة الإلكترونيّة. "لقد كنّا جميعًا في مواجهة الأمر ذاته؛ الذي يقف وراءنا".

بإدراكه للمنظورات المختلفة عن السجين في المجتمع الفلسطينيّ الأوسع، يقول أنضوني إنّه لم يحاول، منذ البداية، أن يتعامل مع السجناء بصفتهم ضحايا  "يحتاجون إلى علاج نفسيّ... لم أكن لأصنع فيلمًا من هذا النوع أبدًا".

"إنّنا جميعًا ناجون من تجربة غير عاديّة"، يقول أنضوني للانتفاضة الإلكترونيّة. "صُنع هذا الفيلم بفخر المشاركة... لا بروح الضحيّة".

في الواقع، إنّ سرديّة الضحيّة التي تطبّق كثيرًا على الفلسطينيّين تقوّض النضال الجماعيّ نحو التحرّر، يُحاجج المخرج، ويتابع: "أعتقد أنّ علينا كي نحرّر فلسطين أن نحرّر أرواحنا أوّلًا، وأن نؤمن بأنفسنا؛ فإذا كنّا أحرارًا داخليًّا، فإنّ تحرير الأرض ليس سوى مسألة وقت". "أمّا إن بدأنا بالنظر إلى أنفسنا بصفتنا ضحايا، نتسوّل الدعم، والمساعدة، والمساعدات الماليّة والإغاثيّة، فإنّ ذلك في رأيي نوع من احتلال الروح".

تسليح "التسامح"

إنّ المشهد الوحيد الذي ابتُكِرَ بالكامل روائيًّا في هذا الفيلم، المشهد الذي يتحرّش فيه أنبار غنّان، في دور المحقّق الإسرائيليّ، برمزي مقدسي جنسيًّا. يؤدّي غنّان هذا المشهد، وهو الذي كان ضحيّة فعليّة للاعتداء الجنسيّ من قبل حارس إسرائيليّ.

قد يعتقد البعض أنّ الهدف من مشهد كهذا التعليق على كيفيّة تسويق إسرائيل لنفسها بصفتها المكان الآمن الوحيد للأفراد من ذوي الميول الجنسيّة المختلفة والمتحوّلين (LGBTQK)، وتسلّح هذا المفهوم، في الوقت نفسه، على شكل الاعتداءات الجنسيّة، إلّا أنّ المشهد في حقيقة الأمر يحمل مضامين أكثر عمقًا، تتجاوز هذا النقد للازدواجيّة الإسرائيليّة.

مع تصاعد التوتّر، يتمكّن مقدسي أخيرًا من تحطيم أعصاب المحقّق حين يسأله: " كيف تحتملك خطيبتك؟" وعندها يتعرّض مقدسي للضرب ويُدفع نحو الحائط، يتحوّل الخيال لحظتها إلى واقع، كما شرح لنا المشاركون لاحقًا، إذ يتوجّب عليهم إيقاف غنّان الحقيقيّ [الذي يؤدّي دور المحقّق]، خوفًا من أن يؤذي مقدسي الحقيقيّ.

مشهد التحرّش

في مشهد لاحق، يشرح غنّان، بعد أن بات هادئًا، ما حدث بالقول إنّ الدراميّة الحادّة قد تحوّلت في تلك اللحظة إلى شيء حقيقيّ بالنسبة لي، حين "استفزّني ’رمزي’ بالحديث عن خطيبتي".

يعلّق شخص من وراء الشاشة بأنّ الإهانة كانت موجّهة له وليس إلى خطيبته.

"سأتزوّج قبل أن يُعرض الفيلم"، يقول غنّان ضاحكًا، فتتردّد ضحكته من شخصيّات الفيلم.

إنّ هدف هذا المشهد المروّع، يقول أنضوني، ليس التعليق على الوحشيّة الإسرائيليّة، إنّما الاحتفاء بالمقاومة الفلسطينيّة، ويصف ذلك بأنّه سيكولوجيا الناجين.

"إنّ المجتمع الفلسطينيّ بعامّة مجتمع من الناجين، لأنّ ذلك هو ما نفعله. إنّنا نخترع الكثير من النكات."

إنّ مقصدي من الفيلم، كما يقول أنضوني، تسليط الضوء على "الروح الفلسطينيّة."

فالفلسطينيّون، كما يقول، "مقاتلون. إنّهم ناجون، إنّهم بشر. إنّهم طيّبون وعطوفون، بسيطون ومعقّدون". "هكذا نحن."

 

ملاحظة: الصور الواردة في المقالة من اختيارات هيئة تحرير فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، لا المصدر الأصل.