طارق البكري: حراسة الذاكرة الفلسطينيّة مسؤوليّة جماعيّة

البكري لدى ضريح الشهيد الأردنيّ في معركة "باب الواد" (1948)، علي عوران | 2013

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

قبل أن أبدأ بتوجيه سؤالي الأوّل إلى طارق، سألته عن أحواله في الحَجْر المنزليّ، فأعرب فورًا عن تململه من عدم تمكّنه من الخروج لزيارة القرى والمدن الفلسطينيّة المهجّرة وتصويرها، ولا سيّما في هذا الطقس البديع. يرى طارق أنّ عليه استغلال أنّه مقدسيّ يستطيع قيادة سيّارته إلى المدن والقرى المهجّرة؛ فيدرسها وينبش في تاريخها، ويُقِلّ لاجئيها القادمين من خارج فلسطين إليها.

انطلق طارق قبل ثماني سنوات بمبادرة فرديّة حملت اسم "كنّا وما زلنا"؛ أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيّين من الأجيال الأوّل والثاني والثالث وجدوا فيها مفتاحًا حقيقيًّا، يستعيضون فيه، ولو لزيارة، ولو لدقائق عبر الفيديو، عن مفاتيحهم المعدنيّة الّتي أكلها الصدأ. لاقت المبادرة تفاعلًا ومتابعة كبيرَين للقصص المؤثّرة الّتي تنشرها؛ فتتوسّع لتصبح مرافقًا للفلسطينيّين الّذين يزورون فلسطين لأوّل مرّة، وعنوانًا لأولئك الّذين لا يزالون يحملون صورة عتبة الحارة أو خريطتها، ويريدون صورة أو فيديو من "الحقيقة".

لكن ستظلّ المبادرة مستقلّة لا تطلب تمويلًا من أيّ جهة، معتمدة على طاقات الشباب الفلسطينيّ. طارق، الّذي أُطلقت عليه صفة "حارس الذاكرة"، يبحث وينقّب ويدلّ كأنّما يدلّ على بيته الشخصيّ، لا يَكلّ من العمل، ولا يستطيع أن ينطق بـ "لا" إن سأله أحد سؤالًا عن بيته أو أقربائه، وهو يرى فرصة كبيرة في الإتاحة وسهولة التواصل الّتي تمنحنا إيّاها التكنولوجيا.

كان لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة هذا اللقاء مع مؤسّس مبادرة "كنّا وما زلنا"، طارق البكري، بالتزامن مع الذكرى الـ 72 لنكبة الفلسطينيّين وسرقة وطنهم.

 

 

فُسْحَة: بدأ مشروعك بتوثيق القرية والمدينة الفلسطينيّتين، لكنّ مشروع تأريخهما قدّم مادّة ممتازة؛ ما الثغرات الّتي لمستها فدفعتك إلى التوثيق؟

طارق: إلى حدّ ما، بالإمكان القول إنّ الكتب الّتي قدّمها المؤرّخون شملت الكثير، لكنّي متأكّد من أنّ آلاف القصص لم تُقَل. أنا أعمل على تقديم القصّة الشخصيّة الّتي تربط الإنسان بالمكان. ربّما تقدّم مراجع الدبّاغ أو الخالدي، على سبيل المثال، مادّة جافّة تتطرّق إلى الجغرافيا والسكّان... إلخ. تأتي مبادرة "كنّا وما زلنا" مواكبة للعصر الديجيتاليّ وعصر مواقع التواصل الاجتماعيّ، من خلال تقديم توثيق بصريّ. ما يميّز المبادرة في اعتقادي أنّها تربط الرواية باللاجئ، سواء عاد إلى قريته أو لم يَعُد؛ الرواية تنبع منه. حين أرافق أحدًا إلى قريته، سأتعرّف رواية القرية من خلاله، أعطيك مثالًا؛ يتذكّر الناس قرية الزيب فيربطونها فورًا بالصبيّة الّتي حضنت النخلة. يتذكّرون قرية لوبية فتخطر لهم الشابّة الّتي قدمت من السويد. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ المبادرة لا تسعى إلى توثيق رواية النكبة فحسب، إنّما تحاول أن تجعل حياة الفلسطينيّين المدنيّة والثقافيّة قبل النكبة مرئيّة، كنّا نمتلك المصانع ودور السينما والمرافق الثقافيّة، نعرض صورها قبل عام 1948 وأخرى حديثة، ونحكي حكايتها. لا أعتبر نفسي مصوّرًا، ربّما موثّقًا بصريًّا.

