شرور الانعزاليّة العربيّة... من القُطْريّة إلى الشعبويّة

من إحياء ذكرى الثورة المصريّة | فرانس برس

 

في عام 1978، كتب فؤاد عجمي مقاله المعروف الّذي بشّر به بموت العروبة، حينذاك توقّع اختفاء "الشرعيّة الكبرى أو العليا" للعروبة، واستبدال الشرعيّة الوطنيّة بها. وقد تخلّل ذاك المقال نبرة إعجاب بالأسديّة المبكّرة، يقول عجمي: "كمُنْتَمٍ حذر إلى أقلّيّة طائفيّة، لا يملك [حافظ الأسد]، أيّ أوهام حول الوحدة العربيّة، وربّما هو الزعيم الأوّل في تاريخ سوريا المعاصر، الّذي يتصالح مع موضعيّة سوريا الوطنيّة، ويقبل محدوديّة جغرافيّتها ومواردها"[1].

مع أنّ هذا المقال يفضح جوانب أساسيّة من الأيديولوجيّة الأسديّة (ويمتدحها في آن)، إلّا أنّه يجانب الصواب في أطروحته عن موت العروبة كفكرة سياسيّة، وفي مستقبل العلاقة الأسديّة والجماعات الحاكمة العربيّة الأخرى بهذه الفكرة؛ فالظاهرة الأبرز اليوم هي ليس موت العروبة كما يشتهي الانعزاليّون ويخاف العروبيّون، بل بوقوع العروبة تحت الاعتقال والإقامة الجبريّة في حيّز الجماعات الحاكمة المحلّيّة، واستغلالها لتلك الفكرة الوحدويّة (إلى جانب استغلالها للدين ولأدوات أخرى)؛ من أجل تثبيت شرعيّتها.

 

العروبة غير المؤمّمة كغطاء للانعزاليّة القُطريّة

كان الاستعمار، وخاصّة الاستعمار البريطانيّ، أبرز القوى الاجتماعيّة في القرن العشرين، الّتي أرادت احتكار العروبة وأخذها من العرب؛ من أجل استغلالها ضدّ العثمانيّين. جاءت الفكرة على شاكلة وعود بمملكة عربيّة كبرى من قِبَل مكماهون إلى الشريف حسين، ومن ثَمّ أُعيد تشكيلها والتلاعب بها في اتّفاق سايكس - بيكو. في عام 1919، تشكّلت لجنة «كنج – كرين» من قِبَل «عصبة الأمم»؛ من أجل استطلاع الشعوب في سوريا ولبنان والأردنّ وفلسطين، في ما إذا كانوا يرغبون في الوحدة. كانت المرّة الأولى، وربّما كانت المرّة الأولى والأخيرة، الّتي أُدمجت الشعوب مباشرة في مسألة الوحدة. أجهضت القوى الاستعماريّة هذا المشروع، وقد كانت تلك التربة المريرة الّتي نمت فيها جذور البعثيّة وعروبة الأحزاب.

لم تمت العروبة بعد الحرب كما ادّعى فؤاد عجمي، الّذي اعتبرها «معركة واترلو» العروبة، ولم تذهب في حالة احتضار طويل، بل بقيت حيّة وراء قضبان السلطة المحلّيّة...

استحوذت بريطانيا على العروبة مرّة أخرى لدى تشكيلها «جامعة الدول العربيّة»؛ لمواجهة الألمان في الحرب العالميّة الثانية، وورّثت الاحتكار إلى الأعضاء المؤسّسين للجامعة، الّذين كانوا ملكيّات مطلقة، وهنالك ارتبطت فكرة العروبة بفكرة السلالة والعائلة والحاكم الفرد. فشلت الجامعة في مواجهة التوسّع الصهيونيّ في عام 1948، وحدثت انقلابات أدّت إلى وصول محتكرين جدد للعروبة، الأحزاب القوميّة وقادتها. ومن ثَمّ نشأ تنافس شرس بين عروبيّي السلالات وعروبيّي الأحزاب حتّى حرب حزيران في 1967.

