«هَكوفْشيم تفرّع ألنبي»... ارتداء الهويّات وخلعها

نور غرابلة

 

لم يكن هذا عرضًا مسرحيًّا، لم يكن عرضًا راقصًا، ولم يكن عرض أزياء أو مسرحًا استعراضيًّا، ولا حتّى مونودراما. وهذا بالضبط ما حوّل «هَكوفْشيم تفرّع ألنبي» إلى حدث مسرحيّ مميّز. لقد كان مزيجًا إبداعيًّا من أداء فرديّ، من النوع الأكثر إثارة للدهشة وإنعاشًا. في هذا العرض، قدّمت الفنّانة نور غرابلة نوعًا غير مألوف من الفنون المسرحيّة - وإذا كان من الممكن إعطاؤه أيّ اسم، فمن المحتمل أن تكون هذه التسمية أقرب إلى «مسرح دراميّ راقص أقلّيّ».

فَهْم اسم العرض، قد يكشف لنا الكثير عنه منذ البداية. «هَكوفْشيم تفرّع ألنبي» هو تفرّع شارعين في تل أبيب، والكلمة «هَكوفْشيم» (הכובשים) تعني «المحتلّون»، وهو شارع أُقيمَ عام 1949، بعد تهجير أهالي حيّ المنشيّة، وسُمِّيَ الشارع على اسم مقاتلي ميليشيات «الإيتْسِل» الّذين احتلّوا يافا ودمّروا المنشيّة في حزيران 1948. يبدأ شارع هَكوفْشيم في شمال حيّ المنشيّة حتّى شارع ألنبي في مركز تل أبيب. أمّا ألنبي فهو شارع رئيسيّ في تل أبيب، وسُمّي بهذا الاسم تكريمًا للّورد الإنجليزيّ، قائد جيش الاحتلال البريطانيّ في فلسطين، إدموند ألنبي. من المعروف أنّ ألنبي دخل القدس من «بوّابة الخليل»، المدعوّة «شاعَرْ يافو» إسرائيليًّا [بوّابة يافا – باللغة العبريّة]، وهنا نجد حضور يافا يبدأ بالتجلّي بوضوح في العرض، وهو ما سنقابله كثيرًا خلال هذه الدقائق الخمسين.

 

كوسْئِمَك

يبدأ العرض برقصات غرابلة على خشبة المسرح المرصوف بزخرفات هندسيّة شرقيّة، في حيّز يحاكي غرفة ملابس ضخمة. من السقف، عُلِّقَت سبع قطع ملابس مختلفة – حجاب، وقميص هاواي هِبْسْتِرِيّ قصير بأزرار، وقميص أسود يحمل عبارة «أنا فلسطينيّ» مزخرفة، وقميص أحمر عليه شعار «يِنْعَلْ هَعولام» [اللعنة على العالم – باللغة العبريّة]، وهي ماركة عبد شقرة المعروفة لكلّ زوّار «سوق الكرمل» في جنوب تل أبيب، حيث يصرخ شقرة هذه العبارة في كلّ مكان، وغير ذلك من أشكال مختلفة ومتنوّعة من الملابس العصريّة والتقليديّة الّتي تصوّر تعدّدًا هويّاتيًّا غنيًّا وثقيلًا. غرابلة نفسها، ترتدي فستان توتو منفوشًا وفوقه قطعة قماش من حطّة فلسطينيّة.

المعنى الّذي تكتسبه الكلمات ليس المعنى الّذي يتوقّع المشاهد سماعه بتاتًا. التوظيف الأوّليّ للغة في فم غرابلة يترجم إلى لغة شتائم نابية وحادّة.

ترقص غرابلة بشدّة وحماسة ونشاط على خشبة المسرح، وتقفز من جانب إلى آخر، وسرعان ما يصبح تنفّسها المنتظم قصيرًا وجاهدًا. في البداية، يخمّن المشاهد أنّها بدأت تتعب وتلهث، لكن سرعان ما تحطّم غرابلة توقّعات المشاهد، لأوّل مرّة في العرض، لكن من المؤكّد أنّها لن تكون الأخيرة. تتحوّل شهقات أنفاسها الثقيلة إلى أصوات تحاكي لغة البشر. تتّصل المقاطع الشاهقة لتتبلور حروفًا، وتصبح الحروف نغمة عالية تُنْسَج ببطء إلى الكلمات. التكرار المهووس للكلمات يصبح مزعجًا ومرهقًا في البداية، لكن بلطف وأناقة غريبة، تكتسب الكلمات معنى.