 

فُسْحَة: وهل تثق بالتكنولوجيا؟ أقصد؛ ألا تخاف على أرشيفك من الضياع؟ وهل سيتحوّل يومًا ما إلى أرشيف ملموس؟

طارق: إنّ التكنولوجيا وسيلة تساعد في الوصول إلى الهدف الأكبر. في هذه المرحلة، أجمّع - ما استطعت - القصص والصور والفيديوهات الّتي تصبّ في موضوع التوثيق الشفويّ، ولاحقًا ستأتي مرحلة الكتابة في الوقت المناسب. ثمّ إنّ إتاحة الموادّ رقميًّا، تفتح أبوابًا لأعمال فنّيّة يقوم بها الأصدقاء كالأدب وغيره، واستخدامها في أعمال فنّيّة يعطيها استمرارًا. نضيف إلى ذلك، مزيّة التفاعل الّتي تتيحها التكنولوجيا؛ فباستطاعة المتلقّي أن يضيف إلى القصّة ويتفاعل معها. في الماضي، تواصل الناس عبر الراديو أو الرسائل ليرسلوا أخبارهم، أمّا اليوم فانظري إلى سهولة أن يتواصل معي لاجئ فلسطينيّ في لبنان، ليعرف أكثر عن قريته أو ليتواصل مع أقربائه في فلسطين؛ وحقيقةً، أمست "كنّا وما زلنا" حلقة وصل بين الشتات والداخل.

وكالة سيّارات "بويك" في القدس؛ الصورة السفلى من عام 1929 والعليا من توثيق البكري

 

فُسْحَة: على الرغم من الطمس والمحو المُمَنْهَجَين، إلّا أنّ الناظر إلى الموادّ التوثيقيّة، قد يشعر ببعض الأمل حيال كمّ الدلائل الحيّة على وجودنا...

طارق: نحن نحيا على هذا الأمل. قال الكاتب سلمان ناطور: "ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة"؛ فالحفاظ عليها يمثّل الردّ على قوّة الاحتلال في محوها، الّتي لا تنحصر في القوّتين العسكريّة والسياسيّة. أعتبر أنّ مبادرتنا - باختصار - مبادرة لتوثيق هذه الذاكرة.

 

فُسْحَة: هل ترى أنّ ثمّة جهدًا جماعيًّا كافيًا يبذله الفلسطينيّون لتوثيقها؟

طارق: أعتقد أنّ ثمّة تزايدًا في الوعي تجاه هذه المسألة. بدأت مبادرة "كنّا وما زلنا" قبل ثماني سنوات، خلالها نلحظ ظهور مبادرات شبابيّة فاعلة في هذا المجال، وظهور أشخاص حريصين على نشر صور قديمة وحديثة لأماكن شتّى؛ أسعد كثيرًا حين أراها. ثمّة صحافيّون يتوجّهون إلينا لمرافقة لاجئين إلى قراهم. أمّا الجهد الجماعيّ فما دام المخيّم موجودًا - نتحدّث عن أنّ 40% من سكّان الضفّة، و35% من سكّان أراضي 48، و80% من سكّان غزّة، هم لاجئون، بالإضافة إلى الشتات – وما دام مَنْ فيه يحملون أسماء قراهم ككُنية، فالتوثيق والتأريخ سيستمرّان. ما قدّمه مؤرّخ مثل وليد الخالدي، على سبيل المثال، في كتاب "كي لا ننسى"، على درجة عالية من الأهمّيّة، لكنّه نُشر في ثمانينات القرن الماضي؛ إن ذهبتِ اليوم إلى هذه الأماكن فستجدين تغييرًا كبيرًا، أنا نفسي لاحظت تغييرات خلال عشر سنوات وثّقت فيها. التوثيق فعل مستمرّ، وعليه أن يواكب هذه التغييرات.

