بعد قرابة أسبوع من بداية الهبّة الأخيرة في فلسطين، المعروفة بـ «هبّة القدس» (2021)، ظهرت تسجيلات فيديو فيراليّة (Viral) عدّة، وأحدها ما عُرِفَ باسم تسجيل «شَبابْنا مْلاحْ» للشيخ حسني لحّام من باقة الغربيّة، المحقّق لملايين أو لعشرات ملايين المشاهدات في شبكات التواصل الاجتماعيّ مثل «تيكتوك»، و«إنستغرام»، و«فيسبوك». تاريخ أوّل نشر لفيديو «شَبابْنا مْلاح» في صفحات «فيسبوك» يعود إلى 18 أيّار (مايو) 2021، في صفحة بعنوان «بلدتنا» الّتي تهتمّ بقضايا فلسطين، وخاصّة أراضي 48. حاز هذا التسجيل المذكور على 3.6 مليون مشاهدة، وآلاف التعليقات والمشاركات إلى هذه اللحظة. وهذا إلى جانب النشر في صفحات أخرى، وكذلك في منصّات «إنستغرام» و«تيكتوك» الّتي يصعب رصدها بدقّة عن طريق محرّكات البحث.
هذا الاستحسان والإقبال المَهول على فيديو «شَبابْنا مْلاح» هو في حدّ ذاته ظاهرة تثير الاهتمام، وقد يثير تساؤلات كثيرة: هل لاقى إقبالًا كبيرًا بسبب المضمون التقدّميّ المفاجئ، المتمثّل بدعوة الناس لوضع ثقتها بالشباب الثائر في الشوارع، وأن تظنّ بهم خيرًا؟ أم أنّه الأداء الخطابيّ الجميل الفيّاض بالمشاعر والعنفوان للشيخ حسني لحّام الّذي لفت الأنظار والآذان؟ للإجابة عن هذه الأسئلة نحن في حاجة إلى مجهود خاصّ، وتحليل أدبيّ وبلاغيّ واسع، وهو ما يحتاج إلى مقالة مطوّلة.
الجماليّة
في تاريخ 22 أيّار (مايو) 2021، أي بعد 4 أيّام من سطوع نجم فيديو «شِبابْنا مْلاحْ»، ظهر في صفحة «الفارعة Al-Faraa» تسجيل آخر لنفس الشيخ عُرِفَ بـ «بَنات بِتْأَرْجِل وِبْتِطْلِعْ دَوائِر» (وهو أقدم تسجيل وجدته على فيسبوك، وقد يكون ثمّة تسجيلات أقدم في منصّات إنستغرام أو تيكتوك). على الأرجح أن يكون هذا التسجيل، أي «بَناتْ بتأرجِل...»، قد أُخْرِج من أرشيف خُطَب الشيخ حسني لحّام بشكل مقصود؛ لأنّه يحمل رسالة يمكن ادّعاء أنّها صاحبة مقولة سياسيّة معاكسة تمامًا للفيديو السابق «شَبابْنا مْلاح». في هذا التسجيل يبدأ الإمام ملاحظته بقوله "لَمّا الْواحَدْ يُدْخُل مَحَلّ... وِيْشوفْ بَنات، نِساء – حَدَّثوني كْثيرِ مْنِ النّاسْ – بِتْأَرْجِل! وْبِطْلِعِنْ دَوائِرْ! بِتْأَرْجِلْ بِتْأَرْجِلْ بِتْأَرْجِلْ! بِتْأَرْجِلْ! وينْ هذا بِصيرْ؟ كيفْ هاذ يَعْني؟"، وهي الكلمات الّتي حازت على شعبيّة كبيرة، وكذلك أثارت جدلًا واسعًا.
