إسرائيل... تتدخّل في حياتي الخاصّة!

كلاجئٍ فلسطينيّ، كنتُ دائمًا أعزو أيّ ضيقٍ يعتري مسار الحياة، مادّيًّا كان أم معنويًّا، إلى الاحتلال، الاحتلال الّذي سرق بلادي وسمّاها إسرائيل؛ وكان يحزّ خيط روحي دائمًا أنّ مدينتي على وجه التّحديد، أصبحت تشكّل عاصمته الاقتصاديّة، وحوّل اسمها من يافا إلى تل أبيب.

لا بأس... قلت، ورحت أحاول جزافًا إعمار ما خرّبه الاحتلال في داخلي، فحين يولد المرء لاجئًا ويكبر كذلك، لا يشعر بالكارثة إلّا عندما يختبر شعور المواطنين الحقيقيّين. الأمر يشبه الإعاقة الّتي تبقى متعايشًا معها إلى أن تتأمّل شعور الأصحّاء وقدراتهم.

في شباط (فبراير) 2014، حصلنا، أنا والشّاعران علي الزّهيريّ وحسن مريم، على دعوةٍ من متحف محمود درويش في رام الله لإقامة أمسيةٍ شعريّةٍ، وكنّا قد قطعنا شوطًا سويّةً، ثلاثيًّا شعريًّا، وعددنا يومها الدّعوة بمثابة تتويجٍ كبيرٍ، وربّما مبكرٍ، لما ارتكبنا، ليس لأنّنا نعدّ محمود درويش ومتحفه محطّ اهتمامٍ عربيٍّ وفلسطينيٍّ وشخصيٍّ في نظرنا فحسب؛ إنّما لأنّنا سنرى فلسطين للمرّة الأولى بعد 66 سنةٍ من الغياب القسريّ الموروث، ولست هنا بصدد شرح هذا الشّعور وتفسيره، والّذي يستعصي دائمًا؛ لذلك سأتجاوزه، وأقول إنّ تصاريح الدّخول وصلت باسمي أنا وعليّ الزّهيريّ فقط، مستثنيةً حسن مريم، وكان هذا القرار قادرًا بجدارةٍ على تخريب برنامج  الأمسية الّذي كنّا قد أعددناه. والأهمّ من ذلك أنّه أفسد علينا رحلتنا الّتي خطّطنا لها في بلادنا، لأنّ صاحبنا ملأت عيناه دموع الغبطة أو الحسرة والألم، وكانت تلك الحادثة بمثابة حافزٍ له ليرتّب أحزانه ونكباته بعضها فوق بعضٍ، حتّى وصل إلى حالٍ تدعو للانتحار من أعلى برجٍ في الكويت، حيث يقيم!

لم يكن الأمر سهلًا هناك – وعليكم  أن تفهموا أنّ كلمة 'هناك' تبدو مثل تسديدة لاعبٍ هدفًا في مرمى فريقه حين تقال عن الوطن - لم يكن الأمر سهلاً فيما يخصّ غياب حسن مريم عن هذا الحدث المهمّ: نحن في فلسطين الّتي لم ير الآباء منها إلّا ما روى الأجداد لهم.

عدنا إلى المنفى مجدّدًا، ولم يهدأ شريط الرّحلة حتّى الآن، ولا أظنّه سيتوقّف عن الدّوران في رأسي، وكان المنحنى الأشدّ وجعًا في الشّريط اللّولبيّ، أنّ العودة ليست كالعودة إلى أيّ مكانٍ، فالأمر يحتاج إلى دعوةٍ، وما يبرّر تلك الدّعوة أوّلًا ويجعلها استحقاقًا، ومن ثمّ تصريحٍ وتنسيقٍ نجهل تفاصيله نحن اللّاجئين. باختصار، أستطيع أن أقول إنّ العودة  شبه مستحيلةٍ.

