"تِسْقُط بسّ": معاني الثورة السودانية في شعاراتها

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يقول مكسيم غوركي في إحدى عباراته الشهيرة: "جئت إلى هذا العالم لكي أحتجّ"، مؤكّدًا موقفه على أنّ الإنسان كائن احتجاجيّ بطبعه، ويمكن اعتبار الكثير من الحركات الشعوريّة للإنسان، كالبكاء والصراخ، بمنزلة تعبيرات احتجاجيّة بشكل أو بآخر.

 

تحرير اللغة

وإذا كان الإنسان يعبّر عن رفضه واحتجاجه على الوضع القائم في بعض الأحيان، عن طريق البكاء أو الصراخ أو غيرهما من التعبيرات الشعوريّة، الّتي يُطلقها بشكل فرديّ، فإنّ تعبيره عن هذا الرفض والاعتراض، يأتي في أحايين أخرى عبر أشكال حركة اجتماعيّة، تتّخذ من الشعار الاحتجاجيّ وسيلة لإيصال مطالب الأفراد وأهدافهم، الّذين يتحرّكون عبرها ومن خلالها.

درك ناشطو الحركات الاجتماعيّة والاحتجاجيّة الفاعلة في نطاق الثورة، أهمّيّة الشعار الاحتجاجيّ، ليس فقط وسيلة للتحريض والتعبئة الجماهيريّة، بل وسيلة لتحرير اللغة من الاستبداد الّذي تشبّعت به طوال سنوات حكم البشير الاستبداديّة.

ولمّا كانت الحركات الاجتماعيّة – حسب آلان سكوت - تُعرَّف بأنّها "فعل جماعيّ ينشأ عن أفراد يعون أنّ لهم مصالح عامّة، ويدركون هويّة خاصّة لهم، هي جزء مهمّ من هويّة عامّة، ويمتلكون تعبئة جماهيريّة، أو بمقدورهم التهديد بها"[1]؛ فإنّه يمكن القول إنّ الشعار الاحتجاجيّ أداة ضروريّة من أدوات التعبئة الجماهيريّة، وهو من أهمّ عناصر القوّة الّتي تمتلكها الحركات الاجتماعيّة.

ثمّ إنّه منذ انطلاق الثورة السودانيّة في 19 كانون الأوّل (ديسمبر) 2018، أدرك ناشطو الحركات الاجتماعيّة والاحتجاجيّة الفاعلة في نطاق الثورة، أهمّيّة الشعار الاحتجاجيّ، ليس فقط وسيلة للتحريض والتعبئة الجماهيريّة، بل وسيلة لتحرير اللغة من الاستبداد الّذي تشبّعت به طوال سنوات حكم البشير الاستبداديّة.

فطوال سنوات حكم البشير، لم تعرف اللغة سوى الأوامر والنواهي، ما يجب وما لا يجب، ما يصحّ وما لا يصحّ، ولم تعرف غير أسلوب البطش اللغويّ، الّذي ظهر واضحًا جليًّا في خطابات البشير الموجّهة إلى الجماهير، لغة لطالما عملت على تأسيس علاقة سُلطويّة تراتبيّة، تُلزِم الجماهير المخاطَبة بالإنصات التامّ وأداء طقوس السمع والطاعة - من خلال حركات التصفيق والهتاف وغيرهما - وإظهار التأييد والاستحسان، وتعاقِب كلّ من تسوّل له نفسه الخروج عن عتبة هذه الاستجابة إلى أشكال استجابات أخرى استهجانيّة، أو رافضة، أو منتقدة للخطابات ومحتواها[2].

 

 تأطير ومعنى

إنّ الشعارات الاحتجاجيّة، الّتي جاء بها ناشطو الحركات الاجتماعيّة والاحتجاجيّة الفاعلة في نطاق الثورة السودانيّة، عملت على تحرير اللغة من استبدادها، عبر تحويلها من لغة مغلقة تستخدم أساليب المنع والنهي والمسموح والمكروه، إلى لغة منفتحة على كلّ الأساليب – بما فيها من أساليب الرفض والاستهجان والاستنكار - غير محدّدة بشرط أو مقيّدة بقيد.

عمل الناشطون على إضفاء المعاني على الكثير من الأحداث الّتي حدثت إبّان الثورة؛ فقد خرجوا منها بالكثير من الشعارات، الّتي استخدموها لتعبئة الجماهير وحشدهم، ودفعهم نحو الالتفاف حول الثورة ومطالبها.

