رائد وحش: أصبح الشعراء دون شعر

الشاعر والروائيّ رائد وحش

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

مثل حطّاب قديم يتفرّس في جذع شجرة في زمن التهافت الديجيتاليّ على أعاليها، يشتغل الشاعر والروائيّ رائد وحش في مشروعه؛ فاللغة بالنسبة إليه ليست أداة ناجزة، بل هي مكان للمكوث الطويل والدارس، وعلم الاحتمالات، وحقل من الأسرار الدفينة الّتي عليه أن يعيش أكثر من حياة لينبشها. بالنسبة إليه، كلّ نصّ هو تعرُّف الكتابة من جديد.

قدّم وحش حتّى الآن أربع مجموعات شعريّة وكتابًا نثريًّا ورواية؛ فالشكل ليس إله الفكرة أو سيّدها، هكذا يلقي الفكرة في بحر التشكيلات الممكنة. الشاعر والروائيّ، "اللاجئ بالوراثة"، كما يقول، الّذي خرج أهله من فلسطين وخرج هو من سوريا، لن يخرج نصّه من هذه الوراثة. وفي أكثر حالاته غوصًا فيها، لن نسمع صوت بلطة هذا الحطّاب، الّذي يشكّل أشياءه بصمت وتأمّل.

حول مجمل تجربته الإبداعيّة وآرائه في الحركة الأدبيّة العربيّة المعاصرة، وتحديدًا الشعريّة، ومسائل مثل الكتابة والهويّة، والفرديّ والجماعيّ، وأثر ما هو سياسيّ في الأدب، وغيرها، كان لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع رائد وحش هذا الحوار.

 

فُسْحَة: تسود اللغة اليوميّة البسيطة الشعرَ الّذي يكتبه الجيل الجديد من الشعراء العرب، إن جاز التعبير. ألحظ في جزء من قصائدك، ولا سيّما في مجموعة "مشاةً نلتقي مشاةً نفترق" (2016) لغة أكثر فصاحة من السائد، كأنّها لغة ابن جيل أقدم من هذا الجيل؛ إذا طلبت منك أن تتعقّب منابع هذه اللغة، فأين هي؟

رائد: تسيّدت اللغة اليوميّة المشهد الشعريّ؛ فعلى الرغم من تعاظم أعداد مَنْ يكتبون الشعر اليوم، إلّا أنّ هذا الكمّ يحمل عداءً للنوع. ثمّة كثير من الأسئلة الّتي ينبغي طرحها، منها بالتأكيد هذا الحضور الكبير للقصيدة اليوميّة، الّتي تقوم على تدوين أفكار أو تجارب صغيرة، بلغة بسيطة، على حساب غياب التجارب الّتي تنحو منحًى ملحميًّا، أو تقوم على بناء بلاغيّ خاصّ.

حين نتحدّث عن القصيدة اليوميّة، فنحن نعني بشكل محدّد القصيدة الّتي تأسّست على يد الشاعر الراحل محمّد الماغوط، ثمّ باتت ذات ثقل مرجعيّ مع شاعر مثل رياض الصالح الحسين. أليس واضحًا حجم التشابه، لا على صعيد الأفكار والموضوعات فحسب، بل على صعيد صياغة الجملة أيضًا؟ أليس ما يُطرح أمامنا من موضوعات قليلًا جدًّا، إلى درجة تشير إلى مخيّلة مفلسة؟ أليست تلك الموضوعات هي: الحبّ، والجنس، والوحدة، والحرب، والحياة في المدينة؟ ألا تقتصر معالجتها على رؤية أحاديّة هي المنظور الشخصيّ الأقرب إلى عرض تجربة منه إلى تحويل الفنّ ذاته إلى تجربة، والخاصّ إلى عامّ؟ عن هذه المسألة يمكن الحديث طويلًا؛ لأنّها قادمة من تهشّم الأنا الشعريّة، الّتي تعني من بين ما تعنيه تماهي الأنا الفرديّة بالعالم والآخرين، وهذا التهشّم إعلان انحدارها إلى مستوًى نفسيّ لا أراه إلّا تعبيرًا عن نرجسيّة أو أنانيّة؛ بهذا المعنى صار الشعر آليًّا. يكفي أن يتحدّث الشعراء عمّا يقع في طريقهم لتكون الحصيلة قصيدة. هذه الحالة الآليّة لا تختلف عن الماكينة، الّتي نطلب منها شيئًا معيّنًا فيكون ردّها الاستجابة. شعر الحالة الآليّة مكتوب كانفعال، وليس نتيجة التفاعل والتفكّر المطوّل، وبالتالي التركيب من الحالة الّتي يمرّ بها الإنسان مع مكوّنات أخرى فكريّة أو تاريخيّة أو حكائيّة أو بصريّة... إلخ.

