الشاعرة سيّا رينيه: أفكارنا رهائن لغة جاهزة | حوار

الشاعرة سيّا رينيه

 

إنّ الاستماع إلى قصيدة واحدة من قصائد الشاعرة سيّا رينيه، يشبه سماع مطرقة كبيرة، تحطّم القوالب والأشكال والأصوات الّتي نعرفها عن الشعر، لا سيّما نحن العرب الّذين لا تتشدّق قصيدتنا أمام أبيها. أمّا قصيدة الشاعرة السويديّة، الّتي نشأت في ألمانيا، ودرست في أثينا وفنلندا، فتقوم على التجريب والألعاب، ألعاب تبتكرها فتصنع من اللغة معجونًا مرنًا في يدها. تكتب سيّا بأكثر من خمس لغات؛ الأمر الّذي مكّنها من التعاطي مع اللغة على أنّها لعبة من الأصوات والمعاني، الّتي تتحرّك بجنون وعفويّة أكبر من تلك الّتي نعرفها عن لغة واحدة أو اثنتين. قصائدها البصريّة الّتي تأخذ أشكالًا هندسيّة مختلفة، والسمعيّة الّتي تعتمد على الموسيقى في الكلمة والمقطع والجملة، نُشرت في كتب وعُرضت على مسارح وفي متاحف عدّة، مقدّمةً نموذجًا شعريًّا فلسفيًّا، يجعلنا نفتح أبوابًا جديدة للتفكير في ماهيّة الشعر وشكله، ويجعلنا نفكّر مرّة أخرى، أو من نقطة الصفر، في هذا الشيء المفهوم ضمنيًّا: اللغة! أهي الوسيلة أم الهدف؟ أهي الثابتة المقدّسة أم المعجون الطيّع؟

أجرت فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة معها هذا الحوار.
 

فُسْحَة: اخترت ألّا تسلكي الطريق السهلة في الشعر؛ فالمبنى الّذي تعتمدينه في لغتك الشعريّة، فيه الكثير من المغامرة والتحدّي لو قارنّاه بالأشكال والقوالب، ومن ثَمّ المضامين المتعارف عليها في الشعر المعاصر؛ ما الّذي يحفّزك على ذلك؟ هل هي الحاجة لتجاوز السائد؟ هل هو الفضول؟

سيّا: أعتقد أنّي، منذ سنّ صغيرة، أُذهَل كالأطفال من الأشياء الّتي تبدو لنا مفهومة ضمنيًّا: الحياة نفسها، وأشكال التفكير، والسلوك الاجتماعيّ، والإيمان، واللغة بقوّتها وقيودها. إنّ نشوئي وسط لغات مختلفة ومتعدّدة تعايشت في ما بينها، وكذلك حقيقة أنّ انعطافًا صغيرًا يكفي للقضاء على البنية غير المتوازنة أصلًا؛ سبّبا عندي ارتيابًا في ثقتي باللسانيّات. لطالما دُهشت من الطريقة الّتي تؤخذ فيها اللغة بشكل مفهوم ضمنًا، وتُستخدم بصورة مطلقة على أنّها طقم أدوات مثاليّ، لكن في لغة أخرى، قد تختلف هذه الأدوات كلّيًّا، ولن يكون المرء قادرًا على قول الشيء ذاته بالضبط؛ إذن، كيف بإمكاني تأكّد أنّني فعلًا أفكّر أو أؤمن بما أقول؟ أليست أفكاري مجرّد رهائن في لغة جاهزة؟ ألسنا "أسرى كلمات الآخرين"(Prisonnier(s) Des Mots D’autrui) ، كما يقول رولان بارت؟ إنّ هذه الشكوكيّة تعمّقها الفلسفة، من حيث إنّ كلّ مصطلح مشروع لعمليّة تعريف مستمرّة، واللغة في هذه الحالة مهدّدة من قِبَل اختلافاتها المنطقيّة مع نفسها.

 

 

إنّ ما يقف خلف كتاباتي، في معظمه، ينبع من استجواب (Mise En Question) اللغة نفسها؛ في محاولة للنظر إلى الكلمات واللغة عينها. يثيرني جدًّا كيف تكون اللغة، بعدم مثاليّتها هذا، محرومة من وظيفتها التقليديّة، ومستخدمة بطريقة تتجاوز المقبول والسائد.