أمّا على مستوى التعبئة والتحريض، فقد نجح الناشطون في استخدام الشعار الاحتجاجيّ كإطار معبِّئ للجماهير؛ فحسب أطروحة "التأطير" - وهي إحدى الأطروحات المرتبطة بالحركات الاجتماعيّة والعمل الجماعيّ - فإنّ المحرّك الأوّل الّذي يدفع الجماهير إلى الاحتجاج "إضفاء المعنى"؛ أي إعطاء معنًى للأحداث، بما يسمح بتعبئة المزيد من المؤيّدين للفعل الاحتجاجيّ، ويؤدّي إلى إضعاف المعارضين لهذا الفعل، ويحدّ من قدرتهم على صناعة الفعل المضادّ؛ فأطروحة "التأطير" ترتبط بشكل أساسيّ بمدى القدرة على خلق المعاني المعبِّئة للجماهير[3].

وتبعًا لما سبق، فقد عمل الناشطون على إضفاء المعاني على الكثير من الأحداث الّتي حدثت إبّان الثورة؛ فقد خرجوا منها بالكثير من الشعارات، الّتي استخدموها لتعبئة الجماهير وحشدهم، ودفعهم نحو الالتفاف حول الثورة ومطالبها.

ومن أبرز تلك الأحداث، ردّ أحد الشباب على رسالة نصّيّة، وردته من قِبَل محبوبته، ففي مطلع الأسبوع الأخير من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) 2018، وعلى إثر قيام نظام البشير بإصدار قرار حكوميّ بحجب مواقع التواصل الاجتماعيّ، احتفى الناشطون برسالة نصّيّة كان أحد الشبّان السودانيّين قد أرسلها إلى محبوبته؛ ليردّ عليها بعد أن أرسلت إليه تَطمئنّ على صحّته؛ فقد جاء في مضمون ردّه عليها: "حكومة تحرمني منّك... تِسقُط بسّ"[4].

 

من الخاصّ إلى العامّ

لقد أضفى الناشطون المعاني على تلك العبارة، فتحوّلت من خاصّة مقصدها الحرمان العاطفيّ الّذي لن ينتهي إلّا بسقوط الحكومة، إلى عامّة مقصدها الحرمان الاجتماعيّ والاقتصاديّ، الّذي لن ينتهي أيضًا إلّا بسقوط الحكومة ورأسها، وقد لجؤوا إلى استلهام العبارة السابقة في ابتداع شعار احتجاجيّ تحوّل إلى واحد من أبرز شعارات الثورة السودانيّة، شعار "تِسْقُط بَسّ"، الّذي سرعان ما غدا وسمًا عامًّا ضجّت به وسائل التواصل الاجتماعيّ، وقد استُخدم في متون هتافات ثوريّة عديدة، مثلًا: "حكومة الجوع... تِسقُط بسّ، حكومة العسكر... تِسقُط بسّ، حكومة الجبهة... تِسقُط بسّ".

لقد أضفى الناشطون المعاني على تلك العبارة، فتحوّلت من خاصّة مقصدها الحرمان العاطفيّ الّذي لن ينتهي إلّا بسقوط الحكومة، إلى عامّة مقصدها الحرمان الاجتماعيّ والاقتصاديّ

هذا الهتاف وغيره جاء للإشارة إلى أنّ حالات الحرمان كثرت وتعدّدت أشكالها إبّان عهد البشير، وكان بينها حرمان اقتصاديّ مثّلته عبارة "حكومة الجوع"، وحرمان سياسيّ من الحرّيّة والحقّ في التعبير، والحقّ في امتلاك الفضاء العامّ، مثّلته عبارتا "حكومة العسكر" و"حكومة الجبهة"، وجاء هذا الهتاف أيضًا بما يُشير ضمنًا، إلى أنّ حالات الحرمان هذه لن تنتهي ولن تزول إلّا بزوال المسبّب الأبرز فيها؛ أي نظام البشير وزمرته وحكومته.

