آذار يأتي: تعدد الرؤى البصرية للأرض

لم تبحث النّخبة من الفنّانين الفلسطينيّين في معرض 'آذار يأتي'، والّذي تستضيفه صالة عرض 'بيت مريم' في القدس خلال نيسان (أبريل) الحاليّ، مثلهم مثل كثير من أقرانهم الفنّانين التّشكيليّين، في موضوع الأرض وما تفرضه من مشهديّة جماليّة، عبر التّضاريس واللّون والمكوّن الجغرافيّ فحسب، بل بشعور جمعيّ أيضًا، يجعل من هذه الأعمال الفنّيّة بحثًا معمّقًا في الأرض، باعتباره معنًى أنطولوجيًّا ودلالة انتماء، وترجمةً للتّعاقد الوفيّ مع ذلك العشق الأبديّ الرّاسخ في وجدان الإنسان الفلسطينيّ، فهي الرّحم الأوّل، وهي البداية والنّهاية، وهي، أي الأرض، جوهر الاستجابة لسياقات التّحدّي الّتي يفرضها المستعمِر الّذي لا يعي قيمة هذه الأرض في وعي أبنائها.

يقدّم معرض 'آذار يأتي' ثماني تجارب بصريّة لفنّانين فلسطينيّين، جميعهم وُلدوا بعد النّكبة، بل إنّ غالبيّتهم نشأوا ويقيمون في فلسطين المحتلّة عام 1948، في ظلّ ضغظ واسع وممنهج تفرضه أجهزة الانتحال والزّيف الصّهيونيّة، عبر ما يقارب سبعة عقود من الحلم الصّهيونيّ الكاذب في التّعليم والثّقافة والإعلام، وغيرها من المجالات، وعبر برامج متعدّدة حاولت تفكيك العلاقة الوجوديّة بين الإنسان صاحب الأرض والمكان، وطمس الذّات والهويّة الوطنيّة، بل تمارس أيضًا محاولات متكرّرة لطمس وتغييب وأسرلة كلّ رمز قائم في الجغرافيا الفلسطينيّة، لنجد أنّ الأرض مسألة جوهريّة وغاية، بل غواية ما زالت تُلهم الفنّان الفلسطينيّ، وستبقى تشكّل حلمه الأبديّ وعشقه السّرمديّ الخالد، باحثًا فيها وعنها في جميع ميادين الإبداع، سواء في الشّعر أو في الفنون البصريّة وغيرها، بوصفها حاضنة لوعيه الرّمزيّ والقيميّ، وشرطًا لوجوده وامتداده.

لوحة للفنان فؤاد إغبارية
الفنّان فؤاد إغباريّة

صُبّار

على الرّغم من وحدة الموضوع في أعمال معرض 'آذار يأتي'، إلّا أنّنا نجد تنوّعًا في المضامين لتجارب تشكيليّة تباينت في قراءة الأرض موضوعًا، وفي ترجمتها بصريًّا. في أعمال الفنّانيْن فؤاد إغباريّة وكريم أبو شقرة، والّتي نُفِّذت بألوان الزّيت على القماش، نستطيع أن نلمس استحضارهما للأرض عبر نبتة الصّبّار الشّائع انتشارها في أرض فلسطين، ما يُعَدُّ نوعًا من التّجريد 'الفطريّ'، أي الجزء يعادل الكلّ؛ فقد التصقت هذه النّبتة بأرض فلسطين عبر آلاف السّنين، وقد يمثّل الصّبّار في أعمالهما استعارة واستحضارًا للتّعبير عن ارتباط الإنسان الفلسطينيّ بأرضه، لما تحمله تلك النّبتة من خصائص وسمات تميّزت بها عن مملكة النّبات، مثل العناد والإصرار على البقاء، والّتجذّر في الأرض، والقدرة على التّجدّد والانبعاث مرّة أخرى رغم ما قد تتعرّض له من اقتلاع، ما جعلها مرشّحة لدى كلٍّ من إغباريّة وأبو شقرة لتصبح رمزًا للإنسان الفلسطينيّ المعاند والمتمسّك بحقّه في البقاء على هذه الأرض، رغم كلّ محاولات الطّمس والتّزييف والاقتلاع.

ينقل فؤاد إغباريّة نبتة الصّبّار من سياقها الطّبيعيّ إلى أصيص، للتّعبير عن حالة الاقتلاع والحصار الّتي تُمارس بحقّ الإنسان الفلسطينيّ، إلّا أنّ النّفي والاقتلاع لا يوقفانها عن البقاء والنّموّ والتّمدّد والتّعاظم داخل الأصيص، رغم صغر حجمه، في حين يرسمها كريم أبو شقرة بروح تعبيريّة تُشعر الرّائي بمعاني القوّة الممزوجة بالجماليّات المختزَلة في تلك النّبتة السّاحرة.

شوقٌ وشقاء

أمّا لوحات الفنّان عاهد ازحيمان من مدينة القدس، والمنفّذة بألوان الأكريليك، فهي تصوّر بمقاربة واقعيّة أطفالًا يلهون فوق الأرض، وقد نُفِّذت تلك الأعمال بمناخ لونيّ وبناء تصميميّ يمنحها خصوصيّة وشحنة تعبيريّة عالية، وهي تذكّر بحالة الشّقاء وبعذابات الطّفولة على هذه الأرض، إذ يصوّر الفنّان الأجساد البريئة تلهو بطائرات ورقيّة تعبيرًا عن الشّوق للحرّيّة والخلاص؛ في حين يدهشنا بحضور ظلّ الطّائرة المقاتلة على الأرض، والّتي تقتل ذلك الشّوق وتحاصر ذلك الحلم.

