شادي زقطان: حتّى في روايتي، أنا لست بطلًا

شادي زقطان

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يُطلق الفنّان شادي زقطان ألبومه الرابع "بدون عنوان". هذه المرّة نسمع مساحات موسيقيّة جديدة في تجربته، تصدح بها آلات متعدّدة، تشاركه اللحن الّذي خرج في ألبوماته الأولى من فمه وجيتاره فحسب. نسمع موسيقًى رشيقة تهرول في منطقة البلوز، وأخرى ثقيلة تصرخ فيها الكهرباء في الجيتار. زقطان الّذي تشكّلت ملامح أغنيته من أشياء حياتنا اليوميّة، سواء السياسيّة أو العاطفيّة أو الوجوديّة، لا يتوقّف عن إغناء الأغنية العربيّة المعاصرة بنصّ منحوت، على خلاف الأغاني "الخفيفة" الرائجة؛ فأغنيته - وإن كانت لغتها يوميّة - تنقش في الواقع المعتم، وتلتفت إلى أشباح من زمن غائر تمشي معنا في الشوارع، وإلى حوريّة منزوعة من بحرها تجلس في مدينة صحراويّة. ثمّة صور ذات مخيّلة عالية لكنّها تتأتّى من الواقع أو الواقع غير الموجود؛ المسروق. وُلد شادي زقطان في عمّان، عاش في بيروت ودمشق وتونس، ثمّ في رام الله. رحلة توقّفت عند نشوء خيط يشنقه إلى مكانه الحاليّ، وها هي تستأنف نفسها في الموسيقى الّتي تبدو صادرة من أماكن أخرى بعيدة.

حول ألبومه الأخير ومجمل تجربته الإبداعيّة، كان هذا الحوار مع شادي في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة.

 

فُسْحَة: على الرغم من الاختلاف الّذي قد نلحظه في نصّ الأغنية بين الألبومات الأولى واللاحقة، إلّا أنّها في الغالب تظلّ أغنية سياسيّة؛ هل تراها كذلك؟ وما الّذي تحوّل فيها؟

شادي: أعتقد أنّ الأغنية لم تتغيّر، ولم يتغيّر ما بودّي قوله، إنّما الشيء الوحيد الّذي يتحوّل هو أنا. ربّما كنت أغنّي من الشارع، والآن أظنّني أغنّي من مقهًى ما يطلّ على الشارع، على مظاهرة ما، كان الأمر أشبه بهتاف ثمّ صار كتابة. من هذا المكان لا أقوم باختيار مسبَق للموضوعات، بل أتأثّر بشكل طبيعيّ منها وأكتبها؛ قد نسمّيه نضوجًا، رغم أنّي لا أدّعي النضوج، لكن دعينا نطلقه صفةً على التجربة الفنّيّة العمليّة، الّتي أقول فيها ما أحبّ وليس ما يتوجّب عليّ قوله. حاولت زيارة مناطق أخرى، فقدّمت أغاني بوب عاطفيّة، لكن سرعان ما تبيّن أنّها ليست مناطقي.

 

 

فُسْحَة: ومتى تشعر بحاجة كتّاب آخرين إلى أغانيك، فقد لحّنت للصغيّر ولاد أحمد، وغسّان زقطان، وزياد خدّاش، وفارس سباعنة، وغيرهم؟

شادي: أكون تأثّرت بالنصّ حتّى رغبت في غنائه. ثمّة نصوص تشعرين كأنّها تلحّن نفسها، ترقص على مسمعك؛ هي نصوص مختلفة، تشعِرني بالغيرة لأنّها ليست لي، فألحّنها!