 

فُسْحَة: جزء يسير من هذا التوثيق يوفّره كبار السنّ الّذين شهدوا النكبة؛ هل يجعلك الخوف من انقضاء هذا الجيل في سباق مع الزمن؟

طارق: العلاقة بالزمن قاتلة؛ فبينما نصوّب أنظارنا على مَنْ عاصروا النكبة، علينا ألّا نهمل توثيق "ما بعد النكبة". الفلسطينيّون الّذين لا يزالون يتذكّرون النكبة يشكّلون نسبة 10%، بعد عشر سنوات - أطال الله أعمارهم - سنفقد عددًا كبيرًا منهم، إذا أخذنا بالحسبان معدّل الأعمار وحدّة الذاكرة. لطالما شعرت بأنّنا أمام معضلة حقيقيّة، لكنّي لاحقًا بدأت أندهش من قدرة الجيلين الثاني والثالث على السرد وامتلاك التفاصيل. حدث معي أن أتعامل مع أشخاص في الثلاثين من أعمارهم، يحفظون سرديّات كأنّهم عاشوا ذلك الزمن. أعطيك مثالًا؛ تواصلت معي عائلة فلسطينيّة من أمريكا، وقالت إنّ الأب، ابن 71 عامًا، سيزور فلسطين لأوّل مرّة بعد أن غادرها في سنّ الخامسة. قضيت ثلاثة أشهر في دراسة صفد والبحث عن البيت. خلال بحثي، توصّلت إلى سيّدة من صفد تعيش في الدوحة ومطّلعة على تاريخ المدينة، تواصلنا عبر الواتساب. السيّدة تحفظ كلّ شبر، وكأنّ خريطة المدينة مطبوعة في ذهنها، وقد اكتشفت بعد أسبوعين من التواصل أنّها من مواليد الخمسينات أو الستّينات؛ فكانت تلك بمنزلة صدمة بالنسبة إليّ، فكلّ ما في ذاكرة هذه السيّدة متوارث من والدتها. أخبرك بقصّة ثانية؛ جاءني رجل حاملًا خريطة بدائيّة رسمها عمّه، الرجل من مواليد اليرموك أصلًا، لجأت عائلته من عكّا. بحثنا في عكّا الجديدة عن بيت العائلة، وإذ به يوجّهني: إلى اليسار ثمّ إلى اليمين، ولم يكن قد مرّ على وجوده في فلسطين أكثر من 12 ساعة، استجبت لتوجيهه ووصلنا إلى البيت. مرّت سيّدة عكّاويّة، وأكّدت أنّ هذا هو بيت العائلة.

محاضرة لطارق البكري في البرلمان السويديّ

 

فُسْحَة: كيف بدأت مرافقتك للاجئين إلى قراهم ومدنهم؟ وكيف تنظر إلى العلاقات الشخصيّة الّتي تنشأ معهم، والمسؤوليّة الّتي تترتّب عليها؟

طارق: المسؤوليّة كبيرة، وهي في ازدياد. أنا بصفتي مقدسيًّا لديّ حرّيّة ما في الحركة؛ وهذا ما جعلني أشعر بهذه المسؤوليّة. وسيكون من الأنانيّة أن أعيش حياة طبيعيّة، في الوقت الّذي تعرّض فيه أهلي إلى ظلم تاريخيّ. ما أقدّمه أضعف الإيمان، على الرغم من أنّ مسألة التأريخ ليست من اختصاصي، وعلى الرغم من أنّ ذلك لا يشكّل بالنسبة إليّ مصدر معيشة. لا أستطيع أن أرفض طلب لاجئ بتصوير بيته أو البحث عنه، ربّما أعطي الأولويّة للكبار في السنّ. أحيانًا أشعر بأنّي في برنامج "ما يطلبه اللاجئون" [يقولها ضاحكًا]. صحيح أنّ ذلك يشكّل مسؤوليّة بالنسبة إليّ، لكنّي مستمتع بها لأنّي أعي قيمة الرسالة الإنسانيّة الّتي تقوم بها المبادرة، سواء على مستوى توفير المادّة التوثيقيّة لفلسطينيّي الشتات، أو للفلسطينيّين داخل فلسطين الّذين يتحوّر مكانهم، وتتغيّر معالم شوارعهم وأسماؤها. ثمّ إنّي أستفيد على قدر كبير على المستوى الشخصيّ؛ فأنا أدرس القرى والمدن وأقرأ ما في وسعي عنها. من أجل كتابة خمسة أسطر عن قرية ما؛ قد أضطرّ إلى سماع عشرات الساعات التوثيقيّة الشفويّة. من جهة أخرى، ألقي الضوء على أعلام وشخصيّات فلسطينيّة، كالسكاكيني وإدوارد سعيد، أوثّق بيوتهم وأضمّن قصصهم وقصص أفراد عائلاتهم من الأجيال الجديدة، الّذين يزورون فلسطين في محاضراتي.

