في الوقت الّذي يتنافس فيه العالَم على قمع الشعب الفلسطينيّ مادّيًّا ومعنويًّا، في الفضاءات السياسيّة والاجتماعيّة والأكاديميّة والفنّيّة، تتقلّص المساحات الصديقة لهذا الشعب. وفي تلك الّتي لا يتعرّض فيها إلى العنف والقمع بشكل مباشر ومادّيّ، يُسْكَت الفلسطينيّ بشكل مستتر مؤدّب، يؤنّب بصوت خفيض ورزين، على المبالغة في وصف القمع، والتحامل على عدوّه، وأداء دور الضحيّة، والعصبيّة، والحساسيّة المفرطة، وعدم تفعيل التفكير العلميّ والمنطقيّ في التعامل مع إبادة شعبه على مرأًى ومسمع من العالَم.
التفكير ’المنطقيّ‘ المفروض على الفلسطينيّة يجبرها على أن تفهم أنّ الإبادة الكاملة لشعبها حدث تاريخيّ بعيد، لا تمارسه جهة معيّنة، وإن كانت تلك الجهة موجودة فهي جهة ليست ’عدوّة‘، وأنّها لو كانت جهة عدوّة فليس كلّ أفرادها مستفيدين، وأنّهم لو كانوا جميعهم مستفيدين فما باليد حيلة إلّا التفرّج حتّى انقضاء ذلك الحدث ’المبهم‘ ثمّ دراسة أنقاضه بتأنٍّ من غير عاطفيّة. هذا هو التفكير العلميّ، المتّزن، المحايد، لأفظع إبادة جماعيّة في العصر الحديث.
أمام هذا الإسكات الممنهج، والتشويه المتعمّد للواقع على أنّه خيال أو ضرب من التجريد، أمام هذه العزلة التامّة والوحدة النادرة، يُفْرَض على الفلسطينيّين المتفرّجين في جسد الواقع الدامي نوع من الحبس الّذي يهيمن على تفاصيل حياتهم اليوميّة.
تُنْقَل هذه المأساويّة من جسد واقع الحاضر إلى جسد المستقبل الفلسطينيّ إن لم يفعّل الفلسطينيّ مخيّلة منقذة مفعمة بالأمل، تمنع تمرّغ جسد المستقبل بدم جسد الحاضر. يصبح ذلك فعل التخيّل، حتّى لو كان سرّيًّا، بين الفلسطينيّ ونفسه، فعلًا مناضلًا راديكاليًّا يملي على الفلسطينيّ اتّخاذ خطوات واثقة، منها كبيرة، وأخرى صغيرة لكنّها ليست بصغيرة.
اهدم صنمًا
في النصّ المعنون «حرّر عقلك واهدم صنمًا»، يشرح الشهيد باسل الأعرج (1984 - 2017) كيف يستدخل المقموع أحيانًا مبرّرات قمعه، "إلى أن يصل الحال إلى قبول الوضع القائم، ويبدأ ببناء فلسفة جديدة، تلك الّتي تُسَمّى ’العقل الكولونياليّ‘، أو ’عقل المظلوم‘ أو ’عقل المضطهد‘"[1]. يشرح كيف أنّ ذلك العقل الكولونياليّ هو "تلك السلطة يمنحها العقل البشريّ، ويبدأ بإعطاء مبرّرات للجسد لتقديم التنازلات الواحدة تلو الأخرى"[2].
هو نفسه العقل الكولونياليّ الّذي تغلّب عليه الأعرج، بدءًا بحمل الكتاب، ونهاية بحمل البندقيّة مناضلًا. في هذا الإطار، الّذي التحمت فيه النظريّة والتطبيق المادّيّ في حياة الأعرج واستشهاده، نجد مجالًا لتتبّع الانتصار على هذا العقل الكولونياليّ؛ من خلال ممارسات ’تمدّي‘ لتخيّلات مستقبليّة. ما الّذي أقصده بذلك؟
في حياة باسل الأعرج واستشهاده، نجد فسحة لتتبّع الانتصار على هذا العقل الكولونياليّ؛ من خلال ممارسات ’تمدّي‘ لتخيّلات مستقبليّة...