إذا توقّفنا وتأمّلنا المقطع أعلاه، ولا سيّما مع مشاهدة صوت الشيخ وصورته، فلا يسع معظمنا إلّا تقدير الجمال في هذا الأداء الخطابيّ والمسرحيّ العفويّ والحادّ. لا يمكن فصل الأداء وطريقة الإيصال إلى الفكرة عن الفكرة نفسها، فإنّ النبرة العالية وتعابير وجه الإمام الْفَجِعَة والمتفاجئة سلبًا هي كثيفة بالمعلومات والفرضيّات الضمنيّة؛ ربّما ما يجعلنا نقدّر الفروق الكبيرة بين النصّ المكتوب والنصّ المحكيّ بأداء خطابيّ. ما هذه الفرضيّات؟ وكيف يمكن كشفها عن طريق التحليل البلاغيّ للمقطع؟
الفضيحة
بدايةً، من الواضح أنّ الشيخ ليس مُستاء وغاضبًا من ظاهرة الأرجيلة فقط، فهو لم يطرحها بصفتها آفة مجتمعيّة تجتاح البلدان، وكذلك لم يقصد انتقاد ظاهرة تدخين الأرجيلة بين أوساط البنات في الخِفية أو وراء جدران البيوت، بل إنّ خطابه موجّه تحديدًا إلى نقد ظاهرة البنات الّتي تتجرّأ على تدخين الأرجيلة، علنًا تحت الشمس وفي الأضواء والحيّز العامّ. ربّما ما يدعم هذا الادّعاء، هو تحديدًا طرح الشيخ لحقيقة أنّ بعض البنات "بِطْلِعِنْ دَوائِرْ!"... فليس فقط أنّ الإناث تخرج وتظهر في الحيّز العامّ، وفي أماكن الرفاه بعيدًا عن "حُرُمات البيوت"، وفوق أنّها تجرؤ على تدخين الأرجيلة، الّتي هي ظاهرة أصلًا غير معهودة لدى الإناث في بلدات منطقة باقة الغربيّة، بل إنّ فوق كلّ هذا، القشّة الّتي قصمت ظهر البعير، أنّ هؤلاء البنات يشعرن بالراحة والثقة في ما يصنعن، حتّى أنّهنّ وصلن مرحلة إخراج دوائر من الدخان بصفتها علامة احتراف وفنّ في عالم التدخين. بعد ذلك يضيف الشيخ توكيدات لكلمة "بِتْأَرْجِلْ" ثلاث مرّات وأربع؛ ليرمز بهذه الأداة البلاغيّة إلى أنّ ما يذكره هو في نظره فاجعة تحتاج إلى الإعادة والتوكيد؛ خوفًا من أن ينكرها ولا يصدّقها البعض في ما لو ذُكِرَتْ مرّة واحدة فقط، وهذا من شدّة وقعها على المسامع.
بهذا الأداء الخطابيّ والبلاغيّ، يحاول الشيخ وصف تعريف واقع البلد الريفيّ الفلسطينيّ المحافظ وإعادته، الّذي لا يزال يخضع لسلطة الكبار والرجال والمخاتير، والّذي يحارب بأسنانه للحفاظ على هذه السلطة. وإحدى الأدوات المحوريّة لضبط هذه السلطة هي التحكّم بمفهوم العيب والعار، وهي أداة متاحة وشرعيّة، وخاصّة لدى البنية الاجتماعيّة القرويّة الّتي تفرض معرفة الكلّ للكلّ؛ ليصبح الزوج أو الأخ أو الأب تحت تهديد الفضيحة، إذا ما ذهبت إحدى الإناث المعدودات عليه (بمبدأ «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته») لتُؤَرْجِلَ ولتُطْلِعَ دوائر، ممّا يقوله الشيخ صريح القول لاحقًا في الخطبة: "شو أَقُلُّه يَعْني، إِذا فات هو وْمَرَتُه وْبَناتُه وْخَواتُه؟ أَقُلُّه يَعْني إِنُّه الْأَرْجيلِة سُنِّة مُؤَكَّدِة بْرَمَضان؟ شو أَقَلّه يَعْني سُنِّة مُؤَكَّدِة عَشان يِنِبْسِطْ؟".
