"قابض الرمل": الذاكرة الناقصة ودوائر اكتمالها

غلاف الرواية

 

إن كانت الذاكرة المكوّن الأساسيّ لجغرافيا الزمن الفلسطينيّ، فنحن في حضرة رواية عمر خليفة «قابض الرمل» (دار الأهليّة، 2020)، أمام انزياح دلاليّ لا يخرج عن مألوف السرد الفلسطينيّ فقط، بل يشقّ مفترقًا مهمًّا وجديدًا في تيّار الوعي لسرد الحكاية الفلسطينيّة بما يجابه الزمكانيّة، وربّما يُهمّشها لصالح تأسيس وعي مختلف للنظر إلى ما حدث، وكيفيّة تناوله ومقاومة تداعياته فرديًّا وجماعيًّا.

ولأنّ المفهوم التجريبيّ للتاريخ يؤكّد أنّ "الحدث السابق يُحَدّد كسبب، واللاحق كأثر"، وفق اللبنانيّ مهدي عامل، حاول خليفة أن يُمَوْضِع مسألة الذاكرة الفلسطينيّة في مكان مغاير، يبحث عن الأثر الّذي تركته، لا عن الاستغراق في الماضويّة الحاجبة للأفعال حينًا، والمستغلّة مرّات ومرّات.

 

بنيتان

إلّا أنّ الملاحَظ أنّ خليفة شيّد روايته على بنيتين أساسيّتين: بنية فكريّة يطرح من خلالها وجهة نظره في تناول الفلسطينيّ لمسألة الذاكرة بوصفها سلاحًا ذا حدّين، وبنية أدبيّة فنّيّة تتّخذ من الاقتصاد اللغويّ طريقًا يقيم صلة تفاعليّة تصادميّة بين المبنى والمعنى، فنراه يستخدم مصطلحًا مثل «ولاد الشرموطة» بشكل مكثّف على طول الرواية وعرضها، وكأنّه ثيمة للمعنى، وينعت أبطاله بصفاتهم «الحفيد، الابن الكبير، القائد، المترجمة، الخائن والخائنة»، باعتبارهم وصفًا للمبنى.

يضعنا الروائيّ في إشكاليّة فريدة من نوعها في الحالة الفلسطينيّة؛ ألا وهي إشكاليّة القطيعة مع منظومة السمات، الّتي اتّكأ عليها السرد الفلسطينيّ طيلة قرن من الزمن، في اتّجاه فتح الأفق لروافد جديدة...

فأمّا البنية الفكريّة الّتي ذهبت إليها الرواية، موظّفة لازمة «ولاد الشرموطة» الّتي تكرّرت على نحو لافت، فسنجدها قد اتّكأت على الروح النقديّة للروائيّ، في اتّجاه التنظير لضرورة إعادة صياغة خطاب السرديّة الفلسطينيّة، بما يمكّنها من التمرّد على فائض التفسير والتأويل لصالح فعل التعرية؛ في محاولة لوصف حال النظام العربيّ الّذي ما فتئ يستغلّ القضيّة الفلسطينيّة، بوصفها الورقة الرابحة لكسب الشرعيّة من جهة، وترويض الجماهير وتعويم القضيّة من جهات أخرى.

لتلعب البنية الفنّيّة - إن حاولنا استنطاقها - دور البطولة في التورية، نجدها وقد أقامت عروة وثقى بين نعوت أبطال الرواية، وجهات وتيّارات العمل السياسيّ الفلسطينيّ والعربيّ، كأن نحيل نعت القائد والخائن والخائنة إلى محاور دوغمائيّة، يدّعي بعضها الممانعة والمقاومة، وبعضها الآخر التفاوض والمساومة، الأولى تحت عناوين وطنيّة، والثانية بغطاء ما يسمّى بالواقعيّة، وثالثة تؤدّي دور الصليب الأحمر، وتعبّر عنها في الرواية شخصيّة «المترجمة»، ليتبقّى لدينا الابن الكبير الّذي قد يرمز نعته إلى «منظّمة التحرير»، والحفيد، وهو في هذه الحالة اللاجئ الّذي ورث نكبةً ولم يصنع حدثًا.