في مقدّمة مجموعة خرافيّات «قول يا طير» (2008)، يذكر إبراهيم مهوي وشريف كناعنة مصطلحًا حيويًّا هو ’التمدّي‘. "عندما نستخدم كلمة حدث لا نعني الحدث المادّيّ الملموس فقط؛ فمن خلال عمليّة ترجمة الشيء المجرّد إلى حيّز المادّة؛ أي التمدّي - وهي عمليّة ذات أهمّيّة فائقة ليس فقط في حكاياتنا هنا، بل أيضًا في الفنّ الروائيّ الشعبيّ بأسره - تصبح الفكرة أو الرغبة حدثًا منذ اللحظة الّتي تأخذ فيها شكل الكلام"[3].
بالرغم من تقديم الباحثين لهذا المصطلح في إطار الخرافيّات الشعبيّة، إلّا أنّنا إذا استخلصناه من هذا السياق، وزرعناه في الحاضر المادّيّ، فإنّ أبوابًا مستقبليّة كثيرة تفتح لنا؛ ذلك أنّ الحاضر في هذا الوقت من التاريخ الفلسطينيّ يكاد يكون عصيًّا على التصديق "من ناحيتَي الألم والأمل معًا"، لذا؛ فهو يقترب من الخيال.
يتضاعف ذلك الذهول بسبب وعينا الكامل لكوننا نعيش هذه الأيّام داخل التاريخ الّذي سيسطّر مستقبلًا. أيضًا؛ لأنّ التمدّي عمليّة تحوّل المجرّد إلى مادّيّ ملموس؛ فإنّ تطبيقها يعني تحويل مستقبل ما مجرّد إلى مستقبل مادّيّ احتماليّ.
يُمارَس هذا التطبيق عبر عمليّة تخيّل راديكاليّ لمستقبل ينبع من الحاضر المؤلم، والماضي المؤلم؛ ليُنْتِج مستقبلًا أو مستقبلات متباينة مفعمة بذلك "الأمل الحربيّ أو القتاليّ"[4]. ليس هذا تنظيرًا حول المستقبل، وابتعادًا أو حتّى هربًا من الحاضر؛ لأنّ الجانب المادّيّ لهذه العمليّة يتحقّق الآن في أشكال المقاومة المادّيّة، سواء في قطاع غزّة أو الضفّة الغربيّة. الّذي يعنيه ذلك الأهمّيّة الملحّة لتخيّل مستقبلات فلسطينيّة محرّرة فوق الألم - الّذي يحدث بالفعل وإلّا ما كان هنالك ليكون عمل فدائيّ واحد في النضال الفلسطينيّ، الّذي يحفل بأعمال المقاومة.
المخيّلة فضاءً سحريًّا
يشرح الباحث آندي ميريفيلد في كتابه «الماركسيّة السحريّة» (Magical Marxism)، الّذي يؤكّد فيه حجّة سارتر عن المخيّلة بوصفها فضاءً سحريًّا[5]، الفرق بين المستقبل الحقيقيّ والمستقبل المتخيّل. يتوسّع ميريفيلد في هذه المقاربة، حيث يقدّم المستقبل الحقيقيّ مستقبلًا معروفًا لأنّه ببساطة مرتبط بالماضي بعلاقة سيروريّة. هو مستقبل محافظ هروبيّ لا يحاول تحقيق الحرّيّة[6]. أمّا المستقبل المتخيّل فهو المستقبل الّذي بالإمكان تحقيقه مادّيًّا من خلال تفعيل المتخيّل، وذلك عندما تخلق المخيّلة صورة متحرّرة عن نفسها[7]؛ أي يتحقّق ذلك عندما تسدّ الفوّهة بين المستقبل المتخيّل والمستقبل الحقيقيّ، أو المحقَّق من خلال تفعيل الوعي لتخيّل هذه المستقبلات. من خلال هذه الديناميكيّة، يصبح المخيال مادّيًّا وأداة للتفعيل.
كمونيّة الفعل التخيّليّ لتمدّي مستقبلات فلسطينيّة لا تهرب من الواقع أو الماضي، ولكنّها تنحرف عنهما قليلًا؛ مُتيحةً المجال لتخيّل مستقبلات مختلفة...
تسلّط هذه المقاربة الماركسيّة نحو المستقبل؛ إذ إنّ ميريفيلد يحاجّ بأنّ تفعيل هذه المخيّلة يتحقّق في أوقات الفراغ الّتي تتمرّد ضدّ إطارَي الوقت والعمل الرأسماليّين، كمونيّة الفعل التخيّليّ لتمدّي مستقبلات فلسطينيّة لا تهرب من الواقع أو الماضي، ولكنّها تنحرف عنهما قليلًا؛ متيحةً المجال لتخيّل مستقبلات مختلفة.
في إطار مشابه، يقدّم ميريفيلد مفهومًا آخر على نفس القدر من الأهمّيّة، هو ’ميستيكا‘ (mística) المتجذّر في ثقافة أمريكا اللاتينيّة. هذا ’الهيكل الشعوريّ‘[8] الّذي يتبلور في الفلكلور والثقافة المحكيّة؛ من خلال الروحانيّة والشعر والموسيقى والرقص "والشعور بالغضب على العالم، وتحريك هذا الغضب"[9]، هو الّذي يدفع نحو العمل الثوريّ المادّيّ.
ميستيكا الّتي ألهمت «حركة لاندلِس العمّاليّة»[10] الناجحة في البرازيل، هي عمليّة تفسح المجال لتغيير الوعي؛ من خلال استدخال مفاهيم وممارسات جديدة مع الآخرين؛ أهمّ قوامها التخلّص من بعض التعاليم (Deschooling)[11]، الّتي تحصر المخيّلة عبر الانصياع للتعاليم ووجهات النظر السائدة، والتشجيع على الخنوع[12]. في هذا السياق، نتذكّر دعوة الأعرج بتحرير العقل وهدم الأصنام - الّتي ربّما يكون أهمّها أصنام الخوف وعدم القدرة على تمدّي مستقبلات محرّرة.
قد تكون هذه النظريّات، الّتي طرحها المثقّف المشتبك الأعرج، والباحثون مهوي وكناعنة وميريفيلد، والمفاهيم الثوريّة القادمة من أمريكا اللاتينيّة الّتي يحفل تاريخها بمناهضة الإمبرياليّة، قد تكون مقنعة؛ ولكنّ السؤال الّذي يتبع ذلك هو: كيف تُمارَس؟
جرّ المستقبل إلى الحاضر
يمكن تأطير هذه المخيّلات التحرّريّة نحو المستقبل؛ من خلال جرّ المستقبل إلى الحاضر عبر ممارسات فنّيّة وأدبيّة ونقديّة. جزء من ذلك يجري من خلال التوثيق، الّذي يقوم به الآن عشرات آلاف الفلسطينيّين وحلفائهم حول العالم. توثيق المجازر الصهيونيّة من فيديوهات وصور ووثائق، وحتّى تسجيل صمت الأفراد والمؤسّسات، خاصّة الأكاديميّة والثقافيّة وغير الربحيّة منها، هي موادّ تجمع للاستخدام المستقبليّ - سواء لمقاضاة أو طلب تعويضات أو فضح الجهات الصهيونيّة وداعميها ومطبّعي ممارساتها.
أمّا الجانب الإيجابيّ من عمليّة التحضير هذه للمستقبل، تكمن في تسطير وثائق مستقبليّة لحقبة بعد التحرير في فلسطين، أيًّا كان شكلها؛ فالغرض هنا تحفيز المخيّلة للتفكير في القوانين الفلسطينيّة المستقبليّة، كالّتي تُعْنى بالأرض، مثل منع شراء الأراضي الفلسطينيّة وبيعها منعًا باتًّا مستقبلًا، أو توفير التعليم، والتأمين الصحّيّ، ومشاريع الوحدة الوطنيّة، والعمل على تقليص الشروخ الّتي تفصل الفلسطينيّين مادّيًّا وعاطفيًّا داخل فلسطين التاريخيّة، وفي شتات العالم.
بالإمكان أيضًا الاجتماع مع آخرين؛ للتفكير في أشكال النصب التذكاريّة الّتي ستُبْنى للشهداء، وشجر الزيتون الكثير الّذي سيُزْرَع في الأرض مكان الآلاف منه الّذي اقتلعه أو أحرقه الإسرائيليّون.
في هذا النطاق الّذي يتّسم، كما ذكرت آنفًا، بالتخلّص من بعض التعاليم، يجب إعادة تعلّم ممارسات جديدة، منها محاولات العودة إلى الأرض الّتي طُرِدْنا منها من خلال إعادة تفعيل معرفتنا وخبرتنا بالزراعة والفلاحة وحفظ البذور الفلسطينيّة. بهذا نرجع علاقتنا، خاصّة بين الأجيال الجديدة، بالأرض ومعرفتها تحضيرًا للعودة.
كيف نعيد إعمار ما دُمِّر؟ ما المشاريع الاجتماعيّة الاشتراكيّة الّتي يمكن أن نعمل عليها؟ كيف نحفّز التطوّع في هذه المشاريع معًا؟ كيف ندرس التاريخ الّذي هو حاضرنا الآن؟ كيف سنسامح الماضي - الّذي هو الآن - ولا نرضخ بسجنه لنا؟ كيف نتحرّر منه؟ لكلّ هذه المخيّلات وممارساتها فسحات تضجّ بالحياة للانفلات من الواقع الدامي، مع التفكير في مستقبل - أو مستقبلات - محرّرة من غير إدارة ظهورنا للواقع.
في هذا الوقت الّذي لا يحتمل، في هذه اللحظة القاصمة لظهورنا، لسنا فقط نتفرّج على المجازر المحقّقة في أجساد أحبّائنا البعيدين، بل نتمعّن في صمت هؤلاء المنتفعين من المجازر...
في هذا الوقت الّذي لا يُحْتَمَل، في هذه اللحظة القاصمة لظهورنا، لسنا فقط نتفرّج على المجازر المحقّقة في أجساد أحبّائنا البعيدين، بل نتمعّن في صمت هؤلاء المنتفعين من المجازر، ورضوخهم وجبنهم وخيانتهم، وآخرين يحلمون بأن يصبحوا من بين هؤلاء المنتفعين من المجازر. في هذه اللحظة الدامية يصبح التحلّي بالأمل في حدّ ذاته فعلًا مقاومًا. بذلك؛ يصبح تخيّل المستقبلات الفلسطينيّة المحرّرة خطوة صغيرة، هي ليست بالصغيرة.
ليس صهيونيًّا أبيض مَنْ يحدّد مستقبل قطاع غزّة، ليست محاكم العدل هي الّتي ستحرّر الفلسطينيّين في المستقبل، ليست بَرَكة الكيانات الإمبرياليّة هي الّتي ستسمح بالعودة الفلسطينيّة الكبيرة، ليست ممارسات التطبيع هي الّتي تحدّد كيف يعرف الفلسطينيّ حقّه، وكيف يرجع إلى نفسه، وكيف يمارس نضالات كبيرة ومنها صغيرة هي ليست بالصغيرة.
ليس الحاضر مستقبل فلسطين؛ الحاضر ماضي فلسطين الدامي، هو الماضي الّذي سيرفعه الشعب الفلسطينيّ شهيدًا بسواعد مناضلة، الحاضر الدامي هو بداية المستقبل؛ عودة الحياة، واستمرار الوجود الفلسطينيّ محبًّا مناضلًا دافئًا ويافعًا أبدًا في هذه الحياة.
إحالات
[1] باسل الأعرج، "حرّر عقلك واهدم صنمًا" في وجدت أجوبتي: هكذا تكلّم الشهيد باسل الأعرج (بيروت: بيسان، 2018)، 207.
[2] مرجع سابق، ص 207.
[3] إبراهيم مهوي وشريف كناعنة، قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبيّة الفلسطينيّة (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2008)، 56.
[4] Andy Merrifield, Magical Marxism: Subversive Politics and the Imagination (Pluto Press: London, 2011).
[5] Ibid, p, 143.
[6] Ibid, p. 144.
[7] Ibid, p. 145.
[8] Ibid, p. 76.
[9] Ibid, p. 76.
[10] Landless Workers Movement; Movimento dos Trabalhadores Rurais Sem Terra (MST). For more, watch the documentary Landless, directed by Camila Freitas (2019).
[11] Merrifield, Magical Marxism, p. 78.
[12] Ibid, p. 143.
كاتبة فلسطينيّة تهتمّ بالأدب والفنّ المعاصر، مرشّحة دكتوراه في الأدب الفلسطينيّ، بالتركيز على الواقعيّة السحريّة في «جامعة ماربورغ».