إنّ المفارقة الّتي أمامنا مشهد واسع جدًّا يكتب الجملة ذاتها؛ وهو ما يجعلنا نذهب إلى القول إنّ القصائد باتت من دون توقيع. جزء كبير ممّا نقرؤه يحمل توقيعات غير مرئيّة لشعراء موتى، شاعر مثل رياض الصالح الحسين لا يزال يكتب من قبره عبر هؤلاء الشعراء، والأثر الّذي تركه رياض، وهو أثر وصله من الماغوط كما أسلفت، بات معيارًا راسخًا. أن تكون شاعرًا يعني أن تكتب بهذه الطريقة، وأن تكتب عن هذه الأشياء فقط؛ أمّا ما هو غير ذلك فليس شعرًا. هذه معايير بائسة؛ صحيح أنّه لا توجد قوانين مكتوبة، لكنّها باتت بمنزلة الأعراف، والعُرف قانون متَّبع دون أن يكون منصوصًا بنصّ. هذا العرف بائس، وهذا الشعر الخاضع له شديد البؤس.

طبعًا لا أُنكر على أحد حقّه في خوض الكتابة، إلّا أنّ توصيفنا له بوصفه ظاهرة ثقافيّة أمر آخر؛ فلا هدف سوى محاولة فهم ما الّذي يستحقّ أن ينتمي إلى الفنّ، وما الّذي يستحقّ أن يذهب إلى فضاء التدوين الشخصيّ.

لا أعرف إلى أيّ مدًى ينطبق الوصف الّذي يحمله الشقّ الثاني من السؤال على طريقة تعاملي مع اللغة في الكتابة، وما أعرفه جيّدًا أنّ سؤال اللغة ملحّ دومًا، ولا يمكن كاتبًا، أيّ كاتب، أن يبني هويّته اللغويّة الفنّيّة دون تأثير من قراءاته، ولا سيّما المبكّرة منها، لكنّ عمليّة تطوير هذه اللغة من أجل منحها أكبر قدر ممكن من الخصوصيّة، تحتاج إلى تأمّل عميق في الكلمة والجملة. من جهة الكلمة، ليس من الضروريّ أن يفضي ذلك إلى أبحاث معجميّة، مع أنّني واحد ممّن يحبّون قراءة ذلك، لكنّ الأكثر أهمّيّة هو البحث في الحالات الإعرابيّة المختلفة للكلمة، وفي اشتقاقاتها المتنوّعة. أمّا من جهة الجملة فإنّ قواعد النحو تقدّم أفضل الطرق لمعرفة احتمالات ما نودّ قوله؛ على سبيل المثال، إذا كان لدينا جملة شرطيّة فسنجد خيارات عديدة في بحث "أسلوب الشرط"، ويمكننا أن نختار منها ما نراه ملائمًا. ثمّ إنّ الابتعاد عن منطق اللغة وقوانينها، هو ما جعلنا نشعر بالاكتفاء بالسهل والشائع، وأدّى إلى غياب التفرّد.

 

فُسْحَة: يحقّق الشعر حضورًا على صفحات التواصل الاجتماعيّ، إلى درجة باتت تفوق الحضور الّذي يحقّقه في الكتب والمجلّات؛ كيف تنظر إلى هذه الظاهرة؟ هل يمكن عدّها مؤشّرًا على وضع صحّيّ للشعر؟ وهل تغيّرت صورة الشاعر؟

رائد: لافت جدًّا ذلك الحضور الكبير للشعر، ولافت أيضًا تزايد عدد الّذين يكتبونه، لكنّ الأكثر إثارة للاهتمام الشاعر نفسه؛ فشخصيّته شائعة ومألوفة، وفي بعض الأحيان تحظى بمكانة اجتماعيّة لا يستهان بها، غير أنّ تلك الحظوة تكاد تكون مقتصرة على الشخصيّ، دون أن ينال الجانب الفنّيّ حظًّا منها، ولا سيّما أنّ الشاعر بات مضطرًّا، ليحافظ على هذه الوضعيّة الخاصّة، إلى أن يعرض معلومات عن حياته واليوميّات الّتي يعيشها، معزَّزة بالصور والفيديوهات؛ وهو ما جعل الشعر شأنًا جانبيًّا، في حين أنّ الشاعر في مركز الاهتمام. صرنا نعرف الشعراء ونجهل شعرهم؛ وهذا ما يجعلني أقول: أصبح الشعراء دون شعر.