هكذا دفعة واحدة، يضعنا الروائيّ في إشكاليّة فريدة من نوعها في الحالة الفلسطينيّة؛ ألا وهي إشكاليّة القطيعة مع منظومة السمات، الّتي اتّكأ عليها السرد الفلسطينيّ طيلة قرن من الزمن، في اتّجاه فتح الأفق لروافد جديدة يمكنها أن تتحرّر من أدلجة الوعي لـ «تُحْسِن المحاكمة»، على حدّ تعبير الدكتور فيصل درّاج.

 

صراع الذاكرة

ولعلّ ما يميّز رواية عمر خليفة، وهو الأكاديميّ الباحث، أنّه لم يقتفِ أثر الصراع الفلسطينيّ الصهيونيّ، وإنّما قام على تخليق صراع موازٍ، هو صراع الفلسطينيّ مع ذاكرته بما لا يحرّر الأجيال، بل يقبض عليها؛ إذ دارت أحداث عمله، وهو أقرب ما يكون إلى جنس الرواية القصيرة أو ما تسمّى «النوفيلا»، حول قصّة أربعة صحافيّين تورّطوا في كتابة تحقيق صحافيّ عن عجوز ناجٍ من النكبة.

فشَلُ الصحافيّين والأبناء والأحفاد في استنطاق العجوز، يحيلنا بالضرورة إلى فكرة نسق الذاكرة ودوائر اكتمالها أو نقصانها، وارتباط النسق الفرديّ بالجماعيّ؛ "كلّما سألناه سؤالًا عن الماضي أجابنا بأنّ فلسطين ضاعت..."

ولكنّ المفاجأة أنّ العجوز، وعلى غير العادة، يرفض البوح بذكرياته حتّى لأبنائه وأحفاده، متسائلًا: "عرف العالم شو صار، وبعدين؟" (ص 42). إلّا أنّ رفض العجوز أثار حفيظة الصحافيّين وفضولهم من جهة، ورئيس تحريرهم من جهة ثانية، فلم يَعُد أمامهم سوى الاختيار بين إجراء الحوار بأيّ ثمن كان، أو أن ينشر رئيس التحرير تحقيقًا حول فشلهم في استنطاق عجوز؛ وهو ما أدخل العمل في أحداث مشوّقة وغرائبيّة إلى حدّ ما، خاصّة حين تمكّنوا من إقناع الابن الأكبر بأهمّيّة إجراء الحوار، فوصلوا بعد استعدادات معقّدة لترتيب الأسئلة الّتي كان ردّها الأبلغ من قِبَل العجوز: "اطلعوا برّة يا ولاد الشرموطة".

فشَلُ الصحافيّين والأبناء والأحفاد في استنطاق العجوز، يحيلنا بالضرورة إلى فكرة نسق الذاكرة ودوائر اكتمالها أو نقصانها، وارتباط النسق الفرديّ بالجماعيّ؛ "كلّما سألناه سؤالًا عن الماضي أجابنا بأنّ فلسطين ضاعت. أعرف (...) لكنّا لا نعرف تفاصيل كثيرة عن ذلك الضياع، لا نعرف تفاصيل ضياعك أنت شخصيًّا يا أبي، لا نعرف حكايات قريتنا لحظة الخروج" (ص 31).

بهذا المعنى، راحت الرواية تستدعي السؤال الأهمّ حول معنى النكبة؛ لا لتسمع إجابات معلّبة، لكن لتعي الأجيال المتعاقبة "أنّ ما تصوّره الملهاة السوداء هو ليس فقط ما يقاتله المرء، والأسباب الّتي حملته على ذلك، ولا هو القتال ذاته، ولكن شكل التصوير، الّذي هو من حيث المبدأ، وبشكل مباشر، شكل القتال الصريح"، وفق تفسير الفيلسوف الهنغاريّ جورج لوكاتش.