لكنّ المعنى الّذي تكتسبه الكلمات ليس المعنى الّذي يتوقّع المشاهد سماعه بتاتًا. التوظيف الأوّليّ للغة في فم غرابلة يترجم إلى لغة شتائم نابية وحادّة. "كسّ إمَّك... كسّ إمَّك" هي الشتيمة الّتي تختار غرابلة الابتداء بها. وهنا ينتظم التحطيم الثاني لتوقّعات المشاهد. غرابلة فلسطينيّة، لكنّها لا تقول "كسّ إمَّك" بلهجة عربيّة فلسطينيّة، ولا حتّى يافيّة، بل تستعمل اللفظ الإسرائيليّ - العبريّ للشتيمة. الإسرائيليّة - اللغويّة تحوّل الشتيمة إلى "كوسْئِمِك"، والمشاهد، العربيّ واليهوديّ، يميّز هذه اللهجة، ويعرف تماهيها ونفاقها. تعود غرابلة للشهقات والنفس الثقيل، ثمّ تلفظ بجهد "كوسْئِمِك" عرجاء، وتكرارها يقرّبها شيئًا فشيئًا إلى الـ "كسّ إمَّك" الفلسطينيّة المألوفة للأذن العربيّة - الفلسطينيّة.

غرابلة تستغلّ حركيّة الدرس اللغويّ الشخصيّ وتناغمه؛ ليغدو في تجدّده درسًا جماعيًّا يعلّم الجمهور اليهوديّ كيفيّة تناغم الشتيمة العربيّة. لا تكتفي بهذه الشتيمة الطازجة المألوفة للجميع، بل تنتقل إلى طبقة جديدة من الشتائم النابية: "يا بينْ شَرْموتا" الّذي سرعان ما تتحوّل إلى "يا ابن الشرموطة". وهكذا، تعرّي غرابلة السياسة اللغويّة المجندرة للشتيمة في وجه الجمهور العربيّ واليهوديّ الّذي يجلس أمامها بصدمة ممزوجة بالدهشة.

 

ماذا فعلت في الجيش؟

لكنّ غرابلة لا ترتاح أبدًا، وتواصل قفزها بهدوء مدهش، تلتقط مطرقتها مرّة أخرى وتحطّم توقّعات الجمهور من جديد. هذه المرّة تهشّم بقايا الجدار الرابع، وتخاطب الجمهور مباشرة. بعد درس اللغة العربيّة، تبدو هذه المخاطبة أقلّ إثارة للدهشة، لكنّها نوع مختلف من المخاطبة. هذا النوع يحمل سؤالًا يطوي في داخله تذنيبًا قاسيًا للمشاهد الإسرائيليّ. تنظر غرابلة إلى أحد الأشخاص من الجمهور، تحدّق بعينيه وتسأله بشكل شخصيّ بالعبريّة: "ما عَسيتا بَاتْسافا؟" [ماذا فعلت في الجيش؟]. السؤال يصدم الجمهور. يجيبها الشخص: "حايالْ" [جنديّ]. إجابة مفاجئة، لكنّها لا تفاجئ غرابلة، الّتي تتجاهلها وتنتقل إلى امرأة أخرى في الجمهور: "آتْ عَرافِيا؟" [هل أنت عربيّة؟]. وسرعان ما تنتقل إلى أخرى: "آتْ أوهيفيتْ حوموسْ؟" [هل تحبّين الحمّص؟]. وتستمرّ بالأسئلة الّتي تحطّم حاجز الأمان بين الجمهور وخشبة المسرح. تندمج الأسئلة الّتي يوجّهها كلّ يهوديّ إلى اليهوديّ مع الأسئلة الّتي يوجّهها إلى كلّ عربيّ. اندماج الأسئلة ثمّ تكرارها بهوس، يفرّغها من مصداقيّتها ويقطع عنها ماهيّتها الأصليّة في كونها أسئلة؛ إذ تتحوّل إلى جمل دون حاجة إلى الإجابة.