الجدليّة
هي رقصة جميلة من التضادّ والجدليّة (الديالكتيك) بين رسالة «شْبابْنا مْلاحْ» و«بَناتْ بِتْأَرْجِلْ»، في الأولى ثمّة دعوة لكسر الهرميّة السلطويّة القاسية صاحبة الأدوات القمعيّة، مثل التوبيخ الدائم للشباب أو الظنّ بهم سوءًا، وهذا بخاصّة في سياق ظهور الخطبة، في وسط الانتقادات الشديدة الّتي خرج بها الكثيرون في فترة الهبّة، على الشغب الاحتجاجيّ الّذي قام به الشباب، وهي فلسفة تقدّميّة تتيح خلق قيادات جديدة وبناء مجتمع متعاضد، يتصوّر نفسه جسدًا واحدًا. ورسالة التسجيل الثاني قد تحمل دعوة لاستعادة اليد الحديديّة لضبط القوانين والهرميّة القديمة، إثر ضياع الأجيال الجديدة الّتي تجرؤ على ضرب التقاليد والأعراف بعرض الحائط؛ ما قد يُفْهَم نزعًا للثقة عن الأجيال الصاعدة وإعلان حرب رمزيّة بين طبقات الجيل أو بين المعسكرات المتناحرة فكريًّا وفلسفيًّا.
نهايةً، لا يمكن تجاهل الرمزيّة الجندريّة في رقصة التضادّ هذه، ففي طرح «شَبابْنا مْلاحْ» برز - بقصد أو بغير قصد - دور الشباب الذكور، الّذين "95%" منهم ملاح طيّبو القلب، مع أنّهم يسكرون و"مْعَجّْبينْ" (وهي صفات لا يمكن أن ينسبها الشيخ إلى الإناث). ظهروا ملاحًا بنظر الشيخ في غضون الهبّة الّتي بها احتجّوا وانتفضوا من أجل القدس، وهذا تمثّل أيضًا بشدّ الرحال والرباط والدفاع بالأجساد عن المسجد الأقصى؛ أي أنّ التصرّفات الفرديّة تكون هامشيّة إلى جانب اللُّحْمَة يوم الزحف، وتلبية لدعوة الجهاد بمفهومه الواسع. هذا في حين أنّ الشخصيّة النموذجيّة للعصيان والضياع تمثّلت بالبنت والأنثى، الّتي تُؤَرْجِل وتُطْلِع دوائر، والّتي لا وليّ ولا راعٍ لها.
من المهمّ الإشارة إلى أنّه قد يكون هذا بعيدًا عن مقصد الشيخ، خاصّة حين نأخذ بعين الاعتبار نزع السياق من المقطع الثاني، وعدم عرضه بشكل زمنيّ (كرونولوجيّ)، فربّما كانت هي الهبّة الأخيرة الّتي سبّبت في قلب الموازين، وصوّرت الشباب عُدَّةً وقيادةً جديرة بالثقة. لكن هذا لم يمنع انتشار التسجيلَين كالنار في الهشيم بشكل موازٍ بشبكات التواصل الاجتماعيّ في جميع الأقطار العربيّة؛ ما حقّق تمثيلًا دقيقًا لظاهرة الديالكتيك (لفريدريخ هيجل)، الّتي تقول إنّ التاريخ والثقافة يتقدّمان بحركات متضادّة مثل الرقّاص (Pendulum)، واللّذان يتعدّلان تدريجيًّا، وتثبت في مكانٍ ما في الوسط بين الطرفين. مثلما قالت إحدى المعلّقات: "إِمْبارِحْ بْتِحْكي الشابّ يِسْكَرْ وْما يْصَلّي وْشَبابْنا مْلاحْ. الْيومْ الْبِنِتْ إِذا أَرْجَلَتْ صارَتْ كُلّْها غَلَطْ وْمُشْ مْلاح!"
باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.