أجرّها معي أينما حللت
ما الّذي سيعوّضني
لقاء كلّ صاروخٍ سمعته ينفجر
لقاء كلّ مرّةٍ دفعتني الحرب
إلى حافّة الموت
ولم أمتْ؟
ما زال دمي يغلي
كلّ مرّةٍ أتذكّر فيها أنّ حروبًا
حاصرتني في البيت
بطحتْني على الأرض
قيّدتْني بالقلق.
ما زال دمي يتبخّر
كلّ مرّةٍ أتذكّر فيها عدد الصواريخ
الّتي سقطتْ قرب بيتي الليلة ’الماضية‘
رحمتك يا إلهي...
كلّما حاولتُ عدّ الصواريخ لا أحصيها!
يقهرني ضيق معنى النجاة
لأنّي لم أنجُ بعد مِنْ أوّل حربٍ شهدتُها
وها أنا ’أنجو‘ مِنْ أوّل حربٍ لا أشهدها.
كلّ مرّةٍ أكتب عن الحرب
أكتب الكلام ذاته
مع قليلٍ مِنْ التدوير والتبديل
ولا أكاد أصيب جسد الحرب أرضًا.
جسد الحرب ملتصقٌ بجسدي
أجرّها معي أينما حللت
أمّا روحها
فأخشى أنّها أمستْ روحي.
***
أيّها العالم
حين تنتهي الحرب وتكون لنا فرصة لقاء
اسمحْ لي بالصراخ في وجهك
كلّما أدنيتُ يدك تربّتُ على كتفي
اسمحْ لي بالبكاء رعبًا منك
كلّما حاولتَ أن تبكي من أجلي.
اسمحْ لي بالجلوس صامتًا أمامك
في غرفة المؤتمر
وفي غرفة التحقيق
وفي غرفة النوم
ولا تسألني عن أيّ شيء.
أمّا أنت أيّها الاحتلال
فما تزال نكاتك سخيفةً وغير مضحكة
لا أعرف كيف تدسّها حقائقَ في حليب العالم
العالم الّذي يفرح بانتهاء الحرب كأنّها فيلم
ناسيًا أنّك تعيدنا كلّ مرّةٍ إلى مسلسل الحصار.
لم أصدّق نجاتي يومًا
اليوم فقط أظنّني تأكّدتُ
أنّني نجوتُ فعلًا مِنْ كلّ الحروب السابقة
ولم أصدّق نجاتي يومًا
حتّى توقّدتْ هذه الإبادة وأنا خارج غزّة.
كلّ حربٍ عشتُها
كنتُ أظنّها آخر حربٍ أعيشها
ليس لأنّ الحياة كانت تأسف على شيء
بل لأنّ الموت كان الفكرة الوحيدة
الّتي يمكن أن تدور في رأسي
الموت كان الفكرة الوحيدة
الّتي اتّخذتْ مِنْ رأسي ملجأً
ولم أكنْ ألجأ في نجاتي
إلّا للموت.
كنتُ أفكّر دائمًا:
سينهال السقف على جسدي في أيّ لحظة
ويغرسني في جوف الأرض أيّما غرس
أو ربّما ستصيبني قذيفةٌ
تقطّع أوصالي وتفحّمها
حتّى قبل أن تتمكّن روحي مِنْ مفارقتي
فلا يسعني أن أحلّق في السماء
ولن تنفعني يومئذٍ عرجتي.
يا لحسرتي هذه المرّة
يا لحسرتي في نجاتي
الموت أبعد ما يكون عنّي
لكنّه يعانق بحرارته رفاقي
ويلاحق أطفالهم دون حلوى.
لستُ في غزّة هذه المرّة
كي تسجّل الحرب حضوري
أو حتّى نجاتي مِنْ عدمها.
أعيش الحرب في كوابيسي
أجلس مع عائلتي عبر الڤيديو المغبّش
في بيتٍ نزحوا إليه
مِنْ دارنا المدّمرة والوحيدة
نتجنّب الحديث عن أيّ مكان.
نتبادل النكات والتحليلات
أسألهم: كيف حالكم؟
فيجيبون: كيف حالك أنت؟
ويسألونني: كيف حالك؟
فأجيب: كيف حالكم أنتم؟
ثمّ يسود صمتٌ لا يفرّقه
إلّا سؤالٌ مِنْ أحد الأطفال:
"اشتقتلّك يا خالو "
"اشتقنالك يا عمّو"
"إنتَ بالدار؟"
"لِمَ ترفض أن تجيئنا؟"
ثمّ تسود صدمة.
ما الّذي يمكن أن يُقال ليطمئنّ كلانا؟
حتّى لساننا العربيّ أيضًا
تعب ويميل لتركنا وحيدين.
أنهي أنا المكالمة دائمًا
لأعود مجدّدًا إلى عذابات كوابيسي
فأشعر أنّني معهم حقًّا
وأهرب مِنْ نجاتي الثقيلة التافهة.
يا لسعادتي وتعاستي
سلّمتُ أن أعيش الحرب في كوابيسي
كلّ كابوسٍ يسقط بيتٌ ما
في بحرٍ مِنْ دموع
وترتقي روحٌ ما
إلى سماءٍ مِنْ صراخ.
لكن لا بدّ أن أعاود الاستيقاظ
بين الأخبار الملغمّة والرسائل المتشظّية
لأطمئنّ أنّ عائلتي وأصدقائي ما زالوا أحياءً
ويطمئنّون بدورهم على حياتي.
شاعر فلسطينيّ من غزّة. حصل على الزمالة الفخريّة في الكتابة من «جامعة آيوا» (2022). صدر له «لهذا ريان يمشي هكذا» (قصّة أطفال، 2021)، الفائزة بـ «جائزة الملتقى العربيّ لكتب الأطفال» (2022)، و«أنتَ نافذة هم غيوم» (2018)، بالإضافة إلى إصدارات مشتركة. تُرْجِمَت قصائده إلى لغات عدّة.