بهذا المعنى، يكون المنتشر الشعراء لا الشعر؛ إذن، لا معنًى لهذا العدد الهائل من الأشخاص الّذين يكتبون بلا فرادة في نتاجهم. ثمّ إنّه لا تهمّنا تفاصيل حياة الشاعرة أو الشاعر إلّا بمقدار الاتّصال بنصوصهم. لا شكّ في وجود علاقة بين أصحاب المشاريع الكبرى وحيواتهم، ومعرفة تلك الحياة ضروريّة لتشكيل صورة أوضح عن كتاباتهم، لكنّ المشاريع الكبرى - وهذا رأي شخصيّ للغاية - تضيء على حياة أصحابها لا العكس؛ إذ نهتمّ بمعرفة مراحل وعلاقات عاطفيّة وإنسانيّة خاضوا في غمارها، لنفهم لماذا كتبوا ما كتبوا، وطبعًا سيختلف كلّ ذلك كلّيًّا مع السيرة الذاتيّة؛ لأنّ أشياء الحياة ومفرداتها صارت نصًّا أدبيًّا، وصار أصحابها شخصيّات نلاحق حَفْرَهم في ذواتهم وتجاربهم، بينما في السوشيال ميديا يصبح الشخص هو الحالة، بأكله وشربه وملابسه. لماذا لا نفكّر في النظّارة الّتي تزيّن وجه تشيخوف؟ ولماذا لا نعطي اهتمامًا لبدلات محمود درويش؟ بالتأكيد لأنّ ما كتباه أكثر أهمّيّة بكثير من أشيائهم الشخصيّة.

بالعودة إلى السؤال؛ نعم، تغيّرت صورة الشاعر بين المجلّة والمنصّات، حيث أصبح مثالًا فاقعًا على ما تريد الشركات الّتي تدير هذه المواقع أن تحقّقه، من النواحي التقنيّة والإعلانيّة؛ فصار دور الشعر لا يختلف إلّا شكليًّا عن الدور الّذي يقوم به آخرون، من خلال الصورة والفيديو.

 

فُسْحَة: ألا تبدو قاسيًا بعض الشيء؟ ثمّة العديد من التجارب الشعريّة الّتي ساعدها الفيسبوك - بشكل خاصّ - على الوصول إلى الآخرين.

رائد: لا شكّ في ذلك إطلاقًا؛ عرفت وقرأت كثيرين بسبب الفيسبوك وغيره، لكنّني أتحدّث عن شكل التعاطي مع الوسيلة عندما تتحوّل إلى سلطة. بالنسبة إليّ، لا يعود الفنّ فنًّا حينما يكتفي فقط بأن يخاطب الحياة أو ينقلها في لقطات. مهمّة الفنّ تكمن في هضم الحياة والتعبير عنها من جديد بعيون أخرى، وبقلوب أخرى أيضًا؛ فلأضرب لكلامي مثلًا: قصيدة النثر، نتيجة العزوف عنها، اتّجهت إلى خيار الكتابة السهلة المفهومة، الساذجة في كثير من الأحيان، من أجل أن تُفهم من الجميع. ليست مهمّة الشعر أن يكون مفهومًا؛ فغموضه سرّ أساسيّ من أسرار سحره. في هذا المسعى كثير من التنازل أمام المتطلّبات غير الفنّيّة، أهمّها وأوضحها: الشهرة. ثمّ إنّه لا أهمّيّة لأن يكون الشعراء مشهورين، ربّما هذا الهدف في حدّ ذاته حماقة. الشعراء الّذين حازوا جماهيريّة أقلّاء جدًّا، ولذلك أسباب موضوعيّة عديدة، وكثير منهم لم يتنازل عن أسلوبه ومنهجه. إنّ القصيدة الّتي تتوسّل فَهْم الآخرين بابتعادها عن الذكاء والتركيب، والباحثة عن شهرة، تخسر رهانين كبيرين في الحقيقة: الوصول إلى الناس، والانتماء إلى الفنّ.