لم تمت العروبة بعد الحرب كما ادّعى فؤاد عجمي، الّذي اعتبرها «معركة واترلو» العروبة، ولم تذهب في حالة احتضار طويل، بل بقيت حيّة وراء قضبان السلطة المحلّيّة. في الدول الّتي تفاخرت بوطنيّتها وانعزاليّتها، قُزِّمَت أحزاب العروبيّين وخُيِّروا بين الملاحقة أو الاندماج والانضمام إلى «المشروع الوطنيّ». في هذه الحالة أصبح العروبيّ يُعوّل على السلطة المحلّيّة لتحقيق الوحدة، تمامًا كما يستجدي العلمانيّ هذه السلطة من أجل تحقيق مشروع التنوير. أمّا الدول الّتي تفاخرت بعروبتها، كالدولة الصدّاميّة والأسديّة، فقد وظّفت العروبة ليس فقط من أجل تحقيق الانعزاليّة، بل لتحقيق هدف الانزلاق إلى حكم العائلة.

وفي حقبة ما بعد 2011، فقدت هذه الجماعات الحاكمة العربيّة حصريّة احتكارها للسياسة لفترة مؤقّتة، بما في ذلك احتكارها للعروبة. إلّا أنّ تلك الثورات أُفشلت، وأُعيد تطويع العروبة وتعريفها مرّة أخرى؛ لكي يصبح العروبيّ المواطن الصالح الوفيّ، غير الإسلامويّ، الّذي لا يتبع لواشنطن وأنقرة وتلّ أبيب، كما هو متعارف عليه في سوريا الأسديّة ونصف لبنان، والّذي لا يتبع لأنقرة وطهران، ويفضّل النأي بالنفس، كما هو متعارف عليه في الخليج والنصف الثاني من لبنان. (وينطبق على ذلك رغبة عدد من الأنظمة العربيّة بالتسامح مع الدولة الأسديّة، في ما إذا عادت إلى «عروبتها» وتخلّت عن إيران).

وعلى هذا النحو، باتت السلالات الحاكمة العربيّة وشركاؤها هي من تحتكر العروبة فعليًّا، وتعيد تعريف نسخ جديدة مشوّهة منها (عروبة ممانعة من دون السوريّين، وعروبة تطبيع من دون الفلسطينيّين) في المحاور الرئيسيّة الّتي تحكم منطقتنا في هذه الأيّام.

 

نقد الانعزاليّين، أو نَقْدُ نَقْدِ الانعزاليّين للعروبيّين والعرب

هنا يأتي الخلل المنهجيّ الفادح لدى الشعبويّ الانعزاليّ؛ فهو يجعل نفسه متحدّثًا باسم الشعب المحلّيّ، ويعلن أنّ العروبيّ عدوّ جوهرانيّ أبديّ ينوي القضاء على استقلاليّة الدولة الوطنيّة القُطريّة، مع أنّ كليهما، العروبيّ والانعزاليّ، يقعان في نفس الخندق؛ خندق السلطة. وأمّا الفرق الوحيد بينهما، فهو أنّ الانعزاليّ يضيف زميله ويضيف العروبة والعرب (كتهديد افتراضيّ متخيّل) إلى قائمة الأعداء الوجوديّين للوطن (أمريكا، إسرائيل، تركيا، إيران، ... الّذين يملكون وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا في منطقتنا).

الخلل المنهجيّ الفادح لدى الشعبويّ الانعزاليّ؛ فهو يجعل نفسه متحدّثًا باسم الشعب المحلّيّ، ويعلن أنّ العروبيّ عدوّ جوهرانيّ أبديّ ينوي القضاء على استقلاليّة الدولة الوطنيّة القُطريّة...

