خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة
تُعَدّ السياسة الإسرائيليّة في المسجد الأقصى المبارك من أقوى النماذج الحيّة على طبيعة الاستعمار، باعتباره مشروع نظام فصل عنصريّ يحاول إزالة كلّ ما ليس له علاقة بالوجود اليهوديّ في القدس. والاستعمار لا يخجل من هذه العمليّة؛ لأنّه ببساطة يعرِّف نفسه حسب القانون بأنّه «دولة اليهود»، ومن ثَمّ فإنّ شرعنة الفصل العنصريّ وتدمير ما له علاقة بالمقدّسات لأبناء الديانات الأخرى – ولا سيّما الإسلاميّة – تُعَدّ في صلب عمل المؤسّسة الرسميّة الإسرائيليّة.
سيطرة بالتدريج
يصعب في الحقيقة تحديد الفترة الزمنيّة الّتي بلورت فيها دولة الاستعمار فكرة تقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود؛ إذ إنّ ادّعاء أنّ فكرة تقسيم المسجد لم تكن موجودة عند احتلال عام 1967، قد تخالف الوقائع الّتي جرت في ذلك الوقت في المسجد الإبراهيميّ في الخليل، الّذي يمكن القول إنّ محاولات فرض الاستعمار نفسه شريكًا في إدارته، سعيًا إلى تقسيمه والسيطرة عليه لاحقًا، بدأت مع احتلال عام 1967. ومن ثَمّ فإنّ من الممكن أن تكون هذه الفكرة قد تبلورت مع بداية احتلال المسجد الأقصى عام 1967، خاصّة بعد أن ظهر منذ الأسبوع الأول لاحتلاله، أنّ موضوع التعامل مع المسجد الأقصى، يُعَدّ مسألة في غاية الحساسيّة، يمكن أن تشعل المنطقة بالكامل.
كان عام 1996 من المحطّات الرئيسيّة لهذا الخلاف، حين أصدرت «لجنة حاخامات Yesha»، الممثّلين لمستوطنات الضفّة الغربيّة وغزّة فتوى، تسمح لليهود بدخول المسجد الأقصى وتشجّعهم عليه...
وتصاعد هذا التخوّف الإسرائيليّ من تبعات الإقدام على أيّ إجراء من شأنه تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، مع تزايد الأمور وتصاعد الأحداث، خاصّة مع الاعتداءات المتكرّرة وردّات الفعل الشعبيّة العنيفة عليها، كما كان الأمر في إحراق المسجد عام 1969، واعتداء ألان غودمان عام 1982، ومجزرة الأقصى الأولى عام 1990، والثانية عام 1996، والثالثة عام 2000، الّتي اندلعت في إثرها انتفاضة القدس والأقصى. وتبيّن لسلطات الاستعمار من خلال كلّ هذه المحطّات أنّ التعامل مع المسجد الأقصى لن يمرّ بسهولة، ولذلك فإنّ سياسة التدرّج في تقسيم المسجد حكمت إجراءاته في تلك الفترة، حتّى وقتنا الحاليّ.
خلاف داخليّ
هذه الأحداث والإجراءات تأتي في الحقيقة ضمن خلاف داخليّ إسرائيليّ، في ما يتعلّق بالسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى؛ إذ لا تزال الحاخاميّة الرسميّة لدولة الاستعمار تصرّ على فتواها بمنع دخول اليهود إلى المسجد بالكامل، بحجّة قدسيّة المكان الشديدة، وعدم تمتّع اليهود اليوم بالطهارة اللازمة دينيًّا للسماح لهم بدخول هذا المكان.
إلّا أنّ تيّار المستوطنين المتطرّفين يرفض هذه الفتوى، وكان عام 1996 من المحطّات الرئيسيّة لهذا الخلاف، حين أصدرت «لجنة حاخامات Yesha»، الممثّلين لمستوطنات الضفّة الغربيّة وغزّة فتوى، تسمح لليهود بدخول المسجد الأقصى وتشجّعهم عليه، وكان من بين هؤلاء الحاخامات الّذين أصدروا هذه الفتوى الحاخام المثير للجدل يهودا غليك، الّذي يُعَدّ اليوم حقًّا عرّاب فكرة اقتحام المسجد الأقصى وإقامة الشعائر اليهوديّة فيه، سعيًا إلى إجبار الحكومة الإسرائيليّة على الإسراع في تقسيم المسجد بين المسلمين واليهود. وهذا ما تقوم به دولة الاستعمار اليوم، بعد أن تمكّنت «جماعات المعبد» المتطرّفة – الّتي يُعَدّ غليك أحد عرّابيها – من السيطرة على مقاعد لا بأس بها في الكنيست الإسرائيليّ، بل السيطرة على بعض المقاعد في الحكومة الإسرائيليّة، أخطرها «وزارة الأمن الداخليّ»، الّتي عمل من خلالها الوزير السابق جلعاد أردان على تغيير عقيدة الشرطة الإسرائيليّة في المسجد الأقصى، من منع المتطرّفين من توتير الأوضاع إلى حمايتهم أثناء توتير الأوضاع، ومنع المسلمين من الوقوف في وجوههم.