الفنّانة بثينة أبو ملحم

وبقالب واقعيّ كذلك، يقدّم الفنّان أحمد كنعان لوحات تصوّر رجالًا ينامون في وديان وجبال فلسطين، ليعبّر عن حالة الشّقاء الّتي يعيشها العمّال الفلسطينيّون من مدن الضّفّة الغربيّة، والّذين يذهبون إلى العمل داخل الكيان الصّهيونيّ بهدف كسب العيش، فيضطّرّون إلى النّوم في الخلاء هربًا من ملاحقة وبطش قوّات الاحتلال. لقد استطاع الفنّان كنعان نقل الإحساس بحالة البؤس والشّقاء والمعاناة الّتي يعانيها هؤلاء الشّخوص، العمّال، في أجواء الشّمس الحارّة والبرد القارس، وفي ذات الوقت تُظهر لوحات الفنّان العلاقة الحميمة والخاصّة الّتي تربط بين الشّخوص والأرض، فهم أصحابها الحقيقيّون، إذ هم يلتحفون سماءها دون خوف أو شعور بالاعتداء على حقوق الآخرين.

ومن بين أعمال المعرض لوحة بحجم كبير للفنّانة ناتاشا المعاني، والّتي كرّست عمرها وإنتاجها الثّقافيّ للدّفاع عن عدالة القضيّة الفلسطينيّة، بل عن قضيّة الإنسان والهويّة ببعدها الكونيّ الأشمل، إذ يتجسّد إيمانها من خلال عملها 'مريم'، والّذي يتناول ثيمة الأرض هويّةً تجمع بني البشر، وفضاءً تذوب داخله الهويّات الفرعيّة والأعراق والطّوائف، فالأرض هي البيت الّذي يجمع الأعراق المختلفة من أبناء آدم الّذين يواجهون بضعفهم وعصبيّاتهم مصائرهم المضطّربة، ووجودهم المهدّد عليها، فالتّعصّب والانغلاق والانحياز لغير الهويّة الإنسانيّة هو الفناء ذاته.

الطّاقة التّعبيريّة للخامة

في ثلاث تجارب أخرى، نلحظ انحياز الفنّانين إلى الخامة ومحاولة استنطاق طاقتها التّعبيريّة وحضورها، فعلًا فكريًّا في نسيج العمل الفنّيّ. تقدّم الفنّانة رانية عقل ثلاثيّة 'عودة السّنونو'، وهي أعمال نُفِّذت بتقنيّة مختلطة من الحنّاء والقهوة والشّمع وقطع التّطريز وغيرها من الموادّ، لتجسّد من خلالها رؤيتها للأرض الّتي تحلّق في سمائها طيور السّنونو، مستعيرة ما يتّصف به هذا الطّائر من إخلاص وانتماء لعشّه الأوّل، فهو طائر يعلّم أبناءه العودة إلى البيت، العشّ الّذي وُلِدَ فيه، في إشارة إلى انتماء الفلسطينيّ لأرضه وإصراره على العودة إليها رغم المنافي والتّشرّد. أمّا الفنّانة بثينة أبو ملحم، فتستحضر الأرض من خلال توظيف موادّ التّراب والتّوابل والجصّ، لتشكّل تضاريسها بفعل جماليّ مشابه لجماليّات الأرض، تحقّقه عفويّة امتزاج تلك الخامات على أسطح الجصّ والخشب والورق. في حين يقدّم الفنّان أسامة سعيد في هذا المعرض، أربعة أعمال بأحجام مختلفة، يوظّف فيها خامة القير (الزّفتة) ومادّة جفت الزّيتون، لخلق أشكال عفويّة ومدروسة في ذات الوقت؛ يصوّر أحد الأعمال طفلة مقابل جنديّ يشهر سلاحه، ويصوّر آخر جنديًّا غارقًا في مادّة القير. تختزل تلك الأعمال بالخامات الّتي وظّفها الفنّان فيها دلالات تحيل إلى الثّقل والبشاعة والعبث والخراب الّذي تسبّبت به الآلة العسكريّة الحاضرة بثقل على أرض فلسطين وفي المنطقة العربيّة.

الفنّان أسامة سعيد

تتنوّع طرق التّعبير والأدوات والخامات في أعمال هذا المعرض، كما تتعدّد الرّؤى البصريّة وأساليب التّنفيذ، إلّا أنّ الأرض هي المحور وجوهر الفكرة الحاضرة والسّاكنة في وعي ووجدان الفنّان الفلسطينيّ، وهي تؤكّد استمراريّة اعتبار الأرض مسألة أساسيّة وموضوعًا متجدّدًا للبحث والتّعبير، وهاجسًا يُقلق الفنّان الفلسطينيّ، إذ هو يبحث في الأرض ليس لكونها مكانًا أو سببًا في الوجود فحسب، بل هي سبب في الصّراع وهي الغاية في ذات الوقت.  

الفنّان كريم أبو شقرة
الفنّان أحمد كنعان
الفنّانة رانية عقل
الفنّانة عاهد ازحيمان

* د. نصر الجوابرة: فنّان تشكيليّ وباحث في الفنّ الفلسطينيّ، ويعمل محاضرًا في قسم الفنون في جامعة بوليتكنك فلسطين.