وكذلك يُقصي الانعزاليّ العرب بجعلهم نقيضًا جوهرانيًّا بتوظيف إسقاطات غير علميّة، بحيث يصبح العربيّ في مخيّلة الانعزاليّ مجرّد غازٍ أو إرهابيّ، أو لاجئ، أو عامل أجنبيّ، أو بدويّ، أو أعرابيّ، أو سائح فظّ. وهنا يرتبط الانعزاليّ المشرقيّ والمصريّ والمغاربيّ بالعروبيّ الخليجيّ الجديد، بعلاقة ضدّيّة لاتاريخيّة، يشتقّ فيها كلٌّ منهما عنصريّته وإعادة تعريفه لذاته وعلاقته بالآخر؛ إذ يعتقد الانعزاليّ احتلال عربيّ أو استعمار إسلاميّ آتٍ من الجزيرة العربيّة في بلاده، في ذات الوقت الّذي يعتقد فيه الخليجيّ أنّ العرب الأنقياء الأقحاح موجودون فقط في الجزيرة العربيّة، وأنّ المناطق الأخرى ومنها بلاد الشام (خاصّة فلسطين الّتي ليست قضيّته) ليست عربيّة، وإنّما هي خليط من غير العرب والمستعربين.

وأمّا الانعزاليّ الليبراليّ فهو لا يعي أنّه أيضًا، وليس فقط العروبيّ القوميّ، مُخلّف من مخلّفات الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة؛ فهو يرى الربيع العربيّ «ربيع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»؛ أي ثورة ملوّنة جاءت لتحرّر الدول القُطريّة الوديعة في تلك المنطقة من الفاشيّة واليساريّة العربيّة، وتطبيق خطّة مارشال جديدة عليها.

على هذا النحو، يصبح لدينا هنا سلطتان ثقافيّتان في العالم العربيّ، تمارسان الاحتكار والإقصاء، وتمنعان بشكل منهجيّ تأميم العروبة من قِبَل العرب. واحدة تحتجز العروبة كرهينة والأخرى تريدها أن تموت في الاعتقال. وفي الحالة المشرقيّة، تصبح هذه المقاربة أكثر وضوحًا (إذا تحدّثنا عن المكوّن العربيّ فقط، أمّا الكرد فهذا نقاش آخر)، ذلك لأنّ كلًّا من الأسديّة والصدّاميّة ومعارضيهما من الانعزاليّين في المشرق، يربطان العروبة بتلك الأنظمة لأهداف خاصّة مختلفة؛ الأوّل يريد إضفاء شرعيّة على الأسديّة والصدّاميّة، والآخر يريد نزع الشرعيّة عن العروبة.

يُقصي الانعزاليّ العرب بجعلهم نقيضًا جوهرانيًّا بتوظيف إسقاطات غير علميّة، بحيث يصبح العربيّ في مخيّلة الانعزاليّ مجرّد غازٍ أو إرهابيّ، أو لاجئ، أو عامل أجنبيّ، أو بدويّ، أو أعرابيّ، أو سائح فظّ...

أمّا الجماعات الإسلاميّة العسكريّة على الأرض في سوريا والعراق، فهي لم تحتج يومًا إلى شرعيّة العروبة، بل اعتمد بعضها على العثمانيّة والتتريك (وسيكون من سخرية القدر، إن تبيّن أنّ «بريطانيا لورنس العرب» قد دعمت تلك الجماعات العثمانيّة ضدّ العروبة الأسديّة)، واعتمد بعضها الآخر على العدميّة والعنف ومحو كلّ الهويّات، بما فيها الهويّة العربيّة الجامعة، الّتي لم يتوقّف هؤلاء عن وصمها بالجاهليّة، وبذلك تخلّت تلك الجماعات الإسلاميّة عن العروبة، وقدّمتها كهديّة للأسديّة والصدّاميّة كي تستفرد بها.

