«الهرشة السابعة»... حبّ في جنّة الذكوريّة!

من مسلسل «الهرشة السابعة» (2023)

 

عادةً ما تنتهي المسلسلات الرومانسيّة بمشاهد حفل زفاف يَعِدُ بسعادة أبديّة، لكن ماذا لو استمرّ المسلسل إلى مرحلة ما بعد الزواج؟ هل سيبقى ساحرًا ومشهديًّا؟ هل النهاية السعيدة هي لحظة يمكن القبض عليها والعيش داخلها إلى المالانهاية؟ هذا ما يُجيبنا عنه مسلسل «الهرشة السابعة» (2023)، من من تأليف مريم نعوم وإخراج كريم الشناوي، الّذي يبدأ بكلمة ’تجوّزنا‘.

ندرك منذ البداية أنّ المسلسل يحمل سرديّة مختلفة؛ إذ يبدأ من النقطة الّتي ألفناها نهاية. كأنّه جزء ثانٍ لمسلسلٍ ما انتهى بزواج حبيبين، لكنّ الكاميرا لم تتوقّف عن التصوير، بل تمرّدت على السيناريو، وأخذت المُشاهد إلى الواقع بكلّ ما يحمل من تخمة، حيث الحياة الزوجيّة الأبعد من فكرة الاستيقاظ بجانب شخص تحبّه، بل موضعة هذه الفكرة داخل سياق اجتماعيّ واقتصاديّ، حيث لا يبقى الحبّ مفهومًا يوتوبيًّا متخيّلًا بل نقطة اشتباك مع العالم، بما يحمل من فجاجة؛ فالمسلسل يصوّر لنا كيف يكون الزواج في المساحات العائليّة والواجبات الاجتماعيّة، والمسؤوليّات المنزليّة. إضافة إلى كيف يتأثّر بالوضع المادّيّ، لا سيّما أنّه يصوّر لنا فترات معيّنة يمكنها أن تؤثّر في الروابط والعلاقات مثل شهر رمضان مثلًا، وفترة الحجر الصحّيّ أثناء انتشار «وباء الكورونا»، كما يتساءل حول الأدوار الجندريّة ومفهوم الأمومة.

في حين تسعى بعض الدراما العربيّة والتركيّة إلى خلق جماليّات مصبوغة بالوهم، حول فكرة الحبّ والزواج والتماهي مع الآخر، يحاول مسلسل «الهرشة السابعة» زعزعة هذه الجماليّات وتصوير الواقع، لكن يبقى السؤال: ما شكل هذا الواقع؟ ولمن هو متاح؟

 

الملل والعلاقات القابلة للإنهاء 

في البداية، نلاحظ أنّنا أمام أشخاص ينتمون إلى الطبقة الوسطى في مصر، ويعيشون نمط حياة يسمح لهم أن يكونوا مشتركين في نوادٍ رياضيّة، وقادرين على خوض تجربة العلاج النفسيّ، وعمل الممارسات اليوميّة الأخرى الّتي من ضمنها التساؤل حول مواقعهم في الحياة، وماذا يشعرون؛ لأنّ الأخير أيضًا امتياز طبقيّ في سياق الحديث عن الرأسمال الاجتماعيّ؛ فلا يمتلك الجميع رفاهيّة التساؤل حول السعادة، ومحاجّة مفهوم الملل والرتابة. وهو الأمر الّذي كان بارزًا في شخصيّات المسلسل الّذين كانوا مَلُولين في طبعهم، والملل سمة الإنسان ما بعد الحداثيّ، الّذي يبحث دائمًا عن شيء آخر وعن حياة أخرى؛ لذلك في المسلسل كان خيار الانفصال دائمًا مطروحًا بين الأزواج؛ لأنّ الانفصال برمّته كما يطرحه المسلسل انفتاح على فصل آخر، وانفكاك من الحاضر.

 

 

في نقاش حول كتابه «الحبّ السائل»، يقول زيغمونت باومان إنّ السبب في انتشار حالات الطلاق هو أنّ العلاقات تحمل منذ بدايتها هذا الخيار؛ الأمر الّذي يجعل العلاقة عبارة عن تجربة تحتمل الفشل أكثر منها محاولة جدّيّة للاستمرار والحفاظ على الروابط؛ فإذا كان خيار الانفصال سهلًا ومتاحًا ومطروحًا، فإنّ الخلافات الصغيرة تصبح علامات فارقة وجرس إنذار يهدّد استمراريّة العلاقة أو الرغبة في استمراريّتها. يناقش باومان في كتابه أيضًا النزعة الاستهلاكيّة الّتي تسرّبت من عالم استهلاك السلع لتطال علاقاتنا الإنسانيّة؛ إذ أصبحت فكرة العلاقة بالآخر بمنزلة شراء سلعة ما، نتخلّص منها في حال أصابها عطل بدلًا من أن نحاول إصلاحها.