كان تدخّل إسرائيل هذا مخرّبًا، وكان تدخّلها في تحرّكاتي داخل البلاد من مدينةٍ إلى أخرى بمثابة وشاحٍ صوفيٍّ في عزّ الصّيف، فاختبار تجربة الحواجز يشعرك مجدّدًا بأنّك فلسطينيٌّ ككلّ الفلسطينيّين الّذين يعانون منها، ويصرخون في نشرات الأخبار، إلّا أنّه يذكّرك أيضًا بأنّ بلادك رهينة احتلالٍ يُحكم القبضة حتّى على شوارع المدن الّتي قضى اتّفاق أوسلو بأن تكون تحت حكم السّلطة الفلسطينيّة، أراضي مستعادةً ومعترفًا بها، وكانت اللّافتة في معبر جسر الملك حسين باتّجاه الأردنّ على كاونتر الاحتلال، والّتي تحدّد المنتجات الّتي يمكنك أن تغادر البلاد بها، ومن ضمنها 'البلح منزوع النّوى'، تشكّل تدخّلًا سافرًا في أكياس الهدايا الّتي أحملها إلى أمّي في منفاها الكبير.

قبل شهورٍ، أهدتني البنت رابط أغنيةٍ اسمها 'Dance me to the end of love'، استولت هذه الأغنية على معظم أوقاتي، في السّيّارة وفي المكتب وفي البيت، قبل أن أكتشف أنّ اسم المغنّي ليونارد كوهين. جعلني اسم كوهين أعود إلى جوجل لأتأكّد من هويّة هذا المغنّي، لأكتشف أنّه كنديٌّ يهوديٌّ، وقلت لا بأس، ليس لدينا مشكلةٌ مع اليهود، مشكلتنا فقط مع دعاة دولة إسرائيل المزعومة ومؤيّديهم؛ إلّا أنّني سرعان ما اكتشفت أنّ كوهين هذا كان منتظمًا في جيش الاحتلال وشارك في حرب عام 1973.

قرّرنا معًا الإقلاع عن هذا المغنّي والشّاعر والرّوائيّ القاتل، شعرنا بتضحيةٍ مستحقّةٍ وعلينا أن نقدّمها، رغم أنّ هذه الأغنية ارتبطت بوعينا العاطفيّ وبسلّم العلاقة الزّمنيّ، ولم نعبأ ونحن نحذف فصلًا امتدّ على أكثر من ستّة أشهر.

اكتشفت لاحقًا أنّ الأغنية متوفّرةٌ بأصواتٍ أخرى، إلّا أنّها كانت 'إسرائيليّةً' أيضًا، حتّى أقلعت عنها تمامًا.

نفهم التّنغيص المستمرّ الّذي تتسبّب به هذه الدّولة المزعومة، حين تخطر على البال بلباسها العسكريّ، وحين يقترن اسمها بجرائمَ كبرى في حقّ الإنسانيّة؛ نفهم ذلك لأنّ الاحتلال بشعٌ دائمًا ومسربلٌ بسلسلةٍ طويلةٍ من الاعتداءات والانتهاكات. نفهم التّضييق الاقتصاديّ على أهلنا في الضّفَة الغربيّة، وتوريط رام الله بالقروض البنكيّة وجعلها ضرورةَ حياةٍ حضريّةٍ ومريحةٍ، ونفهم مأساة اللّاجئين في كلّ أصقاع العالم؛ لكن لماذا علينا أن نفهم تدخّلها في رغباتنا الشّخصيّة البسيطة، الّتي لطالما أقنعنا أنفسنا بأنّها أداةٌ تسرّي عنّا الكثير من الهموم التّاريخيّة الّتي ورثناها؟ لقد ورثنا حسرة الأجداد في قسماتنا العابسة واليابسة، كابتساماتهم الّتي نسوا أن يلمّوها عن سطوح بيوتهم فجفّت حتّى أكلتها الطّير...