عاصفة رمليّة في نفق مظلم!

لميس عمّار (ليلى) وجلال مصاروة (أنور) في "عاصفة رمليّة"

لم يَرُقْ لي الفيلم في أوّل 15 دقيقة منه. أدرت وجهي نحو صديقتي الجالسة يميني وقلت لها: فشّ قصّة! فهمست: طولي روحك.

لا تروق لي كثيرًا فكرة تبنّي مخرجة إسرائيليّة قصّةً تتعلّق بالفلسطينيّين، وأشعر بالقلق إذا ما كان السيناريو من كتابتها أيضًا، فالأفكار المسبقة لا بدّ أن تجد لها مكانًا في السيناريو أو الحوار أو التنفيذ، بما فيه من تفاصيل صغيرة، ولو أنّني في هذا الفيلم لم أبحث بين الكثبان عن تفاصيل كهذه.

عبستُ لدى مشهد معيّن، وابتسمتُ عند آخر، وعبّرتُ عن استيائي في ثالث. كنت أحاول ربط الأحداث والمشاهد وأبحث عمّا يخبّئه الفيلم من معانٍ وراء الحوارات البسيطة. انتهى الفيلم، تسمّرت مكاني للحظة، ثمّ رحت أراقب أسماء الممثّلين وأبتسم كلّما قرأت اسمًا أعرفه.

حبّ كبير؟!

يصوّر لنا فيلم 'عاصفة رمليّة' (2016) قصّة جليلة (ربى بلال - عصفور) وليلى (لميس عمّار)، أمّ وابنتها من إحدى القرى منزوعة الاعتراف في النقب. ليلى تبدو فتاة تحظى بمكانة خاصّة لدى والدها، سليمان (هيثم عمري) الذي 'يتيح' لها قيادة السيّارة، والدراسة في الجامعة، ويتعامل معها بغاية الحبّ واللطف، ما يوهم المشاهد في افتتاحيّة الفيلم أنّ الحديث يدور عن محبّين. لكنّ نهاية الفيلم توضح لنا أنّ هذا الكمّ الكبير من الحبّ لا يستطيع الصمود أمام العادات والتقاليد وقلّة الحيلة التي تميّز هذا الوالد.

يبدأ الفيلم بمشهد في السيّارة يجمع الأب بابنته. يتبادلان الحديث والنظرات والضحك، ليتّضح لاحقًا أنّهما وصلا القرية متأخّرين في يوم عرس الوالد، وهما يحملان في السيّارة سرير الزوجة الجديدة - الثانية. لا يبدو أمر مرافقة ليلى لوالدها مقلقًا لها أو غريبًا عليها، ما يشير إلى أنّ تعدّديّة الزواج ليست عادة استثنائيّة أو غريبة أو مرفوضة.

سرير الضرّة

تمنع الزوجة الأولى، جليلة، زوجها من حمل سرير عروسه وإدخاله إلى البيت، لتحمل هي وابنتها السرير وتركّبانه، لتكون المرّة الأولى التي تدخل فيها جليلة مخدع ضرّتها. يبدأ حفل الزفاف، تفصل مسافات بين الرجال والنساء، كلٌّ في احتفاله، تصل سيّارة العروس فتستقبلها جليلة.

ينتهي العرس، يصل العريس إلى غرفة عروسه، ونتمكّن من اختلاس النظر إلى غرفة النوم عبر عيون الابنة الصغيرة، تسنيم، التي تقف تراقب والدها في ليلة زفافه. ينتهي المشهد عندما تكتم تسنيم ضحكتها لدى رؤيتها العروس جالسة على السرير فينكسر! يضحك العروسان، ونحتار: هل كُسِرَ لأنّ العروس سمينة؟! أم كُسِرَ لأنّ جليلة وليلى حرصتا على عدم تركيبه بالشكل الصحيح؟! أم لأنّهما، ببساطة، لا تجيدان تركيب الأسرّة؟!

تمرّد

ساحة بيت صغير في قرية منزوعة الاعتراف تجمع ثلاث نساء، جليلة وابنتها ليلى والضرّة عفاف، وثلاث طفلات صغيرات يتراوح دورهنّ بين منح الأب صفة 'أبو البنات' ومساحة للتفكير في مستقبلهنّ. فتسنيم التي يلفت دورها المشاهد كثيرًا، حرّة الحركة في المساحة الممنوحة، ومتمرّدة في الحدود التي يسمح بها جيلها؛ لا تمتنع ولا تتوانى عن إيصال القهوة للرجال في خيمتهم، وتخلع حجابًا تفرضه عليه والدتها وهي تقول: أنت جَنّيتي (جُننتِ)!

الزوجة الثانية، عفاف

على الرغم من التمرّد في شخصيّة ليلى، واختيارها الوقوع في حبّ أنور (جلال مصاروة)، الذي يدرس معها في الجامعة، وهو من عشيرة غير عشيرتها، إلّا أنّ التمرّد الأكبر يكمن في شخصيّة الأمّ، جليلة، وهي بارعة في التلاعب بهذا التمرّد، تظهره وتخفيه كيفما شاءت.

