محمّد بدارنة: مسؤوليّتنا أن نحرّر صورتنا

محمّد بدارنة

التقيت بالمصوّر محمّد بدارنة في مقهى بمدينة حيفا خلال زيارته الأخيرة إليها، وهو الّذي يتنقّل مؤخرًا بينها وبين برلين. كان هدف اللّقاء أن نتحدّث عن تدريبات التّصوير الّتي يقوم بها مؤخّرًا في مناطق عديدة، تدريبات تحمل رؤية وتوجّهًا يؤمن به بدارنة، مصوّرًا، وفنّانًا وعربيًّا فلسطينيًّا بالدّرجة الأولى.

يعمل محمّد بدرانة في تدريبات التّصوير على مستويين، الأوّل تقنيّ والثّاني يتمحوّر حول موضوع التّغيير المجتمعيّ وحقوق الإنسان. يشكّل مجموعة من المصوّرين يعمل أفرادها على بناء تصوّر جماعيّ للعمل خلال التّدريب، ويبحثون التّقنّيات أو التّغيير المجتمعيّ. حتّى اليوم، درّب بدارنة قرابة الـ 600 شخص من مناطق مختلفة في فلسطين وخارجها، ينتمون بغالبيّتهم لشرائح مجتمعيّة مهمّشة، عمل معهم على فكرة أساسيّة؛ أن يحملوا الكاميرا ويسردوا  قصصهم الخاصّة بعيونهم، بما يتضمّنه ذلك من آليّات استخدام الكاميرا، ولغتهم البصريّة الخاصّة، وكيف يمكن أن تكون الصّورة عاملًا مؤثرًا.

بعد عمله في مجال العمل الاجتماعيّ والتّربويّ لسنواتٍ طويلة، دخل بدارنة عالم التّصوير من خلال تجربته مع أطفال من غزّة أثناء مكوثهم للعلاج من مرض السّرطان في مستشفيات تل أبيب، حيث كان يتطوّع فيها، وقد كان يصوّرهم خلال تلك الفترة. قسم منهم رحل بعد معاناة مع المرض، وبعد رحيلهم، كان يكتشف بدارنة أنّ صور حياتهم الأخيرة هي الّتي يحملها معه في كاميراته. هذه الحقيقة كان لها أثر كبيرة على إداركه بأنّ الصّور جزء أساسيّ ممّا يبقى من النّاس.

تحرير الصّورة

بالإضافة إلى عمله الفرديّ في التّصوير الفوتوغرافيّ، يوظّف بدارنة جهدًا كبيرًا في العمل الجماعيّ عبر التّدريبات والحملات الإعلاميّة والنّدوات، مؤمنًا بالحاجة إلى بناء شيء جديد، وهو إخراج التّصوير من الجانب التّقنيّ إلى الجانب المؤثّر والفعّال أكثر في الحيّز العام، جانب يحمل صوت المصوّر ورؤيته للمكان والإنسان فيه. عن هذا يقول بدارنة: 'التّجارب التّدريبيّة في التّصوير، والّتي عادة تُنَظَّمُ في الكلّيّات الإسرائيليّة، لا نملك فيها صوتنا الخاصّ، إنّما أصوات المعلّمين والمدرّبين، والّتي غالبًا ما تكون ضمن منظومة مختلفة وفكر مختلف. جزء كبير منهم يعمل داخل النّظام والمنظومة. تعلّمت التّصوير في الكلّيّة على يد مدرّبين كانوا ضبّاطًا في الجيش، الأمر الّذي أحاول أن أقوم به اليوم هو تحرير الصّورة من الهيمنة الأكاديميّة، وبالتّالي تدريب مصوّرين على التّصوير كي يشقّ كلٌّ منهم مساره وطريقه الخاصّين فيما بعد.'

يرى بدارنة أنّه من المهمّ جدًا شقّ المصوّر طريقًا مختلفةً عمّا تعلّمه، وتقريب الصّورة إلى الحيّز الفنّيّ الاجتماعيّ، بالإضافة إلى تحرير الصّورة من فكرة كيف يرغب الآخر برؤيتنا، وكأنّ الصّورة محكومة بعيون الغرب. ويضيف: 'على سبيل المثال، وكالات الأنباء هي الّتي تحدّد الصّورة الّتي تريدها، بالتّالي يقدّم المصوّرون الصّورة الّتي ترغبها الوكالات كي يتمكّنوا من بيعها. نحاول اليوم من خلال التّدريبات أن نحرّر الصّورة من الهيمنة التّجاريّة والاستشراقيّة، لأنّنا في الغالب لا نخلق صورًا حقيقيّة من عالمنا، فالصّورة تبقى محكومة لخدمة منظومة إعلاميّة كاملة تحدّد كيفيّة ظهور العربيّ والشّرقيّ على سبيل المثال.'

الفكرة

يرى بدارنة أنّ النّقص يكمن في الصّورة لا في عدد المصوّرين، وتحديدًا في غياب الفكرة من وراء الصّورة؛ كما يرى أن ثمّة ضرورة للعمل على أن تكون الصّورة قادرة فكريًّا على دعم مقولات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة ما. يقول: 'لست أفضل مصوّر في العالم، ولست أفضل مصوّر موجود في قطاعات أصغر، لكنّني أحاول أن أجد فكرة وأترجمها بصريًّا. عندما أقوم بحلقة تصوير، أفكّر بماذا ستقول الصّورة، ما الفكرة الّتي ستطرحها، وعندها لا تكون الصّورة فقط لحظة عابرة ألتقطها، بل تكون متضمّنة ثلاثة عناصر؛ المصوّر والمتصوّر والفكرة الّتي تمشي يدًا بيد مع الطّرفين. من هنا تكمن رغبتي بمأسسة ثقافة الصّورة بالمواد التّعليميّة والتّدريبات؛ مأسسة هدفها بناء رؤية متنوّعة وليس تقنيّات فقط، رؤية مستقلّة عن المنظور الاستعماريّ للصّورة.' يرى بدارنة أنّه يقصد في حديثه عن مفاهيم الصّور الاستعماريّة، صياغة الآخر لقصص مجتمعنا البعيدة عن التّفاصيل المعيشة داخل البيوت، وعن أجواء الفرح وطقوس الحياة.

مساحات بديلة

في إجابة على سؤال كيف يمكن لهذا المسار أن يغيّر المنظومة بتعاملها مع الصّورة؟ يقول بدارنة: 'نحن محكومون بآلة استهالكيّة كبيرة، لكنّ المادّة موجودة ونحن أصحابها. من المهمّ جدًا أن نخلق فرصًا وإمكانيّات للمصوّرين، وهذه مسؤوليّة المؤسّسات الفلسطينيّة أيضًا. كما أنّ هناك ضرورة لأن يخلق المصوّرون فضاءات بديلة خارج الجاليري؛ على سبيل المثال، مشروع صور العائدين الّذي عملت عليه وعلّقت صوره في مسيرة العودة، إطلاق جاليري سما في رام الله. ليس علينا دومًا أن ننتظر دورَ العرض من أجل عرض الصّور، من المهمّ أن نخلق مساحات بديلة، أن نعرضها على الجدران وفي الحارات والفضاءات العامّة.'

ويضيف: 'ما يحدث اليوم، في كلّ مجالات الفنون، أنّ الفنّان يفكّر في المكان الّذي سيبيع عمله الفنّيّ فيه، ويبني عمله بناءً على ذلك. أصبح التّسويق مؤثّرًا في مضمون العمل ونوعه، فلا يتماشي الإنتاج مع مضمون صانعه، إنّما مع المقتني.'