 

فُسْحَة: أُطلقت عليك صفة "حارس الذاكرة"؛ ما شكل الحراسة الفعليّة في رأيك؟ وإن كنت ستعطي شخصًا آخر هذه الصفة فمَنْ سيكون؟

طارق: أتطلّع دائمًا إلى أن يتّخذ كلّ شخص، في مبادرة "كنّا وما زلنا"، مسألة الحفاظ على الذاكرة مشروعًا. كلّ شخص يعيش في المخيّم يحرس ذاكرته، كلّ فلسطينيّ، جدّي، جدّتي، كلّ فلسطينيّ هو حارس للذاكرة.

 

فُسْحَة: أشعر بأنّ قيمة المبادرة مرتبطة بشخصك، وبحرارتك الشخصيّة تجاه قضيّتها، لكن هل ستذهب "كنّا وما زلنا" في اتّجاهات أوسع؟

طارق: قبل نحو عام، اتّخذت خطوة جديدة، وهي أن تنتقل المبادرة لتصبح مشروع مجموعة، وألّا ترتبط بي وحدي. كوّنت فريقًا من 25 صبيّة وشابًّا من القدس وأراضي 48، لسهولة حركتهم. لاحقًا سيضمّ الفريق أفرادًا من مناطق أخرى. أهدف إلى أن تصير المبادرة مبادرتهم، وأن يطوّروها ويطوّروا أساليب العمل. ننظّم ورش عمل، ونزور القرى، أحرص على أن يمرّوا بالتجربة الّتي مررت بها شخصيًّا. وحين نستقبل لاجئًا نستقبله بصفتنا فريقًا. إنّ الطاقة الّتي تمكّنني بشكل فرديّ من تقديم ثلاث قصص، ستمكّننا - نحن المجموعة - من تقديم خمس عشرة قصّة.

 

فُسْحَة: هل تشعر أحيانًا بالقنوط أو الإحباط؟ وإن كنت تشعر، فكيف تشحن عزيمتك؟

طارق: أشعر أحيانًا بأنّ الأشياء الّتي تدعو إلى الإحباط غير مرئيّة بالنسبة إليّ. أزور القرى المهجّرة فأراها بالأبيض والأسود، وأستطيع أن أتخيّل حياة نابضة بدقّة. إذا زرت حديقة وطنيّة فلا أرى الأعلام الإسرائيليّة ببساطة، إذا زرت حيفا فسيتراءى لي أصدقائي اللاجئون في بيروت. أنا متأكّد من أنّ اليهوديّ الّذي قدِم مهاجرًا غير شرعيّ في الثلاثينات، وصل إلى ميناء يافا وتمشّى فيها، صعد "شارع جمال باشا" الّذي احتوى على ستّ دور سينما، ثمّ انعطف نحو دوّار الساعة، أكيد أنّه قال في سرّه: "أوف! شو هالحضارة! كيف بدنا نعمل دولة؟ شو بدّو يطلّعهن هدول؟". لكنّهم فعلوها وأخرجونا؛ فكيف لا نحلم، نحن أصحاب الحقّ والأرض الأصليّين؟

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.