غرابلة لا تقع في فخّ التطبيع للجيش وشرعنة حواره، بل تكشف عن أنيابها وتطعن بها أقدس مقدّسات الإسرائيليّ. "ماذا فعلت في الجيش؟"، يتحوّل إلى سؤال سخيف على لسانها...

"ماذا فعلت في الجيش؟" هو سؤال التعارف المركزيّ الّذي يسأله كلّ يهوديّ - إسرائيليّ لمحاوره. إنّه السؤال الأكثر طبيعيّة في حيّز الخطاب الإسرائيليّ، حيث يسأله كلّ إسرائيليّ لزميله فور سؤاله عن اسمه. "العمل في الجيش" يمثّل طريق الملك إلى تاريخ الهويّة الشخصيّة لكلّ إسرائيليّ. ستشهد الإجابة عن ذلك ما إذا كنت شخصًا بسيطًا أو شخصًا مميّزًا، وأيّ نوع تميّز تحمل؛ فقد تشير إجابتك حتّى إلى الموقف السياسيّ الّذي تحمله. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ السؤال يهدف إلى معرفة ما إذا كان ثمّة أيّ معارف مشتركة؛ ممّا يعزّز الأسطورة القائلة إنّ جميع اليهود - الإسرائيليّين ينخرطون في الجيش، وأنّهم جميعًا جزء من نسيج اجتماعيّ واحد. كما يكشف السؤال عن الثغرة المتطرّفة بين المواطنين المجنّدين وغير المجنّدين. لكن غرابلة لا تقع في فخّ التطبيع للجيش وشرعنة حواره، بل تكشف عن أنيابها وتطعن بها أقدس مقدّسات الإسرائيليّ. "ماذا فعلت في الجيش؟"، يتحوّل إلى سؤال سخيف على لسانها، ويتحوّل إلى دلالة على مجتمع سخيف؛ إذ لا يقلّ عنصريّة ونفاقًا عن السؤال: "هل أنت عربيّ؟"، وبالطبع لا يقلّ استشراقًا عن سؤال: "هل تحبّ الحمّص؟". تتوالى الأسئلة وتتكرّر لتتناغم إلى أغنية، في تكرار قمعيّ مرهق، وأخيرًا تعود لتصبح كلمات ثمّ شهقات نفس ترافق الرقصة الهمجيّة الّتي تقود خطوات غرابلة.

 

كيس بامبا

يستمرّ العرض، وتستخدم غرابلة القليل جدًّا من الأدوات خلال رقصها، وتتحوّل إلى ‘الحديث‘ عن المزيد من القضايا. هي لا تتكلّم طبعًا، بل ترقص القضايا رقصًا. قضيّة العنف والتظاهرات والإسكات، والنضال السياسيّ والنضال الوطنيّ، وسؤال المواطنة، والعديد من القضايا الأخرى... ترقص كلّ شيء، و‘تحاور‘ كلّ شيء بطريقة واضحة ومفهومة بدون كلمات. هي لا تحتاج إلى كلمات، ولا تحتاج إلّا إلى جسدها ويديها لتروي القصّة على أكمل وجه.

