"هنا الوردة": سرديّة التغيير الممكن

غلاف رواية "هنا الوردة" لأمجد ناصر

 

النصّ السرديّ له نصيب من صفات كاتبه؛ هذا ما يمكن أن يتوصّل إليه أيّ قارئ، ما إن تقع عيناه على الصفحات الأولى من رواية "هنا الوردة" لأمجد ناصر؛ فالمتأمّل في نصّ الرواية الصادرة عن "دار الآداب" عام 2016، يجده نصًّا روائيًّا ممتلئًا بالإيقاع مُعبَّأً بالوزن، يأتي بما يدلّل على صفة صاحبه الشعريّة/ الشاعريّة، الّتي تسكنه ويظهر أثرها واضحًا في كلّ موضع من مواضع النصّ.

ويمكن الجزم بأنّ ناصر لم يحتج إلى الاستماع لنصيحة بودلير حتّى يمتثل لها؛ فهو لم يحتج إلى نصيحة يُقال له فيها "كن دائمًا شاعرًا حتّى في النثر"؛ لأنّ امتثاله لهذه النصيحة في أعماله - وفي مقدّمتها رواية "هنا الوردة" - يأتي عفويًّا نابعًا من صفته شاعرًا، قبل كلّ شيء.

 

الحياة تصرخ

ورواية "هنا الوردة" تأتي في عنوانها محمَّلة بمضامين رمزيّة، تدعو إلى الاستجابة إلى الحياة في صرخاتها الآنيّة وتطويع ممكناتها، من أجل إحداث تغيير ينسجم مع واقعها الحاليّ القائم آنيًّا؛ فعبارة "هنا الوردة" الّتي تكوّن منها عنوان الرواية، عبارة وردت في كتاب "الثامن عشر من بروميير" لكارل ماركس، حيث وردت في الكتاب بشكل حرفيّ على النحو الآتي: "هنا الوردة فلنرقص هنا".

هنا الوردة" تأتي عبارةً منسجمة كلّيًّا مع أحوال بطل الرواية، المتمرّد على كلّ أشكال السلطة الأبويّة، سواء أعائليّة كانت أم اجتماعيّة أم سياسيّة؛ فـ "يونس"، بطل الرواية وشخصيّتها الرئيسيّة شاعر يساريّ، عاشق، متمرّد

وناصر حمل هذه العبارة، وجعل منها عنوانًا لروايته، وذلك بما يتناسب وسياق التفاعلات الحياتيّة الّتي ترد في الرواية، كمن يصرخ بأن "لا عودة للماضي"؛ إذ يقول ناصر تعقيبًا على عنوان روايته المستلهَمة من عبارة ماركس السابقة: "وجدت في هذه المقولة شيئًا شعريًّا وحُلميًّا في آن: فالحياة هي نفسها الّتي تصرخ، أمام الوضع الّذي يخرج، أو يتخلّق من رحم المراوحة والتكرار قائلة: هنا الوردة".

أجل... إنّ "هنا الوردة" تأتي عبارةً منسجمة كلّيًّا مع أحوال بطل الرواية، المتمرّد على كلّ أشكال السلطة الأبويّة، سواء أعائليّة كانت أم اجتماعيّة أم سياسيّة؛ فـ "يونس"، بطل الرواية وشخصيّتها الرئيسيّة شاعر يساريّ، عاشق، متمرّد، تصفه صفحات الرواية بقولها: "هذا اليونس العاصي، المتمرّد، المؤمن بالجدليّة المادّيّة وتعميد المجتمعات الهاجعة في قيلولة الطغاة الطويلة بالنار، هو نفسه الّذي يركع على قدميه، ويقول لرلى أحبّك حتّى العبادة، أعبدك".

 

مهمّات البطل

تبدأ الرواية بالحديث عن يونس، هذا الشابّ العشرينيّ، الّذي يُلقَّب بـ "الخطّاط يونس"، نسبة إلى حِرفة الخطّ العربيّ الّتي ورثها عن أبيه وأجداده، من دون أن يكون مولعًا بها أو يمارسها حقًّا في حياته العمليّة. وتستهلّ الرواية أحداثها بتصوير مشهديّة يونس وهو يجلس في فندق، في مدينة سافر إليها تُدعى "مدينة السندباد"، حيث يُجري اتّصالًا هاتفيًّا مع أحد أعضاء التنظيم اليساريّ السرّيّ، الّذي ينتمي إليه، سائلًا عن موعد قدوم أحد رفاقه في التنظيم، المسؤول عن إيصاله إلى مقرّ التنظيم في المدينة، حيث سيتوجّب عليه تسليم الرسالة الّتي هرّبها في كعب حذائه، إلى قيادات التنظيم الموجودة في تلك المدينة، ثمّ استلام رسالة أخرى، يكون لزامًا عليه حملها والعودة بها، وتسليمها إلى فرع التنظيم الموجود في بلده.