 

ملكة تعود من قلب التاريخ

ومن الأحداث الّتي نجح الناشطون في إضفاء المعاني عليها والخروج منها بشعارات احتجاجيّة لتعبئة الجماهير، الحدث الّذي ظهرت فيه الناشطة السودانيّة آلاء صالح، مرتدية ثوبها الأبيض وقرطها الذهبيّ، تقف على سيّارة وسط المتظاهرين والجموع الثوريّة، الّتي احتشدت أمام مقرّ "القيادة العامّة" للجيش، في العاصمة الخرطوم[5]،

 وتُطلق هتافات اقتبستها من قصيدة تراثيّة بعنوان "حبّوبتي كنداكة"، وتقول بعض كلمات القصيدة "الدين بيقول الزول... إن شاف غلط منكر... ما بينكتم يسكت... يبقى الغلط ستّين... كوز السجم بيغرف... نحن اللّي سقينا النيل... من دمّنا الفاير... ما بننكتم نسكت... في وش عميل جاير... الطلقة ما بتحرق... بيحرق سكات الزول... حبّوبتي كنداكة".

وقد نجح ناشطو الثورة السودانيّة في التقاط هذا الحدث وإضفاء المعاني عليه، بالتركيز على عبارة "حبّوبتي كنداكة" الّتي تضمّنها الهتاف، وتحويله إلى شعار ووسم عامّ، كان من أبرز الوسوم والشعارات الّتي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ فعبارة "حبّوبتي كنداكة" تأتي بالمعنى الآتي: "حبّوبتي" أي جدّتي، "كنداكة" أي الملكة النوبيّة، لتُشير إلى الملكة النوبيّة في التاريخ السودانيّ القديم؛ ففي مملكة مروي القديمة كانت السيّدات ملكات، وكان يُطلَق عليهنّ اسم "كنداكة".

إنّ هذا كلّه لهو الدليل الأكبر على أنّ حياة الثورات حياة البحث عن المعنى؛ ففي الثورات دائمًا وأبدًا ثمّة حياة تروح وتجيء بلا كلل، لنيل كسرة صغيرة من معنًى.

وشعار "حبّوبتي كنداكة"؛ أي "جدّتي الملكة النوبيّة"، الّذي استلهمه ناشطو الثورة من هذا الحدث، جاء للتذكير بمكانة المرأة السودانيّة، وتأكيد أنّها كانت دومًا عنصرًا فاعلًا في المجتمع السودانيّ والفضاء العامّ، تهتمّ بقضايا الحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة، وتنخرط في الحراكات الثوريّة من أجل المطالبة بحقّها وحقّ شعبها؛ فقد عمل الشعار على تصويرها ملكةً عائدةً من قلب التاريخ، لتقود مواكب الثوّار والمحتجّين[6].

أخيرًا، فإنّ نجاح ناشطي الثورة السودانيّة في تحويل العديد من الأحداث/ المشهديّات الّتي جرت إبّان الثورة، من أحداث/ مشهديّات عاديّة – كان من الممكن أن تمرّ بلا تركيز أو التقاط - إلى أحداث/ مشهديّات غير عاديّة، عبر العمل على إضفاء المعاني عليها، وتحويلها إلى إطار لتعبئة الجماهير والدفع بهم نحو الالتحاق في صفوف الثورة؛ إنّ هذا كلّه لهو الدليل الأكبر على أنّ حياة الثورات حياة البحث عن المعنى؛ ففي الثورات دائمًا وأبدًا ثمّة حياة تروح وتجيء بلا كلل، لنيل كسرة صغيرة من معنًى.

*****

 

[1] عزّة خليل وآخرون، الحركات الاجتماعيّة في العالم العربيّ، ط1 (القاهرة: مركز البحوث العربيّة والأفريقيّة، 2006)، ص 28.

[2] عماد عبد اللطيف، بلاغة الحرّيّة: معارك الخطاب السياسيّ زمن الثورة، ط1 (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2013) ص 24 – 25.

[3] إبراهيم الصافي، "الحركة الاحتجاجيّة في تونس"، مجلّة المستقبل العربيّ - مركز دراسات الوحدة العربيّة، العدد 435 (2015)، ص 166.

[4]  "الحراك الشعبيّ في السودان... شعارات وحكايا"، الجزيرة نت، 19/2/2019، شوهد في 19/07/2019، في: https://bit.ly/2tuinCA

[5] "’حبّوبتي كنداكة‘... امرأة سودانيّة تتحوّل لأيقونة ’الثورة‘"، France24، 11/4/2019، شوهد في 19/07/2019، في: https://bit.ly/2VCk79h

 [6]  المرجع السابق.

 

 

إسراء عرفات

 

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.