علينا ألّا ننسى أنّ هذا التوجّه، إلى جانب الدور الّذي يؤدّيه التفاعل المباشر بحكم الوسيط، يأخذ إلى الادّعاء. وبصراحة، الشعر فنّ مُغْرٍ للادّعاء والأدعياء. نسمع مَنْ يتحدّثون عن أنّهم أصحاب تيّارات، مع أنّهم يمثّلون التيّار السائد للقصيدة اليوميّة منذ خمسين عامًا، ونرى الصدق كاملًا حين يصف أحدهم مشاركته في فعاليّة ما بأنّه شعر بالمجد، مع أنّ المجد ليس مناسبة بمقدار ما هو ترسيخ في الثقافة الّتي ينتمي إليها النصّ. ربّما لولا القرب الزائف من المتابعين، القرب الّذي توهمنا به المنصّات الاجتماعيّة، ما قال هؤلاء ما قالوه.

 

فُسْحَة: لكنّ الشعر يبقى بعيدًا كلّ البعد عن هذا كلّه، ففي النهاية ما تتحدّث عنه مشهد يطغى عليه الشخصيّ، أليس كذلك؟

رائد: أوافق طبعًا، لكنّني أرى أنّ مشكلة هذا المشهد أنّه بات قويًّا، من حيث قوّة حضور أصحابه وحجم متابعيهم، ومن ثَمّ فإنّ القِيَم السلبيّة الّتي يطرحها ستصبح قيمًا جديدة، وستكتسب مع الوقت مزيدًا من الاهتمام، ومزيدًا من القوّة؛ فيصبح ما نسمّيه "الشعر الحقيقيّ" ضربًا من الهراء.

 

فُسْحَة: أودّ لو أعرف منك الآن، لماذا تعُدّ نفسك شاعرًا في مشهد لديك نحوه كلّ هذا الرفض؟

رائد: لست شاعرًا، لا أحد شاعر، نحن أناس نحلم بأن نكون شعراء. وعنّي، أنا شخص يحاول أن يكون شاعرًا. لا تبدأ من أنّك شاعر مع كتابة قصائدك الأولى، إنّما هذه تصل إليها في ما بعد، أو لا تصل، وهي مسألة متروكة يمكن أن نناقشها بعد أن نقطع عمرًا، طبعًا إن أسعفنا الحظّ وأكرمتنا الحياة بمزيد من المساحة لنكتب. في "الجداريّة"، لطالما استوقفتني عبارة محمود درويش: "سأصير يومًا شاعرًا". وفي كلّ مرّة، أبحث وأفكّر في دافع درويش إلى قول ذلك، أهو التواضع؟ لا. أهو عدم الاقتناع بما أنجزه؟ لا. أهي هلوسات شعراء؟ لا. لديّ احتمالات عديدة، لكنّ الإجابة الّتي أشعرتني بالارتياح أنّه أمسك بسرّ الشعر من حيث هو محاولة، تليها محاولة، إلى أن يصل المرء بأفكاره ولغته إلى مكان، لم يسبق للّغة والأفكار أن اجتمعتا فيه على هذا الشكل من قبل. طبعًا درويش شاعر، وصل إلى استحقاق لقب "الشاعر"، تجربته دليلنا إلى ذلك، أمّا أنا فلا أزال أحاول أن أكون، أو أن أصير شاعرًا. ولو أنّ ثمّة تقليدًا في اللغة العربيّة في أن يقول المرء عن نفسه "شخص يحاول أن يصير شاعرًا"، لكنت أوّل مَنْ يضع تلك العبارة قبل اسمه.

 

فُسْحَة: كأنّك كتبت بصوتك المنفرد في القصائد الّتي وقّعتها في دمشق، أمّا ما كتبته بعدها فيُسمع كأنّه أصوات جماعيّة... صحيح؟

رائد: صحيح إلى حدّ ما فقط؛ لأنّ حياتنا نحن الخارجين من سوريا باتت تُقْسَم إلى حياتين: فيها وخارجها؛ وهذا ما يجعل نقطة التحوّل كامنة في الانتقال بين الاثنتين، من غير الانتباه إلى أنّ في كلٍّ من الحياتين تحوّلات عديدة.