في إحدى لقطات المسلسل، يجلس نادين وآدم - الشخصيّتان المركزيّتان في المسلسل - المتزوّجان منذ سبع سنوات، ويدور بينهما جدال يبيّن أنّ الطريق بينهما مسدودة، وأن ليس ثمّة تسوية أو طريقة لإصلاح علاقتهما، ومن ثَمّ تقترب عدسة الكاميرا من غسّالة الأواني الّتي في المطبخ؛ لنرى أنّه مكتوب عليها "صلاحيّتها تستمرّ لمدّة سبع سنوات"، وكأنّ هذه إشارة بأنّ علاقتهما انتهت صلاحيّتها مثل غسّالة الأواني تمامًا.

 

ثنائيّة النكَد والمرح الأنثويّ

لذلك؛ يمكن القول إنّ المسلسل لا يصوّر واقعًا مطلقًا بقدر ما يصوّر واقع فئة وطبقة معيّنة، لا يمكن تعميمه بالضرورة على الجميع، لكن بالرغم من أنّ الجوّ العامّ للمسلسل يقترب من نمط الحياة الليبراليّ، إلّا أنّه مُتخم بمشاهد تصوّر البنية الذكوريّة؛ فآدم زوج نادين، الشابّ الرياضيّ، الطموح، الاجتماعيّ الّذي رُبِّي على يد امرأة عصريّة، رأيناه يمنع نادين – زوجته - من العمل، ويحارب طموحها في التقدّم والتطوّر؛ إذ يأمرها بترك العمل والتفرّغ لمجالسة الأولاد والاعتناء بهم، محاولًا حصرها في دور الأمّ الّتي وظيفتها أن تُربّي وتدير شؤون المنزل، لكن بلا عنف مرئيّ وواضح. يبيّن هذا السلوك أنّ البنى الذكوريّة تُغيّر أدواتها تبعًا للجوّ السائد، لكنّها تبقى حاضرة في الصميم، فبدلًا من العنف المرئيّ مارَس آدم نوعًا من الابتزاز العاطفيّ تجاه نادين الأمّ، الّتي يجب أن تضع أولادها أولويّة.

تلك ليست الطريقة الضمنيّة الوحيدة الّتي تعبّر عن البنية النفسيّة الذكوريّة المتغلغلة في داخله؛ ففي أحد جدالاته مع نادين يقول لها بأنّها كثيرة الشكوى، فتردّ بأنّه لا يريد أن يسمعها ولا يريدها أن تتكلّم، وأنّه يرغب في العيش مع صنم. هنا يسلّط المسلسل الضوء على ظاهرة في غاية الأهمّيّة، تتجلّى في رغبة الرجل بإسكات المرأة، ولكن هذه المرّة ليس من خلال العنف الجسديّ، ولا حتّى اللفظيّ، بل باتّهامها بأنّها كثيرة الشكوى، أو كما نقولها في السياق الشعبيّ ’نكدة‘، لتصمت؛ فالصمت كما تعتقد النسويّات لطالما كان مقياسًا لجمال المرأة، ومحدّدًا لإعجاب الرجال بها ضمن السرديّة الذكوريّة.

 

 

لذلك؛ فإنّ ممارسة تكميم الأفواه تتضمّن اتّهام المرأة بأنّها ثقيلة وهستيريّة، أو بكلمات أخرى تسيطر عليها الهرمونات، وكأنّ ثمّة شيئًا يقول دائمًا: اصمتي كي تبقي خفيفة ’فرفوشة‘. فما زال الذكر يتعامل مع الأنثى بثنائيّة المرأة الصامتة أو الخفيفة، الّتي تضعها في قالب المرأة الصامتة الّذي نجده كثيرًا في الأدب والسينما، الّتي لا تشتكي، ولا تقول شيئًا ألبتّة، وكأنّها في حالة من الذهول الدائم والانفتاح على الفراغ، لنعلم في النهاية أنّها في حالة تشبه ’الصمت الهستيريّ‘، ذلك الّذي يأتي بعد التعرّض للكثير من الخذلان والصدمات، كما في رواية «الزوجة الصامتة» لهاريسون، الّتي تهتمّ الكاتبة خلالها بعرض مشكلات أحد أنماط الزواج الطويل، الّذي تسامح فيه الزوجة زوجها على خياناته، وتتجاهلها، ولا تقدّم ردود فعل وتحافظ بصورة عامّة على زواجها بعيدًا عن الانفعالات الحادّة، لتتمثّل أسطورة المرأة الصامتة. وأمّا المرأة الشديدة المرح، الّتي نراها في المسلسلات والأفلام الأمريكيّة تقفز من مكان إلى آخر مثل فراشة، فيراها البطل، ويقع في حبّها، وتملأ حياته بالسعادة.