 

فُسْحَة: استمعنا في الألبومين الأوّلَين إلى تركيبة موسيقيّة بسيطة؛ صوتك وجيتارك وجيتار رفيقك عماد الصيرفي؛ كيف تنظر إلى تلك التجربة؟ وكيف اختلفت حين بدأت العمل مع مجموعة كبيرة من الموسيقيّين؟   

شادي: اعتبرنا نفسينا أنا وعماد آنذاك هاويَين؛ لم ننظر إلينا موسيقيَّين محترفَين. أعتقد أنّي خلال الفترة اللاحقة، بنيت علاقتي الخاصّة بالعزف والتلحين، وهذا منحني ثقة كافية للعمل مع مجموعة من الموسيقيّين. ثمّة كثير من الموسيقيّين يعجبني عزفهم، تصير الأغاني حينذاك طريقة لإنشاء رابط معهم. لعلّه تطوّر طبيعيّ حلّ على ثقتي باللحن؛ وهو ما يتيح المجال لإضافة موسيقيّين آخرين. في البدايات، اعتمدت على مخيّلة المستمع لحظةَ تلقّيه الموسيقى، اليوم، أعتمد على مخيّلتي الخاصّة من خلال الاستمتاع بالموسيقى الّتي تزيّن العمل حين تشارك فيها مجموعة من الموسيقيّين.

 

فُسْحَة: كيف تنظر إلى التجارب الأولى من موقعك الآن؟

شادي: لا شكّ في أنّني أنتقد نفسي، لكنّي أفكّر كم كنت شجاعًا! يبدو أنّني آمنت بمشروعي وبالموسيقى الّتي أنتجتها، وبالأدوات الّتي أتيحت لي، وبالناس الّذين أحاطوني وفهموا شيئًا من هذا المشروع. أعتبرها مرحلة ولّت لكنّها موجودة هناك، تمامًا كما تفعل العلاقات القديمة.

 

فُسْحَة: نسمع في الألبوم الجديد "روك" و"ريغي" وأنماطًا موسيقيّة أخرى متمايزة؛ أكان ذلك متعمَّدًا أم سليقيًّا؟

شادي: كان ذلك متعمَّدًا. ربّما راحت الأغاني الأولى الفرديّة، سليقيًّا، في اتّجاه موسيقاها، بينما تعمّدت تجريب هذه الموسيقى، مع مجموعة من الموسيقيّين الّذين أضافوا إلى الموسيقى أكثر ممّا كان متوقّعًا، لكنّ هويّة الأغنية ظلّت واضحة، تشبه إفلات قطيع من الخيول في اتّجاه معيّن، ستنحرف إلى هنا أو هناك، إلّا أنّها تحافظ على اتّجاهها. في الماضي خدعت زميلي عماد، والآن خدعت أشخاصًا جددًا ليعزفوا معي. لديّ "بار" في رام الله، تمكّنت من خداعهم فيه (يقولها ضاحكًا).

 

 

فُسْحَة: هل بإمكانك تقفّي أثر الموسيقى والنصّ عندك؟ والمنابع الّتي شكّلت نشأتهما ثمّ تطوّرهما؟ وما حصّة جدّك خليل زقطان وأبيك غسّان فيهما؟

شادي: جدّي لأبي كان شاعرًا، طيفه لا يزال طاغيًا. جدّتي لأمّي كانت كاتبة. أبي شاعر، وعمّي موسيقيّ ومقاتل كان له الأثر الكبير فيّ، أخذته الحرب، ولمّا عاد منها لم يعد كما ذهب إليها، وهو مَنْ أعطاني الجيتار الأوّل. ربّما تأثّرت بأشخاص كثيرين، لكن أولئك كانوا حجارة الزاوية. أذكر أيضًا الفنّان سميح شقير، الّذي كان يزورنا في سوريا وتونس، كان كلّما زارنا أعطيناه غرفتي؛ كان ذلك كابوسًا بالنسبة إليّ، سرعان ما ينتهي عندما يبدأ بالعزف، فأسامحه.

 

فُسْحَة: كيف أثّر فيك جدّك الّذي بالكاد تذكره؟

شادي: عبر الناس الّذين عرفوه. كنت حين أُسأل من أين أنا، وأجيب: "من زكريّا"، أُسأل فورًا إن كان خليل زقطان قريبي. عرفت من خلالهم كم كان شاعرًا عظيمًا، أينما ذهبت يسبقني. أمّا غسّان فأينما أفكّر يسبقني.

 

فُسْحَة: ثمّة رباط وثيق ومرئيّ في أغنيتك، بينك وبين مكانك...