 

تأميم العروبة: وحدة الشعوب لا الحكّام

وهنا يأتي الهدف من هذا المقال، الّذي كتبناه تعقيبًا على مقال كتبه ياسين صالح الحاج قبل سنوات، عن احتكار الإسلاميّين لـ «إسلام الناس»؛ إذ يقول الكاتب الأمر ذاته عن البعثيّين الّذين أرادوا "تعريب العرب، لكن أن تبقى مفاتيح العروبة بأيديهم". وقد فسّر الحاج تلك الظواهر الاحتكاريّة خير تفسير: "إنّه النازع الإنسانيّ الأشدّ عموميّة وابتذالًا وتدهورًا: نازع الاستئثار بالحقّ والسلطة". هذا يفسّر لِمَ علينا أن نتحرّر من ثنائيّة إذا فشلت أو لم تفشل الوحدة العربيّة. محاولات الوحدة بين العروبيّين كانت دائمًا محاولات وحدة بين حكّام، والنزاع بين العروبيّين كان نزاعًا بين حكّام. وإذا كانت هنالك دائمًا وحدة واحدة مستمرّة بين هؤلاء، فهي في وحدتهم علينا، وفي اتّفاقهم على ألّا يتّفقوا.

يبحث كلٌّ من العروبيّ والانعزاليّ عن إجابات لأسئلة العروبة، وموتها، والوحدة وفشلها، لدى الحكّام وحاشيتهم، وهي موجودة، على أرض الواقع، في مكان آخر تمامًا؛ الشعوب...

في النهاية، يبحث كلٌّ من العروبيّ والانعزاليّ عن إجابات لأسئلة العروبة، وموتها، والوحدة وفشلها، لدى الحكّام وحاشيتهم، وهي موجودة، على أرض الواقع، في مكان آخر تمامًا؛ الشعوب. في عام 2014، أصدرت اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربيّ آسيا (الإسكوا) تقريرًا مفصّلًا عن التكامل العربيّ سبيلًا للنهضة ما بعد الانتفاضات، وقد تحدّث التقرير عن التكامل العربيّ الشعبيّ في السياسة والمجتمع: "رغم جمود الأطر الرسميّة وضيق الأفق الإقليميّة، تمكّنت الشعوب العربيّة دائمًا من إيجاد وسائل وقنوات للتعاون والتفاعل في ما بينها، مؤكّدة في أكثر من حدث وأكثر من قضيّة، أنّ الأطر الرسميّة، مهما كانت مقيّدة، لن تستطيع أن تفكّك ترابطًا بين الشعوب نسجه التاريخ المشترك، أو تكاملًا تمليه تحدّيات اليوم وضرورات الغد"[2]. وأضاف التقرير: "الفضاء العربيّ ليس مجرّد امتداد جغرافيّ مترابط، بل هو مجال حضاريّ متميّز وزاخر بالقواسم المشتركة الّتي عزّزت وحدته ... وهذا ما سمح بأن تتحوّل انتفاضة تونس إلى مدّ تحرّريّ عربيّ شامل، وأكّد وجود قضيّة عربيّة راهنة، هي تعبير معاصر عن هويّة أو قضيّة عربيّة موجودة دائمًا، لم تنجح حالة التشتّت الرسميّ العربيّ في التعبير عنها. لذا؛ وجد العالم نفسه مجدّدًا أمام البُعد العربيّ في تحديد هويّة ما حدث"[3].

وهنا يكون تأميم العروبة وتحريرها؛ فهي ليست التهديد المتوحّش الآتي من الشرق كما يدّعي الانعزاليّون، ولا هي الواجب لإثبات الولاء وطاعة للحاكم كما يدّعي العروبيّون، بل هي حقّ هويّاتيّ بالتضامن الشعبيّ مع الآخر العربيّ، وبالشعور بالتضامن من قِبَل هذا الآخر.

 


إحالات

[1] Ajami, F. (1978). The End of Pan-Arabism. Foreign Affairs  Quarterly, 75(2), 355-373.

[2] لجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربيّ آسيا. (2014) التكامل العربيّ: سبيلًا لنهضة إنسانيّة.  ص 119.

[3] نفس المرجع. ص 130-131.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.