 

السعادة بوصفها قيمة قمعيّة

ربّما المشكلة ليس في استدخال هذه الصورة عند الرجال فقط، بل في أن تتبنّاها النساء؛ لتفكّري في الكلمات الّتي ماتت في المسافة الفاصلة بين حنجرتك وشفتيكِ، وكيف تحوّلت هذه المسافة إلى مقبرة كبيرة من المشاعر؛ لأنّكِ تخافين أن يُقال ’نكدة‘. لكنّ نادين لم تنطلي عليها هذه الحيلة الذكوريّة ولم تتوقّف في التعبير عن آدميّتها ومشاعرها، ورفضت أن تكون ’شيئًا‘. فبالرغم أنّ المسلسل لم يذكر مباشرة أنّ نادين أصيبت باكتئاب ما بعد الولادة، لكنّه بيّن لنا أنّها كانت في حالة مزاجيّة سيّئة بعد ولادتها؛ إذ كانت تبكي طوال الوقت، وغير قادرة على استعادة ذاتها بعد أن وجدت نفسها أُمًّا لتوأم، وغير قادرة على إدارة أمور حياتها. في حين أنّ آدم بعد الطلاق، وقع في إعجاب زميلته في العمل، الّتي بدت امرأة مستقلّة وطموحة وخفيفة، ورأى أنّها تشبهه وتفهمه رغم أنّه حاول قتل استقلاليّة زوجته. وذلك يمكن أن يُشير إلى أنّ الطريق الّتي تقطعها المرأة من شعورها بالحرّيّة إلى الإحساس بالثقل، إنّما هي سيرورة نضاليّة بالنظر إلى جميع الأدوار الّتي أنيطت بها، في حين أنّ الاَخر - الرجل أو المجتمع أو البنى- متعلّق بفكرة الخفّة.

 

 

إنّ محاولات الإسكات بحجّة الحفاظ على جوّ سعيد، ومنع النكد أو تعكير صفو المزاج العامّ،  تكمن خلفها بنًى وأنظمة تحاول الحفاظ على استمراريّة هيمنتها؛ لأنّ هذا ’النكد‘ يحمل ملامح الاحتجاج، وبالتالي إمكانيّة الثورة والانقلاب على هذه البنى، سواء كانت بنًى استعماريّة أو بنًى ذكوريّة؛ فكلاهما يستخدمان ذات الحجّة في سبيل ترويض الطرف الآخر. في هذا الصدد، تُبرز لاله خليلي في مقالتها «The uses of happiness in Counterinsurgencies»، كيفيّة توظيف اللغة العاطفيّة في طمس علاقات القوّة بين الشعوب المستعمَرة والمستعمِرة، عن طريق إظهار رغبة المستعمِر في مصاحبة المستعمَر والتظاهر بفهمه. إذ تؤكّد أنّ هذه الرغبة ليست بريئة، إنّما هي سياسة تجعل من العاطفة ووعد السعادة، أداة لمكافحة التمرّد، وطريقة للتحكّم بالشعوب المستعمَرة وأفعالهم وردّات أفعالهم. فإذا أصبحوا أصدقاء مع المحتلّ، فهذا يعني أنّ الخيار قد وقع عليهم، وهم بالمقابل اختاروا أن يكونوا أشخاصًا متحضّرين وسعداء، أمّا مَنْ لم يخضع لهذا الخطاب فهو متجهّم، وبهذا تُفْرَض السعادة والحميميّة بالقوّة على السكّان غير المتعاونين. وأخيرًا، تجري شرعنة ومأسسة العاطفة أو عدمها في السياقات الإمبرياليّة، وتحويلها من ’شيء‘ ليس له قيمة إلى أحد الأسس القانونيّة الّتي تجرّم ’غياب العاطفة‘؛ إذ أصبح فرضًا على الشعوب الشعور بالولاء والحبّ إزاء الحكومة.

هكذا، تحيط بهذي الدوائر قوًى تحاول إسكات أيّ شخص يحاول التكلّم، بالإذلال، والتخويف أو الاتّهام بأنّه متجهّم، ويعكّر صفو المزاج العامّ؛ لهذا فإنّ المرأة لم تصل إلى هذه الحالة تلقائيًّا، وإنّما خلال عمليّة منظّمة وممنهجة تحيط بكيانها، تبدؤها الأسرة منذ الطفولة، من خلال الأدوار الّتي تُرْسَم لها، والحصار الفكريّ الّذي لا يسمح لها بالتفكير خارج إطارٍ معيّن.

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.