شادي: لأنّي كنت محرومًا منه وقتًا طويلًا، مجرّد عودتي إليه ملأ فراغًا كبيرًا. وجودي خارج فلسطين ولّد حنينًا هائلًا للعودة، عدت وأخذ الحنين يستمرّ، لكن على الأقلّ صار لديّ مكان يمكنني احتضانه؛ مدينة أحبّها وأكرهها، أعطيها وتعطينا في المقابل، وجدت ما يمكن أن يكون أقرب إلى "البيت".

 

فُسْحَة: ألم تخنقك رام الله؟

شادي: بلى، كانت تخنقني وتفتح العالم أمامي، في آن معًا. علاقتي بها مخبولة، سايكو؛ هي سايكو، أنا سايكو. أتعامل معها على أنّها شخص، تثير زعلي أحيانًا، وتُضحكني أحيانًا أخرى.

 

فُسْحَة: كيف يدعمك أو يثريك هذا الرابط فنّيًّا؟ ألا تشعر بفقره؟

شادي: عليك أن تخلق منبرك بنفسك. معي جيتار في مدينة بنادق! عليك أن تكون عنيدًا وألّا تستسلم؛ لأنّ الاستسلام لن يمنحك شيئًا في هذه المدينة. وجدت الإنترنت، فتحت "بارًا" أعزف فيه أنا وأشباهي الموسيقيّون العُنُد، الّذين لا يعرفون فعل شيء آخر. هذه مدينة لا تزال تبحث عن استقلالها، تبحث عن مكانها. إذن، الجميع يبحثون مثلها؛ وهذا ما توفّره هذه المدينة الصغيرة جدًّا... هذه البلدة.

 

 

فُسْحَة: نتحدّث عن هذا الرابط، بعد أن تنقّلْتَ سنوات طويلة في عواصم عربيّة كثيرة؛ ماذا أحْدَثَ هذا التنقّل؟

شادي: لقد كسّر فكرة المكان، أو فكرة المكان الواحد. ربّما لو خُيّرت لاخترت أن أعيش قرب البحر، لكن بما أنّه لن يختار أحد أن يعيش في رام الله، فسأعيش أنا فيها، على الأقلّ! يتعلّق ذلك برغبة الإنسان في المقاومة. لا أرى نفسي أرحل صوب العالم الوسيع وأترك مكاني، أو ما تبقّى منه؛ هذه الـ 10% من جماله وروحه. لا أريد أن أشكّل ردّ فعل على العالم، بل أريد أن أكون فعلًا.

 

فُسْحَة: كثيرون عرفوك من خلال أغنية "11 ألف محلّ فاضي"، الّتي غنّيتها للأسرى في الألبوم الأوّل. ها أنت تغنّي مرّة أخرى لهم في هذا الألبوم.

شادي: نحن تغيّرنا كثيرًا، العالم تغيّر من حولنا، تتغيّر الأسئلة والإجابات أيضًا في المقابلات الصحافيّة، والأغاني. لكن ثمّة مَنْ يزالون هناك في مكانهم، مثل جدّات. العالم كلّه يمرّ بأزمة عالميّة مثل الكورونا، بينما هم في انتظار رحمة السجّان، هم دائمًا في البال. لكن أغنية "الليل" ليست للأسرى فقط، إنّما لكلّ فلسطينيّ؛ فهو أسير خارج الأسر، أسير السياسة والاقتصاد... إلخ.

 

فُسْحَة: هذا ما ألحظه في أغنيتك؛ فالسجن خارج السجن أيضًا، قصصه مكسورة، معتم، خيوله تائهة؛ أتستسلم لهذا السواد أم تحاول تحييده؟

شادي: أنا لا أريد أن "أُمَكْيِج" هذا السواد؛ ثمّة أغانٍ سعيدة في العالم، حتّى عند الفلسطينيّين. أغنية "أنا دمّي فلسطيني" مثلًا! أنا لست بطلًا في أيّ رواية، حتّى في روايتي أنا لست بطلًا، أنا مغلوب على أمري. ربّما حين نكون أحرارًا، سنتذكّر كم كان ذلك أسود، وكم كان ذلك الحزن جزءًا من سعادة ما!

 

فُسْحَة: كذلك هي أغانيك؛ تذكّر بالتراث الموسيقيّ لبعض الشعوب، حزينة وتُرَقِّص...