لاحقًا في العرض، الملابس المختلفة المعلّقة من السقف تصبح وسيلة سياسيّة اعتراضيّة بين يدي غرابلة، ويمثّل كلّ ثوب ثقافة كاملة وعبئًا وثقلًا وفلسفة من ورائه. تلعب غرابلة لعبة الهويّات، وترقصها ذهابًا وإيابًا، ارتداءً وخلعًا. إنّها ترتدي هويّة وتخلع هويّة ثمّ تعود لارتداء أخرى وهلمّ جرًّا. حتّى النهاية فيها يتبلور واحد من أكثر المشاهد مجازيّة في العرض، حيث تروي قصّة علاقة بين عربيّ ويهوديّ، بين فلسطينيّة وإسرائيليّة، أو أيًّا كان نوعهم الاجتماعيّ غير المعرّف. تحكي غرابلة قصّة حبّ تنتهي بحفل زفاف، وأيّ زفاف هذا دون توظيف عادة كسر الكأس الزجاجيّة المألوفة في الأعراس اليهوديّة! لكنّها تستمرّ بما فعلته حتّى الآن، لا تأخذ أيّ شيء أمرًا مسلّمًا به ومفهومًا ضمنًا، كما أنّها ليست على استعداد لترك أيّ حجر دون قلبه. تستبدل غرابلة بالكأس الزجاجيّة كيس بامبا - مجازًا لفخر الصناعة الإسرائيليّة غير المسلوبة. لكنّ كيس البامبا لا ينجو من أنياب غرابلة؛ فهي تستبدل به الكأس الزجاجيّة وتضعه تحت رجل العروس الإسرائيليّة، وتطالبها بدعسه ليتمّ الزواج. غرابلة تهشّم وتدهس دون رحمة كبرياء الصناعة الإسرائيليّة، ثمّ تحمل كيس البامبا الممزّع، وتقذف محتواه في وجه الجمهور، وعلى خشبة المسرح.

تلعب غرابلة لعبة الهويّات، وترقصها ذهابًا وإيابًا، ارتداءً وخلعًا. إنّها ترتدي هويّة وتخلع هويّة ثمّ تعود لارتداء أخرى وهلمّ جرًّا.

بالطبع، يحدث كلّ هذا، والعديد من الأشياء الأخرى، بينما يكون تشغيل الموسيقى الاستفزازيّة في الخلفيّة، الّتي تتناغم مع خطوات غرابلة ورقصاتها. في قمّة موسيقيّة في العرض تُسْمَع ألحان موسيقى ياسر جلال، المألوفة في الأعراس العربيّة، ثمّ تنضمّ إليها بسرعة كلمات أغنية النشيد الوطنيّ الإسرائيليّ، «هاتيكفا» (الأمل). هذه الموسيقى من إعداد المغنّي الإسرائيلي دينئيل ساعدون، الّتي كان تصوير كليبها في حارات يافا القديمة. هذه المقطوعة الموسيقيّة في خلفيّة رقص غرابلة، أضحكتني وأبكتني وأحزنتني وجنّنتني في ذات الوقت. وغرابلة أدركت ذلك جيّدًا، ورقصت هذا الإدراك بابتسامة ساخرة حادّة.

 

مسرح راقص أقلّيّ

مفهوم الأقلّيّاتيّة، يأتي من الدراسات النقديّة للأدب، إذ طوّره المفكّران الفرنسيّان جيل دولوز وفليكس غواتري في كتابهما «كافكا: من أجل أدب أقلّيّ». يسعى المصطلح إلى توضيح التوجّه في دراسة أدب الكاتب التشيكيّ فرانز كافكا. في تعريف المصطلح، يذكرون أنّ «الأدب الأقلّيّ» "ليس أدب لغة أقلّيّة، وإنّما بالأحرى الأدب الّذي تصنعه للأدب الأقلّيّ ثلاث ميزات مركزيّة: هدم حدود اللغة، وتوظيف أدبيّ سياسيّ، وتوظيف جماعيّ". عمليًّا، عند استخدام مصطلح «الأدب الأقلّيّ» بمفهومه الأوّليّ، نجد أنّه في السياق الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948، فـ «الأدب الأقلّيّ» المقصود هو أدب عطالله منصور، وأنطون شمّاس، وأيمن إغبارية، وسيد قشّوع، وأيمن سكسك، أي أدب بالعبريّة كتبه فلسطينيّون لغتهم الأمّ هي العربيّة.