ويمكن هنا بسهولة متابعة الاستغلال السياسيّ من دولة الاستعمار للأفكار الدينيّة اليهوديّة، الّتي تروّج لها هذه الجماعات المتطرّفة في حقّ المسجد الأقصى، وذلك لضمان بقاء ولاء هذه الجماعات المتطرّفة الّذين باتوا يمثّلون قوّة لا يستهان بها...
ويمكن هنا بسهولة متابعة الاستغلال السياسيّ من دولة الاستعمار للأفكار الدينيّة اليهوديّة، الّتي تروّج لها هذه الجماعات المتطرّفة في حقّ المسجد الأقصى، وذلك لضمان بقاء ولاء هذه الجماعات المتطرّفة الّذين باتوا يمثّلون قوّة لا يستهان بها، مع ميل المجتمع الإسرائيليّ المتزايد إلى اليمين.
وهم في ذلك يواجهون قضيّة كبيرة يصعب عليهم تجاوزها؛ إذ إنّ الارتباط الدينيّ والثقافيّ العربيّ الإسلاميّ بالمسجد الأقصى، يُعَدّ أوضح من أن يبحث أحد عن استدلالات له، وهذا ما لا يتوفّر للطرف الإسرائيليّ فعليًّا؛ فالخلاف الداخليّ يحيط بكلّ ما يتعلّق بالمسجد، في الحالة اليهوديّة التاريخيّة والدينيّة والثقافيّة والعلمائيّة.
توفيق بين الرؤى المتضاربة
يصل الخلاف في الحالة اليهوديّة إلى أصل قدسيّة منطقة المسجد الأقصى، حيث ترى بعض الطوائف أنّ مكان المعبد اليهوديّ القديم المذكور في النصوص اليهوديّة المقدّسة ليس في القدس أصلًا، وبعضهم يراه في مناطق أخرى بعيدة عن المسجد الأقصى اليوم، والسبب في ذلك ببساطة غياب أيّ دليل مادّيّ على موقع المقدّس اليهوديّ في القدس، وفي فلسطين بعامّة؛ وهو ما جعل هذه القضيّة غير محلّ إجماع لدى مجتمع المستعمرين، وأضعف حجّته في هذه البقعة؛ ما جعل الاستعمار يحاول التقريب بين رؤيته الخاصّة بتهويد القدس عامّة، وشعوره الداخليّ بأنّ مشروعه في القدس غير أصيل ثقافيًّا وتاريخيًّا.
يرى الاستعمار اليوم أنّ تطبيق فكرة تقسيم المسجد بين المسلمين واليهود، أي اقتطاع جزء من الأقصى لصالح الجماعات اليهوديّة، يمكن أن يوصل إلى التوفيق بين الرؤى المتضاربة...
وبذلك يرى الاستعمار اليوم أنّ تطبيق فكرة تقسيم المسجد بين المسلمين واليهود، أي اقتطاع جزء من الأقصى لصالح الجماعات اليهوديّة، يمكن أن يوصل إلى التوفيق بين الرؤى المتضاربة، ما له أن يعطي المشروع اليمينيّ المتطرّف الّذي يدعم الحكومة الإسرائيليّة مساحة لينمو ويكبر، لعلّه مستقبلًا يتمكّن من فرض رؤيته على جميع الأطراف المخالفة لهذه الرؤية – سواء داخليًّا أو خارجيًّا – وهذا ما يفسّر السعي الإسرائيليّ الحاليّ المحموم إلى فرض التقسيم المكانيّ بالكامل في المسجد الأقصىى.
لكنّنا نقول هنا إنّ المُعَوَّل عليه في هذه العمليّة يقظة أبناء شعبنا وأمّتنا، وانتباههم لخطورة هذه الخطوات وأبعادها، الّتي لن تنتهي بالتأكيد باقتطاع جزء من الأقصى لصالح الجماعات اليهوديّة المتطرّفة... بل تلك ستكون البداية!
* تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «العاصمة»، الّذي تخصّصه فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لتسليط الضوء على الفعل الثقافيّ في مدينة القدس، والمتعلّق بها، وذلك بالتزامن مع الذكرى العشرين «لانتفاضة القدس والأقصى»، وفي ظلّ السياسات الحثيثة والمتزايدة لنزع فلسطينيّة وعروبة المدينة.
باحث متخصّص في علوم القدس والمسجد الأقصى، يعمل حاليًّا مدرّسًا في «جامعة إسطنبول 29 مايو» في تركيا، حاصل على الدكتوراه في علوم بيت المقدس من «جامعة أبردين» في بريطانيا.