فليكن صباحًا... ضفّاويًّا!

من فيلم «فليكن صباحًا»

 

يقدّم المخرج الإسرائيليّ عيران كوليران فيلمه الروائيّ الطويل «فليكن صباحًا» (2021)، معتمدًا على رواية للكاتب الفلسطينيّ سيّد قشّوع. أجزم أنّ الفيلم لم يرتقِ إلى ما يحمله نصّ الرواية، من متعة وعمق وسخرية، تجعل القارئ من فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 يتربّص لنفسه، ويسائلها عن هويّتها!

يحاول الفيلم – كما الرواية - أن يغوص بين طبقات هويّة الفلسطينيّين الحاملين لجنسيّة دولة بُنِيَت على أرضهم وأنقاض تاريخهم وذكرياتهم الجامعة، ويطرح تساؤلات محرجة حول انتمائهم عاطفيًّا، ومصالحهم اليوميّة!

على هيئة فيلم فلسطينيّ بشكله وأسلوبه وممثّليه، وحتّى هفواته وكليشيهاته، يأخذنا إلى حيّز للتعارف مع هويّة تشكّلت بفعل واقع سياسيّ، أفرز عددًا غير متناهٍ من التناقضات، لعلّ أبرزها المعاني المبطّنة للتعريف المُخْتَلَق لوصف جزء من الفلسطينيّين، وتمييزه عن الجزء الآخر «الضفّاويّة»، وما يصاحبه من ممارسات نفسيّة واجتماعيّة، وابتكار الفوقيّة.

 

نصف بيت

يجسّد سامي (أليكس بكري) نموذجًا لفلسطينيّ يعيش حياته بين الإسرائيليّين، ويحظى – نتيجة لذلك - بمكانة خاصّة في قريته، لكنّ سامي المتسلّح بمديره الضابط المتقاعد، سرعان ما يرتطم بجدار واقع يعكس مكانته الحقيقيّة بتخلّي مديره عنه، ودولة تفرض عليه حصار آليّات عسكريّة يحوّله وأبناء قريته إلى «مزرعة بشر» بلا قيود ولا ضوابط ولا أخلاقيّات، قطعان من الناس تعيش يومها بلا هدف، ينهش بعضها بعضًا، مدفوعين بالحاجة إلى البقاء، وبالرغبة في التسلّط والسيطرة، لكنّها سيطرة محاطة بإحكام بجدار وأسلاك شائكة.

لا يُخْتَتَم الفيلم بمشهد حاسم كما الرواية، ويترك لنا حرّيّة التأويل والتحليل، لكنّ النصّ الأصليّ كان واضحًا: نُقِلَت القرية إلى حدود «الدولة الفلسطينيّة» في الأراضي المحتلّة عام 1967؛ وبذلك أصبح سكّان المثلّث «ضفّاويّة»!

سامي، العائد من المدينة الإسرائيليّة إلى حضن الأهل قسرًا، بسبب حصار فُرِضَ على قريته، ومنعه الخروج منها بعد المشاركة في زفاف شقيقه؛ هي عودة إلى الأصل، وحوار مع الذات، وحالة صدام مع الهويّة والتجارب المغيّبة عن التذكّر، سامي كبيته في القرية، هيكل بلا كسوة، موظّف بلا عمود فقريّ، مهنيّ سرعان ما يُلْقى به إلى صفوف العاطلين من العمل.

يعود سامي ومعه زوجته وابنه إلى بيت ذويه، يتقاسم المساحة مع والديه وشقيقه المتزوّج الليلة الماضية، بيته الخاصّ لا يزال قيد الإنشاء، نصف بيت تمامًا كسامي! في لقائه مع بُناة بيته، ينطلق مصطلح «الضفّاويّ» ويأخذ بُعْدًا مهمًّا، ويفتح بابًا للنقاش حول المعاني الّتي تحملها التسمية، وحالة الحرص من جانب الفلسطينيّين حملة الجنسيّة الإسرائيليّة على التلويح بوهم علوّهم شأنًا مقابل «الضفّاويّين».

حالة من الحرج والذعر قد تصيب المتلقّي، عندما يسلّم حملة الهويّة الزرقاء أشقّاءهم حملة الهويّة الخضراء لسلطات الاحتلال. ولعلّ الرواية أبدعت في وصف التعرّي من الإنسانيّة والانتماء، مقابل الحصول على الماء والكهرباء وفتات الخدمات، ما لم نره في الفيلم من تبنّي سكّان القرية لممارسات الجيش والشرطة، وتطوّعهم للتنكيل بعمّال البناء الآتين من قلقيلية وطولكرم، لكن مشهد «لمّ الضفّاويّة» كان كفيلًا بوضعنا وجهًا لوجه أمام «الأهل والإخوة» الّذين يُسْتَغْنى عنهم في أوّل مواجهة.

لا يُخْتَتَم الفيلم بمشهد حاسم كما الرواية، ويترك لنا حرّيّة التأويل والتحليل، لكنّ النصّ الأصليّ كان واضحًا: نُقِلَت القرية إلى حدود «الدولة الفلسطينيّة» في الأراضي المحتلّة عام 1967؛ وبذلك أصبح سكّان المثلّث «ضفّاويّة»!

 

ليلة سقوط العريس

يُفتتح الفيلم بحفل زفاف عزيز (سامر بشارات)، الشقيق الأصغر لسامي. يجسّد عزيز فلسطينيًّا موظّفًا في شركة هواتف خلويّة، غير قادر على فعل شيء، كما يسمّى بالعبريّة «חסר אונים» (عاجز أو فاقد القدرات)، وإذا ما اتّخذت من صفته هذه سبيلًا حوّلت فيه الـ «אונים» (قدرات) إلى «און» (قدرة)، فهي إشارة إلى تأخّر ليلة دخلته. هذا الإنسان الّذي يقمعه فعل احتلاليّ مباغت، فيتركه عازفًا عن وحدته مع عروسه، يجلس إلى جانبها في غرفة العائلة، عابثًا بهاتفه الخلويّ – وهي كذلك، طفلان تزوّجا حديثًا، لا تفارق البلاهة أحاديثهما - هي عن موادّ التنظيف، وهو عن أحلام ورديّة. ربّما يُراد الإشارة بهما إلى المقموعين الناشئين الّذين تحوّلوا، بفعل عوامل كثيرة، إلى روبوتات بشريّة.

الربط بين الجنس والاحتلال العسكريّ أو الفكريّ أو القمع مألوف في الأفلام السياسيّة، تجسيد الشعور القاسي بفقدان القدرة الجنسيّة، ما دام الاحتلال جاثمًا يخنق الأنفس.

 

يأوي عزيز إلى حضن عروسه، بعد أن استجمع قواه، وألقى قنبلة يدويّة على سيّارة أحد رجال العصابات، وسط حالة الفوضى والخراب الّتي تعمّ القرية. يشعر عزيز بنشوة الانتصار؛ فتكون هذه فرصة مواتية ليعود إلى بيته شاهرًا مظاهر الرجولة، وكذلك سامي - الّذي كان يرافقه - يعود إلى حضن زوجته ميرا (جونا سليمان)، الّتي ابتعد عنها طويلًا مستكفيًا بصديقة فِراشه الإسرائيليّة؛ ابتعاد حرّر التمرّد في ميرا الّتي كانت تجتهد لمعاندة واقعها الزوجيّ والاجتماعيّ، ومحاصرة الخيانة الزوجيّة في نفسها.

الربط بين الجنس والاحتلال العسكريّ أو الفكريّ أو القمع مألوف في الأفلام السياسيّة، تجسيد الشعور القاسي بفقدان القدرة الجنسيّة، ما دام الاحتلال جاثمًا يخنق الأنفس.

 

المعربدون الجدد

مع الحصار العسكريّ الّذي تعيشه القرية، يخرج رجال العصابات إلى النور، لا يتوانون عن استغلال الفرصة لفرض سيطرتهم بصورة أكبر وأكثر فظاظة. يعيثون الفساد خلال تجوالهم بسيّارات رباعيّة الدفع، تنطلق من نوافذها أيادٍ تحمل السلاح. يرهبون الناس ويحرقون الممتلكات، وينكلون بالأضعف منهم قدرة بدنيّة أو اجتماعيّة، ينتهكون الأعراض متباهين، ويرفعون منسوب الذعر بين الناس أكثر من الدبّابات.

تمامًا كما تغذّي الشرطة الإسرائيليّة وأذرعها العصابات في ميادين القرى الفلسطينيّة، تغذّي الآليّات العسكريّة الّتي تؤطّر القرية هؤلاء، وتمنحهم صلاحيّات لم تُكْتَب في أيّ اتّفاق. جنود بلباس مدنيّ يضعون قوانينهم الخاصّة، ويطبّقون العقوبات الّتي يشاؤون دون أن يحاسبهم أحد، تمامًا كما نقرأ في نشرات الأخبار اليوميّة.

 

العربسرائيليّ

بإطار تنوّع طروحاته، سأترك العلاقات بالطرف الإسرائيليّ المتمثّل بجنود يطوّقون القرية، وأتمعّن في العلاقات الزوجيّة الفاترة، والحبّ الغائب، والنساء اللواتي يغالبهنّ قيد مجتمعيّ، يجعلهنّ أسيرات لأزواج لا يبادلوهنّ من الحبّ والرغب والشغف شيئًا. نساء يعبّرن عن ألم العلاقات التقنيّة بالرقص. مقابلهنّ رجال مرتهنون للوضع السياسيّ محلّيًّا وإسرائيليًّا، فإمّا المصالح والتعصّب العائليّ اللذان يفرزان صراعات الانتخابات المحلّيّة، وإمّا الصراع مع جنود مسلّحين؛ جنود من أبناء جلدتهم وآخرين بلباس عسكريّ. حربان يخرج الرجال العاديّون منهما خاسرين.

في المواجهة مع سكّان ما وراء جدار الفصل العنصريّ، يجد الرجل نفسه متفوّقًا، يرمي بثقل انقطاع الخدمات والتجويع والحدّ من حرّيّة الحركة، على أبناء شعبه الّذي تفصله عنهم جدران وهميّة وأخرى أسمنتيّة، لكن يبدو أنّ هذا الفصل يطيب له؛ لِما فيه من متعة آنيّة تهوي بالصراع القوميّ إلى مكان أدنى في سلّم الأولويّات.

 

التيه

نظرة متفحّصة لكلّ تفصيل ورد في هذا الفيلم، تشدّ المشاهد أكثر نحو التيه، نحو حالة ضبابيّة يعيشها يوميًّا، نحو صراعات لا تنتهي على جبهات متعدّدة، أزمة داخليّة غير محسومة بين مواطنته وهويّته القوميّة، بين مواطنته وفلسطينيّته وشعبه المشطور، وحالة الإلهاء الّتي غرستنا فيها دولة الاحتلال؛ إلهاء بالبقاء اليوميّ الضيّق الأفق، بحيث لا يترك مجالًا لتطوير قدرة تحرّريّة حقيقيّة.

نظرة متفحّصة لكلّ تفصيل ورد في هذا الفيلم، تشدّ المشاهد أكثر نحو التيه، نحو حالة ضبابيّة يعيشها يوميًّا، نحو صراعات لا تنتهي على جبهات متعدّدة، أزمة داخليّة غير محسومة بين مواطنته وهويّته القوميّة...

ليس صدفة أن يقدّم العملَ كاملًا ممثّلون فلسطينيّون، ثمّ يرفضون تصنيفهم تحت مظلّة إسرائيل رغم حملهم جنسيّتها؛ فهذا الفيلم تجسيد حقيقيّ لحالة الفلسطينيّين وواقعهم البائس، وهو مناسبة لطرح مطالبهم ورغبتهم في التمسّك بـ «نحن» الخاصّة بهم، وعلى الجانب الآخر مناقشة الذات بالسؤال حول الجولة والاستقلال المنشودين، أيريد الفلسطينيّ أن يعيش في حالة تكافؤ مع الآخر في دولة واحدة لكلّ مواطنيها، أم يريد لدولته أن تقوم على أراضي 67؟ وإذا ما خُيِّرَ الفلسطينيّون من أراضي 48، أيختارون البقاء تحت سيادة دولة اليهود أم هم «مستعدّون للتضحية» والتحوّل إلى «ضفّاويّة»!

 

 


سماح بصول

 

 

صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، والماجستير في ثقافة السينما، وتدرس حاليًّا الماجستير في الأدب العربيّ.