 

فُسْحَة: إذن، هذا التوجّه الأسلوبيّ يرتبط باستخدام الكلمات وحداتٍ مستقلّة أيضًا، وربّما المقاطع الصوتيّة، أكثر من استخدام الجمل النثريّة الطويلة؛ هل تشعرين بحاجة إلى النثر؟ أم أنّه سوف يُفقدك الموسيقى؟

سيّا: في الحقيقة، أنا أكتب النثر؛ أكتب المقالة والدراما. بإمكانك أن تعمل على مسألة التفكيك ولعبة الكلمة في النثر أيضًا، لكن هناك سيكون الأمر مختلفًا. إنّ كتابة شعر مباشر وإيجازيّ شكل من أشكال تجنّب الكتابة الشموليّة؛ لذا هي كتابة بطيئة، وتستطيع أن تجاور تركيزًا على أشكال كتابة أخرى في نفس الوقت. منذ السنة الماضية، بدأت بكتابة نصّ أوبِراليّ، يشكّل بالنسبة إليّ شكلًا جديدًا في الكتابة. ينبغي اعتبار الكثير من الأشياء عند الكتابة من أجل المسرح أو الخشبة، كما أنّ لعبة الصوت ستأخذ منحًى مختلفًا.

 

فُسْحَة: ينبع سؤالي السابق من التمييز الحاصل بين الكلمات كائناتٍ مستقلّة وبين الصور؛ مثلًا، الكثير من الشعراء يستلهمون نصوصهم من المشاهد/ الأحداث؛ هل تفعلين أنت أيضًا؟ وكيف تتجسّد تلك المشاهد الحياتيّة اليوميّة في صوتك وأسلوبك؟

سيّا: نعم، إنّها تلهمني، على الرغم من أنّ ذلك عصيّ على أن يكون مرئيًّا في أعمالي، الّتي ليست سرديّة ولا سيرة ذاتيّة أو ما شابه ذلك، بل تميل نحو التجريد. الكثير من الكتابات تزامنت مع تجارب أخرى، مثل مشاريع عن الحياة بعد الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، أو عن روما الأوروبّيّة على سبيل المثال. عند توليفي لجميع هذه القطع، أجدني أبحث عن الشكل الأكثر تجريدًا وإيجازًا. تستطيعين القول إنّني أعمد إلى الاختزال، ثمّ الاختزال، فالاختزال، نحو اللاشيء تقريبًا.

 

فُسْحَة: في عمل لك بعنوان "جُمَل"، كأنّك تنسحبين من القصيدة، تتركين اللغة لتتكلّم بالنيابة عن نفسها، فتصير الجمل كائنات تشعر وتتكلّم وتفكّر؛ إنّ هذا التوجّه الفلسفيّ في كتابتك يقودني إلى بساطة هذا السؤال: ماذا تعني لك اللغة؟ أهي ثابتة أم متغيّرة وفق العمل؟

سيّا: شتيفان ريبلينغير قال إنّ الأدب اليوم ينقسم إلى معسكرين: الأوّل الّذي يؤمن بأنّ الكلمات تعكس العالم، والثاني يؤمن بأنّ الكلمات تعكس كلمات أخرى، وحسب هذا التمييز، فإنّ جميع أعمالي "الشعريّة" تنتمي إلى المعسكر الثاني. إضافة إلى ذلك، فإنّ عمل "جُمَل" مكّنني من النظر إلى بنى الجمل ونواياها. أمّا جعلهم يتكلّمون بالنيابة عن أنفسهم، فكان ضربًا من اللعب بطريقة حرّة وفكاهيّة. 

 

من نصوص سيّا

 

فُسْحَة: يعتمد شعرك كثيرًا على الصوت؛ هل بإمكاننا اعتباره تجربة موسيقيّة قائمة على التجريب والنصّ؟ وكيف تتعاملين في النظريّة والممارسة، مع الحدود بين الموسيقى/ الصوت والمعنى الناجز والصلد في اللغة؟

سيّا: إنّ الجانب السمعيّ اكتسب عندي أهمّيّة تدريجيّة؛ فالكتاب الأوّل لم يُكتب من أجل أن يُقرأ جهارًا، وحين طُلب إليّ أن أقرأ منه، اعتبرت الأمر سوءًا في الفهم، وقلت: "بإمكانكم أن تنظروا إليه". وبالنظر إلى جميع الرسومات والقطع الموجزة هنا وهناك، اعتقدت أنّ قراءته مستحيلة، لكن عندما فعلتها أخيرًا، وقرأت من النصوص، أدركت أنّ الأمر لم يكن بهذه الاستحالة الّتي ظننتها. ومنذ تلك التجربة، كتبت نصوصي جاعلةً هذه المسألة في مقدّمة وعيي؛ إذن، ثمّة بالتأكيد معايير موسيقيّة آخذها بالاعتبار كالإيقاع والصوت، كذلك الّذي يرتبط بالنصّ كلّه، وبالتسلسل الّذي يربط القطع ببعضها بعضًا، لكن ما زلت أعتبر الجانبين البصريّ والسمعيّ يعملان باستقلاليّة.