في سوريا، كان الواحد منّا مهمومًا بالكتابة عن حياته الفرديّة، عن ذاته، ثمّ تغيّر الأمر من الشخصيّ إلى الجمعيّ مع مجيء الثورة. هذا صحيح بالنسبة إلى بعض الناس، لكنّ البعض الآخر لا يزال يكمل الحياة الشخصيّة والكتابة الشخصيّة كما هي، وربّما بشكل متطرّف أحيانًا. من هنا؛ فالقول إنّ الثورة والحرب هما اللتان غيّرتا ليس دقيقًا تمامًا؛ فالإنسان يتغيّر أيضًا بحكم التقدّم في السنّ واتّساع التجارب. ليس منطقيًّا أن ننتظر شيئًا كبيرًا لنعلّل كلّ الأشياء الصغيرة به، ولا سيّما أنّ هذه الأشياء الصغيرة لا تزال موجودة ومؤثّرة؛ فطريقة التفكير لها دور، وشدّة الإرادة أو ضعفها لها دور، وكذلك الشجاعة والجبن، وهذا يعطينا معيارًا لطريقة كلّ واحد منّا في التعامل مع المسائل الكبرى: هل تمثّل له الأشياء الطارئة تحدّيًا أو مشكلة؟ هل يقبل أن يشلّه ما يحدث إن كان يمتلك هدفًا؟ هذه هي معايير التغيّر الشخصيّ نحو الجيّد أو السيّئ. إذن، لن تجعلنا الثورات ولا الحروب متعادلين بوجود هذه العوامل الداخليّة!

منذ الثورة والحرب والهجرة، قلّ أن نجد في ما ينتجه السوريّون ما ليس مشغولًا بوصف الحال أو تخيّل المصير. هذا تغيّر طبعًا على الصعيد الفكريّ، لكنّ ذلك لم يخلُ على الدوام من شيوع الخطابات الرنّانة الحماسيّة في الشعر، وكأنّ كلّ الأفكار النقديّة الّتي كان الشعراء يتداولونها في المقاهي بلا جدوى.

في العموم، النقطة الأساسيّة في هذه المسألة هي الأنا الشعريّة؛ فكون الشعر عملًا فرديًّا لا شكّ في أنّه سيأتي متّصلًا ومطبوعًا بفهْم صاحبه وتصوّره، لكنّ تطوير هذه الأنا ما يجعل من الشعر قابلًا ليقدّم سرديّته.

 

فُسْحَة: هل تشعر بأنّك في الشعر حبيس مسائل تخصّك أنت الفلسطينيّ السوريّ اللاجئ؟ أتُفاوضها أم تستسلم لها؟

رائد: فلْأقل قبل البدء إنّني محاصر بهذا السؤال ليل نهار، وهذا الحصار يأخذ بالاشتداد مع انغلاق إمكانيّات الحلّ السياسيّ في سوريا؛ على هذا لا أستطيع أن أفهم كم أنا سوريّ إذا لم أفهم كم أنا فلسطينيّ، وإذا كانت علاقتي بفلسطين مبنيّة على اللجوء، فعلاقتي الحاليّة بسوريا مبنيّة على اللجوء أيضًا، وإذا كان اللجوء الأوّل انتقل بالوراثة فعلى الأغلب سينتقل الثاني بالوراثة أيضًا. ولأنّنا شبه مُسَلِّمين بصعوبة أن تجد قضيّة فلسطين حلًّا لأنّها قائمة على إحلال سكّان مكان سكّان، وتاريخ مكان تاريخ، فإنّ سوريا الّتي تعاني تعقيدًا أقلّ قد تجد حلًّا لكنّها لا تفعل.

رغم كلّ هذه التعقيدات الّتي تبدو أكبر من قدرة المرء على الإجابة، هذا إن لم نقل أكبر من قدرته على التفكير، بدأت أراجع الأشياء كلّها لحظة بلحظة. لا مفاوضة ولا استسلام، المطروح أمامنا محاولة الفهم، ولأجل تشكيل فهْم أقرأ التاريخ الفلسطينيّ بشكل مُمنهَج.

حقًّا إنّ ما يحتاج إليه مأزومو الهويّة أن يفهموا؛ لطالما قال الفلسطينيّون إنّ العالم لا يعرف فلسطين، ورغم أنّ هذا حقيقيّ وصحيح، إلّا أنّ الحقيقيّ الّذي يؤلم أكثر أنّ الفلسطينيّين الآن لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا فلسطين. الأمر نفسه ينطبق على السوريّين.

مشكلتنا أنّنا ننظر إلى هذه الأسئلة نظرات عامّة، مثلما ننظر عادة إلى كأس الماء الموضوع جوارنا، فنصِفه بما هو عليه، ظانّين أنّ الوصف معرفة لكونه ساكنًا أو متحرّكًا، ممتلئًا أو فارغًا، في حين أنّ للفيزياء مثلًا رأيًا آخر، ولو استشرناها لحدّثتنا حديثًا آخر عن حركة هائلة داخل الكأس، وجزئيّات متحرّكة بهياج.

 

فُسْحَة: أحدث ما كتبته عن الحرب يشبه إسفنجة، قد تحوي الغضب لكنّها تمتصّه وتلطّف فظاظته؛ هل هكذا يبدو غضبك في الحياة اليوميّة؟

رائد: حين نكتب نصفّي حساباتنا مع المشاعر بمختلف أنواعها، لكنّنا بشكل أو بآخر نؤبّد تلك المشاعر؛ ففي حين يتسنّى للناس نسيان كلّ الذكريات والحالات الّتي عرفوها، يحدث للكتّاب أن يمنحوا تلك الأشياء شكلًا من البقاء، فكأنّهم يجعلونها مومياءات محنّطة في نصوص كأنّها المدافن الفرعونيّة.

غير أنّ ثمّة اختلافًا بين المعيش وبين ما يُكتب بلا شكّ؛ فعمليّة الكتابة القائمة على الاستعارات، وعلى الأقنعة، والمجازات، والتفكير بمقولة، لن تجعل الشعور يأتي على الصورة الّتي له في الحياة، حتّى لو أُخِذ منها. الغضب المكتوب أشدّ قبولًا من ذلك الشعور البريء الّذي يداهمنا ويسيطر علينا في بعض الأحيان. الكتابة تروّضه وتجعله قابلًا للاستيعاب والمعاينة، وذا مبرّرات منطقيّة، في ما يأخذ حدوثه الحياتيّ أشكالًا عاتية لا يمكن استيعابها، مثل أن يأتي وله رائحة حيوانيّة!

 

فُسْحَة: في "عندما لم تقع الحرب" (2012) نقرأ قصيدة طويلة أشبه بمونولوج مشحون سريع الإيقاع ومتواتر الصور، حدّثنا عن تجربة كتابتها وعلاقتها بالثورة السوريّة.

رائد: في سياق نقدي المستمرّ لما كتبته متأثّرًا بالوسط الثقافيّ السوريّ والفاعلين فيه، من حيث الذهاب إلى تناول قضايا شخصيّة وصغيرة، وجدت في ذلك خطأً غريبًا؛ إذ إنّ الذات الّتي أكتبها، أو أحاول أن أكتب عنها لأخفّف اغترابها، إنّما أغرّبها مرّة أخرى، عبر كتابة تركّز على الفرديّ عازلةً إيّاه عن الاجتماعيّ.

بدأت أفكّر بالطريقة المتناقضة الّتي أعيش فيها مع أصدقائي ومَنْ يشبهوننا، منفقين الوقت في حياة برجوازيّة نوعًا ما، في المقاهي نهارًا والبارات مساء، لكي نتداول أفكارًا ونظريّات نستمدّها من الثقافة الغربيّة على أنّها خلاصة الثقافة، ثمّ نمضي بعد ذلك إلى حياتنا الفقيرة في الضواحي والعشوائيّات والمخيّمات؛ نسهر كبرجوازيّين لكنّنا ننام كفقراء مهمّشين. بدأت أنزع إلى السؤال عن سبب هذا الفصام: كيف لنا أن نكون في الأفكار والعلاقات عالمًا أوّلًا، وفي الحياة الاجتماعيّة عالمًا ثالثًا؟ ولم أجد من جواب سوى الهزيمة. نحن في هزيمة وهذا الفصام شكل من أشكالها. ثمّ إنّ طريقة حياتنا لا تختلف عن حياة أبناء المستعمرات الّذين يصابون - بسبب شعورهم اللاواعي بالهزيمة - باحتقار الذات وتبجيل المركز. ولأنّنا في بلد مستقلّ، صوريًّا، ولسنا في مستعمرة؛ فإنّ كون البلد دكتاتوريّة يجعل من هذا الفصام تعبيرًا نفسيًّا عن الهزيمة، كما في المستعمرات تمامًا. يقولون إنّ المستعمرات والدكتاتوريّات لا تحتاج إلى شرطة حين يصير الخوف نفسه هو الشرطة، وهذا طبعًا وجه من وجوه الهزيمة النفسيّة. إذن، ضمن هذا السياق رحنا نُنتج أوساطًا غير مزعجة للسلطة، وغير قادرة على إحداث أيّ مشاغبة على الفضاء العامّ. من جهة أخرى، على الرغم من أنّ هذه الأوساط تبدو منتجة للأفكار والقيم الفنّيّة، لكنّها في الحقيقة لا تُنتج سوى التعالي على ثقافة الناس العاديّين، والامتثال الكامل للسلطة عبر اعتبار نمط الحياة هذا أقصى أشكال التغيير المأمولة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه هي الأسباب الّتي لم تجعل أوساط المثقّفين في سوريا تشارك في الثورة، وكلّ مَنْ شاركوا منها إنّما شاركوا أفرادًا في بيئاتهم الاجتماعيّة الأولى.