وتستكمل الرواية أحداثها بالحديث عن المهمّة الجديدة الّتي كُلِّف يونس بها، بعد أن تمكّن من إتمام مهمّته الأولى بالعودة بالرسالة، وتسليمها إلى فرع تنظيمه في بلده، "الحامية"؛ إذ تورد الرواية أنّ يونس اختارته قيادات التنظيم لتنفيذ مهمّة اغتيال "الحفيد"، حاكم الحامية، بإطلاق الرصاص عليه في أحد الاحتفالات العامّة الّتي جُعِلت لتكريمه.

ولا تخلو رواية "هنا الوردة" من بعض التأمّلات الفلسفيّة، الّتي تُظهر تأثّر كاتبها بأفكار فلاسفة وجوديّين مثل سارتر؛ فسارتر بصفته أحد أبرز - بل عتاة - المبشّرين بالفلسفة الوجوديّة، يخاطب في الإنسان أسمى ما فيه، وعيه الإنسانيّ وحسّه بمسؤوليّته

ويتولّى يونس مهمّة إرشاد اثنين من رفاقه وشركائه في العمليّة، إلى أقرب مكان يمكنهما من خلاله تنفيذ عمليّة الاغتيال بنجاح، ولكن تفشل عمليّة الاغتيال ويُعتقل أحد منفّذيها، ويُصاب الآخر فيُنقل إلى المستشفى، أمّا يونس فينجح في الفرار، ويقرّر التنظيم – قبل أن تُكتشف هويّته - تهريبه إلى خارج حدود الحامية، حيث يظهر في نهاية الرواية موجودًا في داخل عربة المهرّبين داخل حدود بلده، ويستعدّ للنزول منها للالتحاق بعربة المهرّبين عبر حدود البلد الأخرى.

 

ثمّة مَنْ يراقب بلا كلل نموّ الكلمات

ويأتي اسم البلد الّذي ينحدر منه يونس، الحامية، محمَّلًا بالإسقاطات المختلفة عن طبيعته الشموليّة، وطبيعة نظامه الشموليّ الّذي يحكمه بزعامة الحفيد؛ ففي الحامية كما وصفتها صفحات الرواية "تتربّى الكلمات في حاضنات مجهّزة لها تحديدًا: البيت، والمدرسة، والشارع، والكتاب، والجريدة، ومكان العمل. ثمّة مَنْ يراقب بلا كلل نموّ الكلمات، والأشكال الّتي تتّخذها، والمناحي الّتي تذهب فيها، فما يشذّ الإجماع، ما يتنافر مع الناطقين بها، باسمها يحيّد ويُعزل كما تُعزل الأمراض المُعدية". وهو ما يدلّل على سياسات القمع وتكميم الأفواه، الّتي كانت تمارَس في الحامية، حيث يتعرّض للقمع والسجن والتنكيل، كلّ مَنْ تُسوّل له نفسه أن يحيد عن إجماع الجماهير الخاضعة والموالية، ويصرخ بالرفض والاستنكار.

والرواية كما قدّم لها مؤلّفها في البداية – مصرّحًا بأنّ مقدّمته لا تخرج عن كلّ المقدّمات التقليديّة - هي في مكانها وشخوصها ووقائعها، مجرّد عمل تخييليّ، وكلّ محاولة لمطابقتها بواقعٍ ما مضيعة للجهد والوقت، وكأنّ ناصر يريد من هذه المقدّمة التقليديّة أن يستفزّ فيك حساسيّتك قارئًا، تجاه هذا النوع من المقدّمات، الّتي ما إن تقع عيناك عليها حتّى تتأهّب للدخول في رحلة، تُدرك أنّ فرط الواقعيّة فيها ستكون بعيدة عن كلّ أطر تخييليّة ممكنة.

 

سارتريّة

ولا تخلو رواية "هنا الوردة" من بعض التأمّلات الفلسفيّة، الّتي تُظهر تأثّر كاتبها بأفكار فلاسفة وجوديّين مثل سارتر؛ فسارتر بصفته أحد أبرز - بل عتاة - المبشّرين بالفلسفة الوجوديّة، يخاطب في الإنسان أسمى ما فيه، وعيه الإنسانيّ وحسّه بمسؤوليّته، يقول له: "الإنسان ليس سوى ما يصنعه بنفسه"، ويهمس في أذنه: "الإنسان يوجد أساسًا ثمّ يكون"، ويصرخ فيه: "أنت لم تختر أقدارك، لكنّك مذ وُجدتَ على هذه الأرض أصبحت مسؤولًا عن نفسك، وأصبحت مسؤولًا عن الشكل الّذي تريد أنت أن تكون عليه".

وبشكل عامّ تأتي نهاية الرواية متّسقة مع الحمولة التنظيريّة لكاتبها، الّذي يحاول عبرها أن يبثّ فيها أفكاره عن التغيير الممكن من وجهة نظره، الّذي لا يمكن أن يتمّ بطرق عنفيّة مسلّحة، وإنّما عبر تراكم ثقافة الحرّيّة والديمقراطيّة عند الناس

ويظهر تأثّر ناصر بهذا الفكر السارتريّ في غير موضع في الرواية؛ حيث يرد في هذه المواضع جميعها مقاطع سرديّة تمجّد الإنسان والحرّيّة والفعل الحرّ، مثل هذا المقطع الّذي يقول: "الاختيار هو فعل الإنسان الحرّ! نوجد من دون اختيار، يكون ثمّة أب وأمّ، تلاقح، ولادة. يحدث هذا في الطبيعة، أيضًا، ولكن الإنسان يختلف عن الطبيعة في قدرته على الاختيار، في صنع ثقافة ومصير. الطبيعة لا تعي على الأغلب وجودها، على هذا النحو، ولا تقرّر مصيرها بنفسها. الإنسان بوسعه ذلك. هذا دوره في الحياة. تحويل البيولوجيا إلى إرادة وفنون ومسؤوليّة". هكذا يفكّر يونس بشيء من اختلاط ملتبس، ومتبادل الأدوار، بين الشعريّة والمادّيّة، الجدل وبرقوق الأعماق الغامضة".

وبشكل عامّ تأتي نهاية الرواية متّسقة مع الحمولة التنظيريّة لكاتبها، الّذي يحاول عبرها أن يبثّ فيها أفكاره عن التغيير الممكن من وجهة نظره، الّذي لا يمكن أن يتمّ بطرق عنفيّة مسلّحة، وإنّما عبر تراكم ثقافة الحرّيّة والديمقراطيّة عند الناس؛ بما يدفع بهم إلى الخروج في مدّ ثوريّ عارم، هو في رأي الكاتب الطريق الوحيدة للتغيير السلميّ المنشود.

 

قراءات عدّة

أخيرًا، فإنّ رواية "هنا الوردة" تحتمل قراءات عدّة؛ إذ يمكن قراءتها انطلاقًا من ثيمات عديدة رئيسيّة وُجدت فيها؛ أوّلها: قيمة الفرديّة والتمرّد على السلطة الأبويّة الّتي تظهر في شخصيّتها الرئيسيّة. وثانيها: نهج الثورة والتغيير الممكن الّتي نُظِّر لها – ضمنيًّا - في متن الرواية. وثالثها: إشكاليّة المثقّف الّذي يعيش حالمًا بتغيير ممكن، لا يمكن أن يتحقّق إلّا بابتداعه أدوات واقعيّة تناسب حاضر الحياة وآنيّتها الحاليّة، وتظهر أيضًا في شخصيّة الرواية الرئيسيّة.

وعلى الرغم من تعدّد الثيمات الّتي يمكن عبرها قراءة الرواية، إلّا أنّ تضافرها، وحده الكفيل بتحقيق تغيير حقيقيّ شامل، على الصعد الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، يتجاوز الماضي وجموده؛ ملبّيًا نداء الحياة وصرختها المتجدّدة كلّ حين: "هنا الوردة، فلنرقص هنا".

 

 

إسراء عرفات

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.