يمكننا أيضًا أن نعاين هذه الإحالة في رواية «قابض الرمل» على نحو أدقّ، ونحن نستمع للعجوز وهو يقول: "الاحتلال بروح وبيجي، الاحتلال مش نكبة، النكبة هناك في الـ 48 (...) اللّي بدّه يعرف النكبة يعرف شو صار في الـ 48" (ص 32).

 

وأنت لست لك

هذا يذكّرنا بما كتبه الفلسطينيّ الراحل سليمان ناطور في مقال بعنوان «ليش هيك صاير فينا؟»، حين قال: "تنزل الهواجس متلاحقة على مَنْ تجاوز مثلي الخامسة والستّين، فتعيده إلى الماضي تارة وتأخذه إلى الغيب تارة أخرى، فيغضب ويشتم ويضحك ويبكي ويزفر ويشهق ويرتبك حين يُسْأَل: كيف حالك؟".

ولكي يبقى أمل في أن يكون الوطن لك والدولة لهم إلى حين؛ علينا أن ننظر في المرآة طويلًا وإن كانت مرآة الذاكرة ومساءلتها، وهو ما تجرّأ عليه عمر خليفة في روايته «قابض الرمل»؛ لا ليؤكّد أنّه الأجرأ، بل ليرفض سطوة الميديولوجيا ولصوص الحكايات لصالح إحياء الذاكرة الناقصة...

الناطور الفلسطينيّ العربيّ في أرضه المسلوبة، حينما طرح السؤال، كان يعالج حال الفلسطينيّ تحت سياط المستعمِر، لا لينظّر للتعايش، إنّما ليعلي صوت الوجع، صوت الإنسان العاديّ الّذي لا حول له ولا قوّة. طرح السؤال فانسلّ منه عديد الأسئلة الّتي حاول عمر خليفة مقاربتها في روايته، وهو يشير إلى هنا، "وهنا، هي هذه البقعة الصغيرة الّتي لا تكاد تظهر على خريطة الكرة الأرضيّة، ولكنّها تشغل العالم بأسره منذ عقود. هنا! يحرق الفاشست طفلًا حيًّا، ويشنقون سائقًا في حافلته. هنا! لا يتورّع رئيس حكومة عن الإعلان أنّ مَنْ لا يقبلها دولة يهوديّة فلينصرف من هنا، هكذا بكلّ صلف. هنا! الفاشيّون يصولون ويجولون بحماية ورعاية من ‘الدولة‘. هنا! تعلن ولاءك للدولة بقانون رغمًا عنك، والدولة تزعم أنّ أرضك ليست لك، ولغتك ليست لك، وأنت لست لك، وهنا المهاجر هو ابن البلد، وأنت؟ هنا! حالة لا مثيل لها في التاريخ. هنا! الوطن ليس دولة والدولة ليست وطنًا، كما في كلّ مكان إلّا هنا. هنا! الوطن باقٍ والدولة عابرة. هنا! الوطن لك والدولة لهم". والكلام للناطور.

ولكي يبقى أمل في أن يكون الوطن لك والدولة لهم إلى حين؛ علينا أن ننظر في المرآة طويلًا وإن كانت مرآة الذاكرة ومساءلتها، وهو ما تجرّأ عليه عمر خليفة في روايته «قابض الرمل»؛ لا ليؤكّد أنّه الأجرأ، بل ليرفض سطوة الميديولوجيا ولصوص الحكايات لصالح إحياء الذاكرة الناقصة الّتي مثّلها الجدّ، بينما الحفيد يبحث ولا يزال عن الاكتمال. "إنّ علاقة الحفيد بفلسطين أصبحت شبه أسطوريّة، غائبة حاضرة معًا، شيئًا يراه يوميًّا دون أن يعرفه تمامًا، نصًّا مربكًا لا يدري كيف يقرؤه رغم عشقه له" (ص 64).

 

 

أحمد زكارنة

 

 

شاعر وإعلاميّ يقيم في رام الله. يعمل في إذاعة "صوت فلسطين"، ويرأس تحرير موقع "اليوم الثامن"، كما عمل سابقًا مستشار تحرير في "صحيفة الحدث". له مجموعة شعريّة بعنوان "ما لم أكنه" (2017).