نفق

بإيقاع بطيء، لا يحاول الفيلم أن يكون سينمائيًّا حالمًا منقطعًا عن الواقع الذي يصوّره، ولا يأتينا ببطلات يكسرن كلّ القوالب لينتهي بنشوة انتصار مبتذل، على العكس تمامًا، فهو بسيط وسلس، يقدّم صورة عن معاناة النساء في ظلّ عبء الحياة بالقرى البدويّة منزوعة الاعتراف. ولعلّ أفضل مشاهده وأكثرها صدقًا، توقّف ليلى وسط نفق ينتظرها في نهايته حبيب. تتوقّف ليلى في أكثر بقع النفق ظلمة، تبكي بحرقة وهي تجلس داخل سيّارة والدها ليتّضح لنا بعد ذلك أنّها اختارت عدم المضيّ نحو 'الضوء' والتخلّي عن الحبّ والعودة إلى الوراء نحو إنشاء عائلة بصورة تقليديّة، وقبول الزواج بمنير، الذي لم تكن تعرف حتّى كيف يبدو شكله!

الفيلم، بوضوح رسالته التي تولّد تعاطفًا مع المرأة، لا يكلّف المشاهد كثيرًا من الطاقة للتحليل، لكنّه ليس فيلمًا سطحيًّا، وهو نسويّ إلى حدّ بعيد.

الجليلة

على الرغم من التنازلات التي تقدّمها جليلة، إلّا أنّها هي البطلة؛ بطلة عندما تنجح في فرض شخصيّتها، عندما تتحدّث بصوت عالٍ ولا تعتمد الصمت، عندما تختار نفسها وتفرضها على زوج تربّى على تقاليد غاية في الصرامة تجاه المرأة، وهي تحضنه بكثير من الحبّ والاشتياق.

هذه الشخصيّة بكلّ تصرّفاتها وحواراتها مثال لامرأة 'لبؤة'، وضعت عائلتها نصب عينيها هدفًا تستبسل في الدفاع عنه، تقسو وتحنو كما تستطيع الأمّ أن تكون؛ زوجة قويّة تنحني أمام واقع عادة تعدّد الزوجات، لكنّها تنتصب أمام رغبتها في التخلّص من كلّ مظاهر فرح حظيت به أخرى على حسابها، فتعمل أعمال الرجال من ترتيب ساحة العرس وإفراغ محتوياتها.

جليلة رصينة يوم زفاف زوجها، تقليديّة في التعامل مع ليلى العاشقة، واقعيّة في إدارة شؤون منزلها، مترفعّة في التعامل مع ضرّتها، وقويّة عندما تدافع عن زوجها وبناتها.

يصل الفيلم ذروة الدراما حين تصرخ جليلة في وجه زوجها طالبة منه أن يتوقّف عن الاختباء وراء العادات وأخذ دوره في اتّخاذ القرارات المتعلّقة بعائلته، لا سيّما عندما تقول له: 'صير زلمة ولاقي لبنتك عريس يستاهلها!' وهو موقف يأتي عليها بالطلاق. تبقى جملة جليلة هذه في الذاكرة كونها اعتراف واضح منها بقيمة ابنتها، وقيمة دراستها الجامعيّة، وشخصيّتها ووعيها، واعتراف آخر بالعادات والتقاليد التي تفرض على ليلى الزواج داخل العشيرة.

سياسة في الملامح

لا تسعفني معرفتي بالمجتمع الفلسطينيّ في النقب بالحكم على مدى صدق الفيلم في طرحه قضيّة النساء، لكنّه لا يستفزّني بمشاهد أشعر أنّها مستحيلة. 'عاصفة رمليّة' ليس فيلمًا معقّدًا ومركّبًا، لكنّه يمنح المشاهد مساحة للتفكير والتحليل.

يولّد الفيلم إحساسًا عميقًا بالتعاطف والتماهي مع النساء؛ يعرض أربعة أجيال تتفاوت في كيفيّة تعاطيها مع الحياة والمجتمع، ويصوّر مجتمعًا فيه من النساء من تتحدّى وتحاول وتقاوم.

لعلّ تسمية الفيلم تعود لطبيعة العواصف الرمليّة التي إذا هبّت تمنع العيون من رؤية الواقع بوضوح، تغيّر شكل الكثبان الرمليّة وتنقلها من حال إلى حال، تثور وتهدأ!

رغم أنّ الفيلم يدور في محور اجتماعيّ، إلّا أنّ السياسة تحضر بصورة رمزيّة، فهي متروكة للمشاهد ليبحث عنها بين بيوت الصفيح، وتلال الرمل، وأسلاك الكهرباء الموصلة للغسالة والثلّاجة!

.....

عاصفة رمليّة (2016).

سيناريو وإخراج: عيليت زاكتسر.

بطولة: ربى بلال - عصفور، لميس عمّار، جلال مصاروة.