شادي: تمامًا. نحن، شئنا أو أبينا، من بين حضارات تتعرّض للإبادة الثقافيّة والجسديّة الفعليّة، معرَّضون للموت، نحن "مساكين نضحك من البلوة"، ونرقص هربًا من الظلام، ونتعلّق - بنفس القدر - بالأمل؛ أقول هذا كي لا أكون سوداويًّا إلى هذا الحدّ.

 

فُسْحَة: ذلك يثير السؤال حول تفاعل الجمهور غير العربيّ مع أغنيتك، الّتي يشكّل النصّ وزنًا كبيرًا فيها.

شادي: ثمّة أغانٍ تصلك وتؤثّر فيك على الرغم من أنّك لا تفهم لغتها، تستطيع أن تركّب على لحنها ما تشاء. أعتقد أنّ فنًّا كهذا يخرج من القلب، من الروح، تصبح لغته ثانويّة. دُهشت كيف عبّر الجمهور عن إيثاره لأغنية أكثر من غيرها. أجلس وأنحت في نصوص الأغنية كي تكون كاملة، بينما يتلقّاها أشخاص دون أن يفهموها، يحبّونها ولاحقًا يطلبون ترجمتها.

 

 

فُسْحَة: ما زلت تُنتج الموسيقى دون منتج، أنت منتج نفسك؛ كيف تجد ذلك؟

شادي: أتمنّى لو كان ثمّة منتج، لكنّي لا أصنع الموسيقى التجاريّة الّتي ستهرول إلى السوق. أنا محظوظ لأنّ مشروعي تلقّى دعمًا من مؤسّسات مثل "القطّان" و"آفاق". حاولت سابقًا أن أجري تغييرًا على هويّة الأغاني؛ أجعلها ربّما أقرب إلى الذائقة العامّة، وأعتقد، أو هكذا أحبّ أن أعتقد، أنّ ثمّة أغانيَ تنجح في عبور الفئات السنّيّة، وتمسّ أجيالًا مختلفة في فلسطين، تجمعها قضيّة مشتركة وموضوعات مشتركة.

 

فُسْحَة: ما رأيك في ما يُنتَج فلسطينيًّا؟ وفي أنّ "الراب"، وإن جاء من الهامش، يجلس في المركز شيئًا فشيئًا؟

شادي: ثمّة ألبوم يناسب السيّارة، وآخر يناسب البيت، وتتوافر أغانٍ تتبدّل مع الزمن وأخرى تظلّ ثابتة في مكان ما. أنا أتابع الجديد، لكنّي ألحظ وجود موسيقًى تدخل إلى عالمي وتظلّ فيه؛ صابرين وريم بنّا على سبيل المثال، وهي موسيقًى لا تنشغل بالشأن اليوميّ. أحاول أن أجد في الأغنية الّتي أصنعها المكان الوسط، أغانيَ شبه يوميّة، وليست أسطوريّة. الموسيقى الشبابيّة الفلسطينيّة تُجَرَّب في مناطق بعيدة، وأعتبر "الراب" ظاهرة لا فنًّا فحسب؛ فهو أداة تعبير ونشر أفكار ومقاومة، وحتّى في المجتمعات الّتي لا تعيش تحت احتلال، يجد فيها مكانًا؛ إذ كلّ مجتمع يعيش "احتلالات" أخرى مركّبة.

 

فُسْحَة: هل تُمَوْضِع نفسك بين ما يُنْتَج عربيًّا؟ وكيف تنظر إلى الأغنية العربيّة؟

شادي: نحن الفلسطينيّين موجودون عربيًّا. ثمّة موسيقًى جميلة جدًّا تنشأ في الوطن العربيّ وفي فلسطين أيضًا. أحاول أن أكون موجودًا أنا أيضًا، في منطقتي على الأقلّ.

 

فُسْحَة: ما شكل المطامع الّتي تحبّ أن تصل إليها أنت الموسيقيّ؟

شادي: أحبّ أن أكون قادرًا على التفرّغ تمامًا للموسيقى والكتابة والقراءة والغناء، بلا تفكير في تكاليف الأستوديو أو العمل الّذي عليّ ممارسته كي أعيش؛ هذا سيتيح لي أن أُنتج أكثر وبسرعة أكبر.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.