ما فعلته غرابلة في مسرحها الراقص هو نشاط سياسيّ اعتراضيّ بطريقة متقنة وجميلة، حيث وظّفت فلسطينيّتها لتفكّك إسرائيليّة جمهورها؛ أوّلًا لتفكّك إسرائيليّة العبريّة، من خلال تحطيم حدود اللغة العبريّة - الإسرائيليّة المحكيّة، واسترجاع الكلمات العربيّة الفلسطينيّة منها، "والا" تعود لتصبح "والله"، "كوسْئِمِك" تعود لمصدرها "كسّ إِمَّك"، و"خَلاسْ" تسترجع صادها وتصبح "خلص". كانت تُسَمّى فلسطين. صارت تُسَمّى فلسطين، يقول درويش. كانت تُسَمّى "خلص"، صارت تُسَمّى "خلص"، تقول غرابلة. الشتيمة مثلها مثل الحلفان والكلمات المعبّرة عن الغضب، هي جزء من الثقافة اللغويّة للمجتمع. قد نكون ناقدين لبعضها، كما كانت غرابلة لـ "كسَ إِمَّك"، لكنّ نقدنا لا يجرّد الكلمات من أصولها. غرابلة تقتحم حدود اللغة العبريّة - الإسرائيليّة بكلّ ثقة، وتستردّ الفلسطينيّة منها، ثمّ توبّخ الإسرائيليّ على سلبه للغتها، دون استعمال كلمات.

التوظيف الأدبيّ السياسيّ والجماعيّ المعروض في أدب كافكا، يحصل على مصداقيّة مجازيّة واضحة كذلك في رقص غرابلة، الّتي لا تنفكّ تقدّم بلورة جماعيّة للمجازيّات. قميص «أنا فلسطينيّ» مقابل قميص هاواي الهِبْسْتِرِيّ، لا تمثّل فقط الفلسطينيّ والهِبْسْتِرْ، بل تمثّل مقولة سياسيّة واضحة عندما يختار الفلسطينيّ ابن يافا التجوّل في شوارعها بقميص عليه مخطوطة تصرخ بهويّته، إلّا أنّه لا يصرخها بلغة الإسرائيليّ، بل بلغته هو، العربيّة، ويصرخها بالذات في وجه ذلك الهِبْسْتِرْ التلّ – أبيبيّ، الّذي احتلّ يافا واستطبق حاراتها العربيّة، وبدأ بتعلّم اللغة العربيّة. يكفيه أن يقرأ الشعار على قميص نور غرابلة، ابنة يافا؛ ليفهم استشراقه واستطباقه.

 

المَسْخ

غرابلة ترقص نفسها للجنون، حرفيًّا. في نهاية العرض، ترتدي كلّ الملابس المعلّقة (باستثناء لعنة عبد شقرة على العالم)، قطعة تلو الأخرى. تغطّي نفسها بملابس هويّاتيّة، وتنهار تحت عبئها وثقلها.

تبدأ بالزحف، تزحف بجنون على الأرض. يتلوّى جسدها وتواصل الزحف الجنونيّ؛ حتّى يفهم المشاهد أنّ هذا الزحف أقرب ما يمكن إلى زحف مسخ كافكا.

تقرّر في النهاية التنازل عن جميع العباءات الهويّاتيّة، وتخلعها جميعها بجنون. عندما تخلع كلّ ملابسها، تسقط على الأرض، ولا تستطيع النهوض مرّة أخرى، وكأنّ الملابس والهويّة منحتها عمودًا فقريًّا فقدته عند خلعها. نخاع شوكيّ هشّ تحطّم تحت ثقل الصراع الهويّاتيّ للفلسطينيّ في الحيّز الإسرائيليّ الكولونياليّ.

تتحوّل غرابلة إلى ذلك الغراب الّذي نسي مشيته عندما حاول تقليد مشيات الطيور الأخرى وتحنجل. تبدأ بالزحف، تزحف بجنون على الأرض. يتلوّى جسدها وتواصل الزحف الجنونيّ؛ حتّى يفهم المشاهد أنّ هذا الزحف أقرب ما يمكن إلى زحف مسخ كافكا.

غرابلة تتحوّل إلى مسخ، تنهار، تتفكّك، تتورّط، وتتوغّل في التحوّل الحيوانيّ الدولوزيّ؛ لتصبح مسخًا كافكائيًّا مجرّدًا من إنسانيّته.

 

«هكوفشيم تفرّع ألنبي».

أداء وإنتاج: نور غرابلة | إخراج وإنتاج: نيتاع ميدان وشاكد شنِلِر | موسيقى: عومر بولنج كوهين | «مسرح تْموناع».

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في "جامعة تل أبيب"، في مجال "أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ"، محرّر موقع "حكايا".