هذا هو شكل الهزيمة الّتي أقصدها، هذه هي ملامحها، وهي تنتمي بلا شكّ إلى كلّ الهزائم العربيّة السابقة بفارق نتيجة استحكامها في النفوس، قادرة على تعطيل كلّ إمكانيّة على الفعل.

ضمن هذا السياق كتبت مسوّدات "عندما لم تقع الحرب" في 2010. طبعًا لم أكن آنذاك مؤهّلًا لتقديم تحليل شامل، لكنّني استطعت تشكيل تصوّر عامّ حول الهزيمة، وحول الفصام، وحول العقول السجينة الّتي لم تترك حاجة للسجون أصلًا.

بدا النصّ خياليًّا فوضعته جانبًا، ومع مجيء الثورات نهاية 2010 وبداية 2011، أشار الواقع إلى الناقص في القصيدة؛ فأعدت ترميمه وتحريره وأرسلته للنشر، فصدر بعد بدء الثورة السوريّة بشهور، ورغم أنّه توافَق معها، إلّا أنّه لم يعُد أحد - لسوء الحظّ - يتحدّث عن الحرب الّتي لم تقع بعد.

 

فُسْحَة: تختلف عندك أمزجة/ شكل/ أسلوب الكتابة في كلّ مجموعة؛ كيف تصف التغيير الّذي يحصل؟ هل تملّ؟ هل تعمد إلى تغييره على نحو واعٍ؟ أم يتغيّر تدريجيًّا أو لاشعوريًّا؟

رائد: باختصار شديد، كلّ نصّ تعرُّف الكتابة، وكلّ كتاب تعريف للكتابة؛ هذا يعني أنّني لم أتعرّف معنى النصّ، ويعني أيضًا أنّني لمّا أصل إلى تعريف الكتابة بعد.

 

فُسْحَة: كيف تصف لنا تجربتك في كتابة الرواية لأوّل مرّة؟

رائد: الحقيقة أنّني كنت أكتب قصّة طويلة، ولم أتخيّل أنّها ستكون رواية لولا صديق نبّهني إلى وجود تلك الإمكانيّة، فجلست وأنهيت كتابتها في وقت قياسيّ، لكنّه وقت من الاشتعال الداخليّ الّذي يُنسي المرء العالم الخارجيّ، ولا يفكّر فيه إلّا بالغرق داخل الأوراق من أجل تحويلها إلى نصّ. الأوراق مثل الصخور، كتل فوضويّة الأشكال نهمّ إليها لكي ننحت الشكل الموجود في رؤوسنا، ولا نصدّق أنّه قابل للتطبيق إلّا حين ننتهي من العمل.

لا تبدو فكرة سديدة أن يتحدّث المرء عن رواية أولى بهذه الحماسة؛ ولهذا أودّ التنبيه إلى أنّ الحماسة تخصّ الفنّ الروائيّ لا الرواية الّتي كتبتها.

 

فُسْحَة: قد يحاول القارئ أو الناقد من منظوره، أن يجد للفتى "سبارتكوس"، بطل روايتك "عام الجليد" (2019)، توأمًا أو رديفًا في الحياة الواقعيّة؛ مَنْ هو بالنسبة إليك أنت؟

رائد: إنّه خليط من كلّ أولاد الحارة الّذين عشت معهم؛ أعني أنّني ركّبت صفاته من صفاتهم جميعًا، لكنّه لم يعُد يشبه أيّ أحد منهم. عشنا طفولة ملأى بالخيال؛ ربّما تكون الطفولة مرحلة تخييل أساسًا، لتكون المراحل اللاحقة لها مراحل واقعيّة. ربّما هي كذلك لأنّ الخيال يدرّبنا على الواقع، لا أدري! كلّ ما أستطيع قوله إنّه يذكّرني بأعداد كبيرة من أناس عرفتهم في الطفولة، وأحببتهم فيها، وكانوا يمثّلون لي قيمًا كبيرة. ورغم أنّ الحياة أرغمتني على تغيير رأيي فيهم في ما بعد، إلّا أنّ أثرهم القديم من القوّة لا يُمحى.

ثمّة مشهد لا أنساه لأحد الأولاد الّذين يحبّون الزعامة، والده يمتلك بقالة، وكثيرًا ما كان يأتي إلينا وجيبه ملأى بالفول السودانيّ، وحين يعطي كلّ واحد منّا حبّة، يطلب أن نتخيّل هذه الحبّة شيئًا آخر، شيئًا نستوحيه من طعمها. ولا أنسى تخيّلات تلك الشلّة: هذا يقول كأنّي أكلت ضفدعًا، وثانٍ يؤكّد أنّ طعمها جعله يشعر بأنّه أكل الشواء الّذي اشتهاه في مسلسل كرتونيّ، وثالث يحلف أنّ طعمها طعم حجارة. هؤلاء كلّهم "سبارتكوس" في خيالي، أو هم مَنْ صنعوه، لتكون الإجابة واقعيّة.

 

فُسْحَة: ما هواجسك أو أفكارك الداخليّة في المراوحة بين الرواية والشعر؟ وكيف تحرص على توازنهما؟ هل تخاف على الفكرة في انحيازها إلى شكل دون آخر؟

رائد: كما يمكن العمل نفسه أن يُكتب في غير شكل، فإنّه يمكنه أيضًا أن يُكتب في غير نوع؛ ثمّة قصائد قابلة لأن تصبح مسرحيّات أو أفلامًا، وثمّة روايات قابلة لأن تتحوّل إلى قصائد ملحميّة. الفكرة القائلة بأنّ ما كُتب ضمن نوع أدبيّ معيّن لا يمكنه إلّا أن يُكتب ضمن هذا النوع، فكرة تفتقر إلى الصواب. الشكل خيار صاحبه الّذي كتبه هكذا لأنّه يريده هكذا، لكن لماذا لا نجده في غير نوع؟ لماذا لا تكون للنصّ فرصة في تشكيلات أخرى ممكنة؟

كتب هذا الكاتب رواية، وهو نفسه كتب قصيدة؛ فذلك لأنّه تبع حدسه الّذي دفعه إلى نوع معيّن، وليس لأنّ الفكرة لا تُكتب إلّا هكذا؛ ألم نقرأ ملاحم قديمة على شكل قصص مصوّرة؟ ألم تُترجَم أشعار على شكل قصص؟

 

فُسْحَة: ما رأيك في الحديث عن مقروئيّة الرواية، مقابل هجران الشعر عند القرّاء؟ هل يقلقك؟

رائد: لطالما استرعى انتباهي - مثل كلّ واحد تقريبًا - فارق العائديّة المعنويّة، الّذي يصبّ في صالح الرواية، ولطالما استرعاني أكثر إصرار الشعراء وعنادهم، على الاستمرار بعملهم رغم انعدام الاهتمام بما يكتبونه. مع ذلك لا يمكننا الحديث عن جدوى الرواية وعبث الشعر؛ فالكتابة في حدّ ذاتها هي الجدوى بالنسبة إلى ممارسيها أيًّا كانت تصنيفاتها، لكنّ التأمّل في هذه الظاهرة ومراقبتها باستمرار، مفيدان لجهة معرفة كيف يجري التعاطي مع الأدب في الفضاء العامّ.

ملاحظتي الصغيرة هنا أنّ أزمة القراءة أو التلقّي بالنسبة إلى الشعر، تخصّ فقط قصيدة النثر؛ فالأنواع الشعريّة الأخرى، من التقليديّ والشعبيّ، تعيش بصحّة وعافية بين منتجيها وجمهورها، في أوساط ثقافيّة واجتماعيّة محدّدة.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.