 

فُسْحَة: لا بدّ أنّ ثمّة لغة واحدة عند الشاعر أو الشاعرة - وإن تمكّنا من غير لغة واحدة - تطغى دون غيرها عند الكتابة؛ كيف الأمر عندك؟

سيّا: تتصرّف لديّ اللغات بالمثل. صحيح أنّي أتكلّم لغات عدّة، لكن عند كتابة الشعر، أدنو من لغات أوروبّيّة واسعة كالإنجليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة؛ فهذه اللغات تبدو أكثر انسجامًا مع المستوى التجريديّ للنصوص من لغات أخرى، كالسويديّة على سبيل المثال، الّتي ترتبط بعوالم جغرافيّة وثقافيّة محدّدة، وهي لغة ترتبط عندي - كونها لغة العائلة - بدلالات مختلفة، كما أنّ اللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة قريبتان جدًّا؛ ولذلك فهما توفّران لي إمكانيّات للتنقّل بينهما من خلال المعاني والأصوات. وعلى ذاك؛ عند كتابة نصوص شعريّة قصيرة وموجزة، أعتقد أنّي أكون منفتحة على لغات عدّة منذ البداية، لكن عند كتابة نصوص طويلة، سيكون من الضروريّ اختيار لغة واحدة.

 

فُسْحَة: اعتماد شعرك على الصوت والألعاب اللغويّة قد يُفقد النصّ الكثير عند نقله إلى لغة ثانية؛ هل تخافين هذه الخسارات عندما تفكّرين في أمر ترجمة شعرك إلى لغات أخرى؟

سيّا: نعم، عادةً أعارض مسألة ترجمة كتاباتي، فغالبيّة نصوصي لا تقوم إلّا بلغة محدّدة. قد تكون الترجمة ممكنة، لكن ليست بالضرورة حسّاسة. أمّا لعبة الصوت والأشكال الهندسيّة الّتي تتمتّع بها النصوص، فليس بالإمكان دائمًا نقلها إلى لغات أخرى، على ذلك، ترجمت بعض النصوص إلى الإيطاليّة والفرنسيّة، وكان ذلك ممكنًا بسبب قرب هذه اللغات من بعضها.

 

من نصوص مجموعة "Zaroum"

 

لست أكيدة من موقفي تجاه مسألة صعوبة الترجمة، صحيح أنّ النصّ يفقد شيئًا إن لم تستطع الترجمة أن تبيّنه، لكن من جهة أخرى، ثمّة نصوص توصل مفادها على المستويين البصريّ والسمعيّ، عندئذٍ لا يعود مهمًّا فعلًا إن كنتِ تفهمين كلّ تفصيل صغير، ربّما سيكون صحّيًّا ألّا يفهم المتلقّي كلّ شيء. للأسف؛ لا أستطيع فهم ترجمة نصوصي إلى العربيّة مثلًا، إلّا أنّي سعيدة بأنّه جرى تلقّيها جيّدًا، حتّى أنّها أوصلت حسّها الفكاهيّ.

 

فُسْحَة: عندما تشرعين بكتابة مجموعة جديدة؛ أيّ أسئلة تهجسين فيها؟ أسئلة الأسلوب أم المضمون أم الإيقاع؟ وهل تعملين، ربّما لا شعوريًّا، على تغيير عاداتك أو طرائقك في الكتابة حتّى تحقّقي تغييرًا ما؟

سيّا: في معظم الأعمال يشغلني الفحوى، رغم أنّ المنهجيّة الّتي أكتب من خلالها، تختلف من مسار إلى آخر، فكتابة "رحلات روما" (2007)، التوثيقيّة على سبيل المثال، تطلّبت سفرًا وبحثًا في روما الأوروبّيّة، أو عمل "Dualogues" (حوارات حول الثنائيّة)، أو الدراما الفلسفيّة القصيرة، هل علينا أن نُعمي أنفسنا ونرحل عن ثيفا (2011)، الّتي تستند إلى نظريّة الفيلسوف هانس يوناس، حول الأنطولوجيّات الثنائيّة في الفلسفة الغربيّة، والّتي مهّدت إلى الوضع البيئيّ الكارثيّ. عملٌ مثل هذا يتطلّب تركيزًا أعلى كثيرًا من ذاك الّذي يتطلّبه الشعر، ذلك أنّك بحاجة دائمة إلى تتبّع التسلسل والتخطيط.

يبدو لي أنّ كتابة نصوص "Zaroum" - الّتي ننشر بعض ما تُرجم منها إلى العربيّة في هذا الحوار - هي الممارسة الراسخة الوحيدة؛ كونها لا تعمل على إحداث تغييرات في عمليّة الكتابة. لا تختلف كتبي الّتي صدرت عام 2001 2009 و2017 عن بعضها، إلّا في نوع الخطّ، وفي أنّ النصوص الأخيرة أكثر طولًا وأكثر ميولًا نحو السياسة.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش.