بشّار حمدان: مركز الفيلم الفلسطينيّ مشروع لحفظ الذاكرة البصريّة

من فيلم "الزمن المتبقّي" لإيليا سليمان (2009)

أعلن منتدى فلسطين الدوليّ للإعلام والاتّصال في تمّوز (حزيران) الماضي، عن تأسيس 'مركز الفيلم الفلسطينيّ'، وهو بمثابة مؤسّسة دوليّة تسعى إلى توثيق الأفلام الفلسطينيّة والتي تتعلّق بفلسطين، والتعريف بها وتسهيل نشرها بطريقة عصريّة وسريعة، تتلاءم مع المنصّات الرقميّة؛ وذلك خدمة للذاكرة البصريّة الفلسطينيّة، وجزءًا من مسار أرشفتها والحفاظ عليها، لتكون عملًا إضافيًّا في مواجهة محاولات الاحتلال الإسرائيليّ المستمرّة لطمسها وإلغائها، سواء الذاكرة المكتوبة، أو المسموعة أو البصريّة.

يرى المنتدى، ومقرّه العاصمة التركيّة، إسطنبول، أنّ ما يزيد من أهمّيّة هذه الخطوة، حقيقة اختفاء جزء كبير من الأرشيف الفلسطينيّ إبّان الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت عام 1982.

حول الأرشيف ومسار تجميعه، كان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة حوار مع المخرج الفلسطينيّ بشّار حمدان، عضو اللجنة التحضيريّة لمركز الفيلم الفلسطينيّ.

فُسْحَة: كيف وُلِدَت فكرة تأسيس أشريف فلسطين السينمائيّ؟

بشّار حمدان: فكرة تأسيس أرشيف سينمائيّ ليست جديدة، إذ كانت أكثر من محاولة سابقًا، منها على سبيل المثال مبادرة ‘جماعة السينما الفلسطينيّة‘،  والتي أُعْلِنَ عن انطلاقها قبل أكثر من عشرة أعوام، وكان رئيسها المخرج الراحل مصطفى أبو علي، وكان أبو علي نفسه قائمًا على مشروع الجماعة، الذي تأسّس بداية السبعينات من القرن الماضي، وكانت الجماعة تتبع لمؤسّسة الأبحاث الفلسطينيّة قبل أن يتوقّف المشروع، وكان من ضمن أهداف الجماعة إنشاء صندوق للسينما وتأسيس وحفظ الأرشيف الفلسطينيّ السينمائيّ.

المخرج بشّار حمدان

ثمّة أيضًا الكاتب والباحث الفلسطينيّ بشّار إبراهيم، وهو الذي يعمل وبشكل فرديّ على جمع وأرشفة ما يمكن من الأفلام الفلسطينيّة القديمة والحديثة، بالإضافة إلى تحليلها ونقدها وتوثيقها، سواءً عبر المقالات أو في الكتب التي ألّفها حول الموضوع، ومنها ’السينما الفلسطينيّة في القرن العشرين’، و’فلسطين في السّينما العربيّة’، وغيرها..

لذا فالفكرة ليست جديدة، وأنا شخصيًا بدأت الاهتمام بالموضوع منذ عدّة سنوات، حيث قمت بمحاولات بسيطة للبحث عن هذا الأرشيف وجمع بعض الأفلام، ضمن عملي مخرجًا في ’شركة طيف للإنتاج التلفزيونيّ‘، وهي من الشركات الرائدة في إنتاج الأفلام الوثائقيّة عن فلسطين. لكن للأسف، في ظلّ الإمكانيّات القليلة وغياب التواصل الفاعل بين كافّة الجهات ذات العلاقة، لم أستطع إكمال ما بدأت العمل عليه.

قرّرت، مؤخّرًا، العودة للعمل على إنشاء موقع إلكترونيّ يضمّ بيانات الأفلام ومعلومات حول صناعة السينما الفلسطينيّة، وبالفعل بدأت بالتواصل مع العديد من الزملاء والأصدقاء، وبشكل أساسيّ مع بشار إبراهيم، وذلك للبدء بالمشروع هذه المرّة بشكل جدّيّ، وعلمت بتأسيس ’مركز الفيلم الفلسطينيّ’ ضمن مشاريع ’منتدى فلسطين الدوليّ للإعلام والاتّصال’، وهدف المركز تأسيس قاعدة بيانات للأفلام الفلسطينيّة وتوفيرها للمهتمّين.

ورشة عمل في بيروت حول مشروع 'مركز الفيلم الفلسطينيّ'

تواصلت مع المنتدى حتّى لا تتشتّت الجهود، وقد وجدت ترحيبًا منهم، وسنتعاون إن شاء الله لإنجاح هذا المشروع، والذي باشروا به حينما تم أُعْلِنَ عن تأسيس المركز في المؤتمر الأوّل للمنتدى قبل عامين، ونأمل بأن ينجح المشروع ويستمرّ.

فُسْحَة: ما دوافع إنشاء هذا المشروع في هذه المرحلة التاريخيّة تحديدًا؟

بشّار حمدان: هذا مشروع كان يجب أن يُنْجَز منذ سنوات كثيرة، وليس مرتبطًا بهذه المرحلة بقدر ما هو ضرورة لحفظ وتوثيق قضيّتنا وحياة شعبنا بما فيها من تفاصيل وحكايات، وبما تشكّله من وثائق تعزّز من حقوقنا المشروعة أمام العالم كلّه، وتدين الاحتلال في الكثير من المراحل المفصليّة من تاريخنا.

لا يخفى على أحد محاولات الاحتلال محو وإلغاء ذاكرتنا بكافّة أشكالها؛ المكتوبة والبصريّة والشفويّة، وكما قال الأديب الراحل، سلمان ناطور، بلسان أبو صلاح اللوّاح، أحد أبطال ذاكرته: ’ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة،‘ والأفلام والسينما جزء من ذاكرتنا، تمتدّ فصولها إلى ما قبل النكبة.

فُسْحَة: ماذا يمكن أن يقع تحت خانة 'أرشيف فلسطين السينمائيّ' من موادّ بصريّة؟

بشّار حمدان: كل الأفلام التي صُنِعَت عن فلسطين تندرج ضمن هذه الخانة، أساسًا، والمرحلة الأولى من هذا المشروع هي البحث عن هذه الأفلام وجمعها وتوثيقها، واليوم لدينا مئات المخرجين الفلسطينيّين في أنحاء مختلفة من العالم، ونتاجهم جزء من الذاكرة البصريّة الجمعيّة، ونحن أمام وثائق بصريّة تعزّز وجودنا وهويّتنا الجمعيّة، بالإضافة إلى العديد من الإنتاجات لمخرجين عرب وأجانب ممّن عملوا وما زالوا يعملون على أفلام عن فلسطين وقضيّتنا.

من مجموعة عزّ الدين قلق

يمكن في مراحل لاحقة العمل على المسلسلات الفلسطينيّة، وأيّ موادّ مصوّرة ذات علاقة بفلسطين، وكلّ ما يمكن أن يعزّز من هذا الأرشيف.

فُسْحَة: منذ فقدان الأرشيف البصريّ الفلسطينيّ، بما يتضمّنه من موادّ سينمائيّة وملصقات ولوحات وغيرها، في اجتياح بيروت عام 1982، لماذا لم تولد مبادرات لإعادة تجميعه حسب رأيك؟

بشّار حمدان: كما ذكرت، كان ثمّة مبادرات، لكن لم يُكْتَبْ لها النجاح أو الاستمرار، لذا نأمل في أن تكون لدينا القدرة على تحقيق هذا المشروع على أرض الواقع، والأهمّ استمراره والعمل على تطويره وتحديثه، بل وعلى الرغم من وجود عدّة كتب صدرت عن السينما الفلسطينيّة في السبعينات لقاسم حول، ومصطفى أبو علي، وغيرهم، بالكاد تتوفّر هذه الكتب، حالها حال الكثير من الأفلام التي بالكاد يمكن الحصول عليها.

كما أنّ الواقع السياسيّ الفلسطينيّ المؤلم، بما فيه من انقسام وانشقاق، ينعكس سلبًا على الكثير من الأنشطة الفنّيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، لذلك لا بدّ من وجود مبادرة تجمع كافّة الأطراف، على اختلاف توجّهاتهم وانتماءاتهم الفصائليّة، للعمل على جمع هذا الأرشيف.

تجدر الإشارة إلى أنّ المخرجة عزّة الحسن، وفي فيلمها 'ملوك وكومبارس'، حاولت تتبّع أرشيف السينما الفلسطينيّة في أكثر من دولة عربيّة، باحثة عن مصيره، إذ أنّ ما صُوِّرَ خلال تلك الفترة، فترة الثورة الفلسطينيّة والكفاح المسلّح، يشكّل مرجعًا مهمًّا ومفيدًا يثري الذاكرة ويسهم في دراسة التاريخ الفلسطينيّ، لكن حتّى الآن لم يُعْرَف مصير هذا الأرشيف.

مؤتمر منتدى فلسطين الدوليّ للإعلام والاتّصال (2014)

الموضوع ليس سهلًا أبدًا، حتّى ما يتوّفر من أرشيف، موزّع بين المؤسّسات والفصائل والأشخاص، سواءً داخل فلسطين أو خارجها.

فُسْحَة: هل ثمّة إهمال من قبل الجهات (السياسيّة الفلسطينيّة على سبيل المثال) التي يجب أن تهتمّ بتوثيق الذاكرة الفلسطينيّة؟ ولماذا؟

بشّار حمدان: واقعنا الفلسطينيّ مؤلم، إذ لا نكاد نجد جهة مرجعيّة واحدة يمكن الرجوع إليها، لا سيّما الأجيال الحاليّة، للتعرّف على تاريخنا ونضالنا والمراحل التي مرّ بها شعبنا وقضيّته. للأسف، ثمّة إهمال كبير في توثيق ذاكرتنا، إذ لا توجد  مؤسّسات فاعلة تعمل على جمع ما تبقّى من هذا الأرشيف وحفظه، بل ويغيب التوثيق والمؤسّسيّ المُمَنْهَج لما يُنْتَج حاليًّا عن فلسطين، يضاف لها طبعًا الأثر السيّء الذي تركه الانقسام، وتشرذم الفصائل على الساحة الفلسطينيّة بعامّة.

 سمعت مؤخرًا بأن هناك بعض الجهات غير الحكوميّة تعمل على توثيق التاريخ الفلسطينيّ المعاصر، ولا تفاصيل لدي حتى الآن      عن الموضوع ولكن بالتأكيد في حال وجود مثل هذا الجهد، فالسينما الفلسطينيّة يجب أن تندرج ضمنه، ونحن نأمل بأن يكون هناك تعاون بين كافة الجهات المعنية لحفظ الذاكرة الفلسطينيّة.

والتوثيق هنا وهو ما تقوم عليه مبادرة مركز الفيلم الفلسطينيّ، تتجاوز مرحلة التوثيق بالكتابة ووضع قاعدة بيانات مكتوبة إلى التوثيق البصريّ.

فُسْحَة: ما هي أهمّيّة الأرشفة بعامّة؟ سواء الموادّ البصريّة أو غيرها، لا سيّما ما يتعلّق بفلسطين وتاريخها؟

بشّار حمدان: الأرشيف يمثّل وثيقة تاريخيّة ليس فقط بما فيه من أفلام، إنّما بما تقدّمه هذه الأفلام من قراءة مهمّة للعديد من المراحل التاريخيّة، تضيء الكثير من الجوانب المتعلّقة بالشعب الفلسطينيّ. وفي حال نجحنا بأرشفة الموادّ البصريّة، فهذه الموادّ ستكون وثيقة مهمّة للباحثين، ويمكن الاتّكاء عليها اليوم في صناعة الأفلام عن فلسطين، وثائقيًّا وروائيًّا، وتطويرها.

المخرج الفلسطينيّ هاني جوهريّة

أذكر أنّني خلال العمل على فيلمي، 'الحريق لا يزال مستمرًّا' (2009)، والذي يتناول حادثة إحراق المسجد الأقصى عام 1969، بالكاد وجدت لقطات للمسجد خلال تلك الفترة، وما الذي حلّ به بعد الحريق، ولقطات لإعادة إعماره، وكان ما يتوفّر موجود فقط في الأرشيفات الأجنبيّة، وإذا قسنا على ذلك، سنجد الكثير من أرشيفنا الضائع والمتناثر هنا وهناك، حتّى على اليوتيوب.

وفي فيلمي 'أغاني لفلسطين: بين مبادئ الثورة وحلم السلام'، والذي أنتجته شركة طيف للإنتاج التلفزيونيّ عام 2009، لصالح قناة الجزيرة، ضمن برنامج 'فلسطين تحت المجهر'، وهو يحكي قصّة الأغنية الثوريّة الفلسطينيّة وتطوّرها وكيف أصبحت مرافقة للسلاح، كان لا بدّ من الاستعانة بأرشيف يعزّز بصريًّا الحديث عن مراحل هذه الأغنية، وكنت، ومن خلال البحث، قد قرأت بأنّ المغنّي المصريّ الراحل، عدلي فخري، كان يحمل عوده ويزور الجرحى في المستشفيات ويزور المقاتلين في ثكناتهم ويغنّي لهم. بحثت مطوّلًا ولم أستطع الوصول إلى أيّ مادّة بصريّة، وبالصدفة وجدت مقطعًا مصوّرًا له ضمن أحد الفيديوهات المنشورة على يوتيوب، فلم أعرف من أيّ فيلم هذا المقطع أو من هو صاحبه. في النهاية، اضطّرِرْتُ إلى استخدام المقطع لما يشكّله من أهمّيّة توثيقيّة في الفيلم. لنتخيّل أنّ الأفلام التي أُنْتِجَتْ خلال فترة الثورة الفلسطينيّة ما زالت متوفّرة ويمكن الرجوع إليها بسهولة وفي أيّ وقت!

أرشيفنا مبعثر هنا وهناك داخل فلسطين وخارجها، في دول عربيّة وأجنبيّة، أو على صفحات اليوتيوب، ودون أيّ تصنيف ولا تنظيم، بل حتّى دون وجود مصدر واضح؛ والأرشفة ستكون مهمّة أكثر إذا وصلت أيضًا إلى الأشخاص العاديّين وإلى الجيل الحاليّ ممّن يبحث عن قصص وأحداث ومراحل من التاريخ الفلسطينيّ، بالإضافة إلى أهمّيّته في مواكبة الإنتاجات الحديثة وإبقاء الناس على اطّلاع عليها، لا سيّما تلك الأفلام التي تُنْتَج بشكل مستقلّ وتجد طريقها للعرض في المهرجانات العربيّة والعالميّة، لكنّها تغيب عن شاشات السينما والتلفزيون في بلادنا، وبالكاد تصل إلى المشاهد العاديّ.

فُسْحَة: ما هي الآليّات التي ستُتَّبَع من أجل تجميع أكبر عدد ممكن موادّ فلسطين السينمائيّة؟

بشّار حمدان: المشروع ما يزال في بداياته، وقد بدأنا التواصل مع عدد من المعنيّين، من باحثين ومخرجين ومنتجين، والتواصل مستمرّ حتّى نصل إلى الجميع، وكلّ من يودّ المشاركة والمساعدة ودعم هذا المشروع مرحّب به، بعيدًا عن أيّ تجاذبات أو اختلافات يفرضها الواقع السياسيّ في فلسطين.

دراسة حول السينما الفلسطينيّة لبشّار إبراهيم

لا بدّ من الإشارة إلى أنّني أتطوّع في هذه المبادرة، 'مركز الفيلم الفلسطينيّ'، إيمانًا بأهمّيّة مثل هذه الفكرة وضرورة تنفيذها على أرض الواقع، لذا فحتّى هذه اللحظة نحن في مرحلة وضع الآليّات وخطّة العمل، وعلينا بداية تحديد مصادر الأرشيف والجهات التي يمكن أن تساهم فيه، ومن ثمّ الحصول على الدعم والتمويل اللازمين لتحقيقه على أرض الواقع، مع عدم إغفال بحث مسألة حقوق الملكيّة فيما يتعلّق بالحصول على الموادّ ونشرها.

نحن بصدد التواصل أيضًا مع كافّة المعنيّين والجهات، لا سيّما الفلسطينيّة، في الداخل والخارج، آملين بتوحيد الجهود في سبيل إنجاحها.

فُسْحَة: بعد تجميع ما يمكن تجميعه من الأرشيف، كيف سَتُنْشَر الموادّ؟ وهل ستتوفّر لأيّ مهتمّ أو باحث مناليّة لها؟

بشّار حمدان: سيكون ضمن المشروع موقع إلكترونيّ – قاعدة بيانات، تتضمّن معلومات عن الأفلام ونبذًا عنها، بالإضافة إلى سنة الإنتاج، والمنتج، والمخرج، وتفاصيل عن فريق العمل... الخ. وسيُحَمَّل ما يتوفّر من هذه الأفلام على هذا الموقع لتكون متاحة للاطّلاع والمشاهدة. كما سيتابع المشروع كلّ ما يُنْتَج حديثًا، وسيتوفّر مقرّ لـ ’مكتبة فيلميّة’ لأرشفة الأفلام وتصنيفها وحفظها.