من النّاس ولهم

لدى حديثنا عن اقتناء الأعمال الفنّيّة والصّور، وكيف تؤثّر عقليّة المقتني على الإنتاج الإبداعيّ، يطرح بدارنة سؤالًا: 'هل الاستفادة من الصّور يجب أن تكون مقتصرة على المصوّر وقتني الصّور؟' والمقصود هنا تحديدًا الصّور الّتي تنقل قصص النّاس ولها تأثير مجتمعيّ؛ ويتابع بدارنة: 'وهل ممكن أن تحمل الصّور مردودًا مادّيًّا للشّرائح المجتمعيّة الّتي نصوّرها أيضًا؟ كانت هناك تجارب شخصيّة لتقاسم الأرباح مع المتصوّرين. أضيف على السّؤال هذا سؤالًا آخر، من هو المقتني؟ هل يجب أن تباع الصّور بآلاف الدّولارات ويمكن فقط للأغنياء شراؤها، وبالتّالي يتحوّل العمل الفنّيّ إلى شيء محدود وخاضع للعجلة الرّأسماليّة؟ أم ممكن أن أصنع صورًا تُباع بطريقة قابلة لأن يقتنيها كلّ النّاس؟ هذا السّؤال مرتبط بالمأساة الأكبر؛ هل يمكن للمتصوّرين في الصّور أن يقتنوا صورهم؟'

يتحدّث بدارنة كثيرًا عن المتصوّرين وحضور النّاس في الصّور، كأنّ كلّ صورة يصنعها بعدسته يجب أن تحتوي شخصيّة واحدة على الأقلّ. عن هذا يقول بدارنة: 'في مجال عملي، أعمل مع النّاس، لكن يمكن أن أصوّر صورًا للطّبيعة  الصّامتة أو الأمكنة، لكنّ هذه الأمكنة، حتّى لو لم يكن فيها ناس، فلها ارتباط مع الإنسان. كلّ ما يتعلّق بالتّصوير المجتمعيّ مرتبط أساسًا بالعناصر المؤثّرة في النّاس.'

فضاء مستقلّ

يكرّر بدارنة بين الحين والآخر استخدامه لمصطلح 'مدرسة تصوير'، وهو تكرار نابع من حلمه بخلق فضاء فوتوغرافيّ فنّيّ يحتضن كلّ ما يتعلّق بالفنون البصريّة القادمة من الفوتوغرافيّة. عن هذا يقول: 'ومن هنا نصبح مستقلّين في بناء قصصنا المصوّرة، مستقلّين فكريًّا، لأنّ القصّة العربيّة والفلسطينيّة قصّة قويّة، ويمكن للآخر أن يتعلّم منها. دائمًا نريد أن ننشر صورنا ’هناك‘ ونعمل ‘هناك‘، وكأنّ العالميّة هي أن تكون ‘هُناك‘، لكنّ العالميّ أن تكون هنا. الهدف خلق فضاء بإمكانه أن يكون مدرسة أو مركزًا أو مؤسّسة، يتابع المواهب ويعطي الدّعم المادّيّ والمعنويّ والتّقنيّ والمهنيّ.'

بين حيفا وبرلين

يعيش محمّد بدارنة مؤخّرًا بين حيفا وبرلين، متنقّلًا بين حياته وعمله في كلا المدينتين. 'حياتي الشّخصيّة في برلين، وهي جزء أيضًا من البحث والتّخبّطات في مسار التّطوير الذّاتيّ. فيها الأستوديو أيضًا، والفضاء لتطوير الأفكار والتّدريبات. وفلسطين، هي كلّ قصصي، وهي المكان الّذي أريد أن أحقّق حلمي فيه بتأسيس فضاء للعالم الفوتوغرافيّ، لأنّ في فلسطين مصوّرين لا يقّلون أهمّيّة عن أيّ مصوّر عالميّ. عندما ذهبت إلى برلين، عملت مع منظّمات دوليّة وصناديق دعم مختلفة، وهذا ما نطمح إلى تطويره هنا، أن يكون لدينا مصوّرون قادرون على تطوير أنفسهم في كلّ مكان بالعالم، لكنّ قوّتنا في فلسطين، وليس في أيّ مكان آخر، منها نخرج إلى العالم.'  

صور من تدريبات محمّد بدارنة: