صداقة مع الحرب: رجاء غانم في تجربتها الشعرية الجديدة

الشاعرة رجاء غانم

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

لماذا يغدو الشعراء في أزمنة الحرب جائعين للحبّ؟ أهي الغريزة المتوحّشة تنتفض مدافعة عن وجودها وشرطها الإنسانيّ؟ أم أنّ للحبّ في زمن الحرب مواعيد سرّيّة وغايات تكسر التوقّع وتخيّب ظنّ الزمن؟

يُولد الشعر من لحظة انكسار الحلم أو تعاليه على جروح الواقع، كما أنّ الشعر لا بيت يحميه من أعاصير الخيبة، ولا شظف الحياة المبلّلة بالمذابح والمجازر والجوع، والحاجة إلى البكاء على كتف العالم. والشعر في ديمومته الجدليّة لا يمكن أن يخضع للقوالب الجاهزة، أو النعرات الماضويّة الباكية على الأمجاد والأطلال والهودج. يستقرّ الشعر شكلًا على مادّته ومخزونه الذاتيّ في التجربة الزمنيّة المعمول بها، وقد يكسّر كلّ العادات والتقاليد النظريّة في كلّ نصّ، حتّى يُعاد إنتاج المعنى والصورة من جديد، على ضوء هويّة النصّ المستقلّة بذاتها في هذا الحيّز المتفجّر بالألم والرغبة لإعادة تشكيل حجارة العالم وبنائها.

 

ضحك لا يشبه الضحك

تأخذنا رجاء غانم في مجموعتها الشعريّة الصادرة حديثًا "عن الضحك والغيتار البرتقاليّ والحرب" (المتوسّط، 2019)، إلى عوالم متعدّدة من التجربة والغرق عميقًا في الضحك الّذي لا يشبه الضحك، وتحاول أن تعزف بلا أظافر على غيتارها البرتقاليّ المهجور، وكم هو قويّ دويّ الحرب، واللجوء، والمأساة، والمحرقة الإنسانيّة الكبرى، والجحيم، ومتلازمة الموت، والجثث المتصالحة مع قطبَي الحرب والحبّ!

 

 

إنّ مرافقة هذه التجربة الإبداعيّة، تظلّ مصحوبة بالرغبة الجامحة في الانتقام لشخوص رجاء غانم وأماكنها وأزمنتها، مرافقة التجربة بما تقتديه ضرورة قراءة المجموعة كوحدة عضويّة قائمة بذاتها وسط صخب هادئ، ومتلازمة الضحك والغيتار البرتقاليّ والحرب؛ فعلى طول نصوص المجموعة لا نجد هذا العنوان لأيّ نصّ من نصوص المجموعة، لكنّنا نعثر على الضحك والابتسامات في كلّ صورة تتّقد بالغواية، والغيتار البرتقاليّ هو صوتها المبحوح والمهدور، والمُصادَر من أجهزة الرقابة والمخابرات في أوطان تقبر الحبّ، والحرب الصديقة هي المعادل الموضوعيّ للمجموعة بأسرها، الحرب هي الخطّ الزمانيّ والمكانيّ الموازي للغة؛ فلا ريب في أنّ الحرب تلقي بظلالها السوداء على معظم النصوص.

 

الحبّ المحظور

بإطلالة أفقيّة على سطح هذه النصوص المعزّزة بالكوميديا السوداء، لا تُخفي غانم قلقها وخوفها وانكسار "ذاتها الأنثويّة" وضعفها، حتّى أنّها تبدو كمرايا تعكس تماثيلها وعريها الداخليّ بشفافيّة ومباشرة تستهويني متلقّيًا، حين يبحث عن الشعر الجميل والصورة المدهشة. وأيّ قدرة تلك على التصالح مع الحرب! والحرب ليست مجازًا، بل هي تعني ما تقوله جيّدًا في صداقتها مع الحرب؛ إذ تتشكّل المعاني الجديدة للحياة في حضرتها، الصورة الأخيرة للحبّ والكلمة والأوجاع والأمراض، والبوح الّذي يتفتّت كخبزٍ لعصافير الحرمان والرغبة والمنفى.

في قصيدة "عن الضحك وفساتين الأمّهات":

كنّا صغارًا

نضحكُ كثيرًا

نغرفُ ما نشتهي من جرار الضحك

لا نشبع

لا تنضبُ الجرار

كنّا صغارًا

نضحكُ كثيرًا

في الزمان البعيد حين ارتدت أمّهاتنا فساتين تصل لفوق الركبة

وأشعلن سجائر كينت طويل

في زمان بعيد

كان الضحك ملء الجرار...

 

تقفز بنا الشاعرة مع هذه الصورة إلى أزمنة الضحك، الضحك الّذي كان له زمن، الزمن هو الطفولة، حين كان الضحك مفرطًا كثيرًا ملء الجرار، في ذلك الزمان الغابر حين ارتدت الأمّهات فساتين فوق الركبة، وأشعلن سجائر كينت طويل، بهذا المظهر الاجتماعيّ للأمّهات وللنساء اللواتي حملن لواء التحرّر الاجتماعيّ من الأغلال والقيود الاجتماعيّة، في مجتمعات عربيّة تغرق اليوم في ظلاميّتها وانغلاقها. هذا اللباس الّذي عبّر عن مرحلة تاريخيّة عاشتها البلاد العربيّة برمّتها، مرحلة المدّ القوميّ، وحركات التحرّر الوطنيّ، وعنفوان اليسار العربيّ، والأحلام الثوريّة، وسط ثورات افتراضيّة باعت الأوهام والأحلام لشعوبها!

في ذلك الزمان الغابر حين ارتدت الأمّهات فساتين فوق الركبة، وأشعلن سجائر كينت طويل، بهذا المظهر الاجتماعيّ للأمّهات وللنساء اللواتي حملن لواء التحرّر الاجتماعيّ من الأغلال والقيود الاجتماعيّة

ثمّ تنتقل في القصيدة ذاتها إلى مرحلة زمنيّة تعبّر فيها عن حالة التدهور والرجعيّة، الّتي راحت المجتمعات تتبنّاها:

كان حبّنا محظورًا

يشبه بلادنا الّتي تمنع تجمُّع أكثر من عشرة أشخاص في مكان عامّ

نشبه بلادنا وتشبهنا

البلاد الّتي تخاف التجمّعات هي ذاتها الّتي تقبر الحبّ.

 

الحبّ المحظور الّذي راح يشبه النظام الأمنيّ المخابراتيّ، القابض على أعناق الشعوب العربيّة. وهل نتذكّر من هذه الأنظمة السياسيّة الشموليّة غير العقليّة البوليسيّة، الّتي عملت على مصادرة الهواء والضحك؟

 

بمثابة مقابر جماعيّة

ربّما من الأهمّيّة بمكان العودة إلى الجذور السوريّة للشاعرة رجاء غانم، فهي من مواليد دمشق، لعائلة فلسطينيّة عاشت وترعرعت بين أزقّة المخيّم، لكنّها لم تكن بمعزل عن الاشتباك في الهمّ اليوميّ للشعب السوريّ، الّذي ذاق ويلات الاستبداد والقمع والملاحقة الأمنيّة، على مدار أربعين عامًا من حكم الحزب الواحد، لكي تتحوّل تلك البلاد إلى مقبرة جماعيّة للحبّ والضحك، تشحب الوجوه وتصبح شبيهة بجلّادها العابس الّذي لا يعرف الضحك.

لكنّها لم تكن بمعزل عن الاشتباك في الهمّ اليوميّ للشعب السوريّ، الّذي ذاق ويلات الاستبداد والقمع والملاحقة الأمنيّة، على مدار أربعين عامًا من حكم الحزب الواحد

ولكنّ هذا الحظر يتجاوز الجغرافيا السوريّة، حتّى يصل إلى ذهنيّة السلطة وهيمنتها الأبويّة في عقل العربيّ وذهنه في كلّ مكان، الهيمنة الّتي تقمع أبسط الحقوق وتُفتّت الأحلام، وتكسر شوكة الإرادة والتغيير في بنيويّة السلطة العربيّة الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة.

 

ملحميّة تترقّب

تتقصّى غانم واجباتها البيتيّة والشعريّة من خلال توظيف عناصرها الثقافيّة بعناية فائقة، حتّى تكاد تقترب من النفَس الملحميّ الشفّاف، لكنّها تبقى على مسافة ترقّب وفحص للغامض الحزين في فلك النفس والذات المجرّحة، في قصيدة "واجبات بيتيّة":

أبكي فرحة بدموعي

بمائي الّذي ينهمر من إيقاع أغنية

أعبرُ مع القرويّات الإيطاليّات في سان ريمو

إلى الجهة الأخرى من الجبل

هناك حيث الجبن المملّح وشجرة التوت الأحمر

حيث يتنفّس البحرُ بكامل ملحه

ويدخّن سيجارته الأخيرة لهذا اليوم.

 

هذا العبور مع القرويّات الإيطاليّات إلى الجهة الأخرى من الجبل، ينتظم على شكل إيقاع يتقصّى الرغبة الملحّة في بلوغ المشتهى، وفي ولوج عالم الجمال والمتعة والغواية الدفينة، حاجات المتعة الكاملة والتفرّد بالرغبة مع بحرٍ يتنفّس بكامل ملحه، ويدخّن سيجارته الأخيرة.

وفي قصيدة "صديقتنا الحرب"، تكثّف غانم رموزها:

نصادقُ الحرب بل ونقدّسها

فهي أمّنا الأولى منذ الإقامة في الكهف

وهي بصمة الأصابع

ونداء الريح

نصادق الحرب لنعرف لون جلدنا الحقيقيّ وقد موّهته الحضارة

نصادقها لنصدّق أنّنا بعد لم نزل نقف على عتبة التاريخ الأولى

ونخاف الدخول.

 

الحرب حاجتنا

وهل ثمّة أفضل من "مثل الكهف" لأفلاطون لتعكس غانم لنا معنى الحرب، والصداقة معها؟ فهي القادرة على إزالة الأقنعة والكشف عن الوجوه، وترصّد بصمات الأصابع، والاستماع لنداء الريح ينقل إلينا الأخبار والتاريخ.

ليس ثمّة أفضل من الحرب لكشف الزيف ومعرفة لون الجلد الحقيقيّ، والمكوّن المادّيّ الّذي يحرّكنا ويديم الخراب ويكرّس الأوهام الّتي حاصرتنا؛ فالحرب هي حاجتنا مجتمعًا إنسانيًّا، كي تسقط الخوف والأحلام والتاريخ الزائف، كي ندخل التجربة.

وفي القصيدة ذاتها:

يكفي أن نمشي مشبوكي الأيدي بين خراب الحارات والبيوت المهجّرة

يكفي أن نحبّ في زمن الحرب

حتّى نعود إلى النبع الأوّل ونشرب

وننسى أنّنا سنكون القتلى على صدر الصفحة الأولى من جريدة الغد.

 

المشي بين خراب الحارات والبيوت المهجّرة كافٍ لرصد المشهد برمّته، لكي نعود إلى النبع الأوّل ونشرب منه، العودة إلى الذات الإنسانيّة بحنين مدهش، تتعزّز فيه الرغبة في الحبّ في أزمنة الحرب، كي ننسى أنّنا سنكون القتلى. الحرب الّتي ستحصدنا جميعًا، الحرب والقتل على الهويّة، الحرب وقتل الجمال وتأليه الخراب فينا، هي من مزايا السلطات والتابوهات المجتمعيّة في هذا العصر، ربّما لا تخاف غانم من العدوّ الخارجيّ الطامع دائمًا للاحتلال والاستعمار، لكنّ ثمّة رقيبًا ومجرمًا بيننا يريد أن يقتل كلّ ما هو جميل فينا، وأن يستبدل بسلطة الجمال الّتي نشرب من نبعها، سلطة الخراب والهدم والأشلاء.

ربّما لا تخاف غانم من العدوّ الخارجيّ الطامع دائمًا للاحتلال والاستعمار، لكنّ ثمّة رقيبًا ومجرمًا بيننا يريد أن يقتل كلّ ما هو جميل فينا، وأن يستبدل بسلطة الجمال الّتي نشرب من نبعها، سلطة الخراب والهدم والأشلاء

إنّ جثث رجاء غانم تعبث وتنتشر بين شخوصها، والعلاقة بالموت ترتسم بأسئلة طفلة بريئة لم تنشغل به من زاوية الهمّ الكبير، فهي تقول عنه في قصيدة "جثّة":

كنت أعلم أنّ الموت قريب جدًّا

كان عليه فقط أن يعبر السهل بيننا

يجتنب الزهر البرّيّ الطافح في الربيع

والأسئلة المتناثرة كألغام تنتظر الفرصة لترقص

ويصل إليّ

في ظهيرة كسولة

 

هذه المعرفة الحتميّة الّتي لا تحتاج إلى توفير طاقة خاصّة لمواجهة الموت، والّتي توفّر له كلّ شروط الوصول والاستئثار بجثّة هامدة، قبل النَّيْل منها في ظهيرة كسولة تعبّر عن تصالح بريء مع الموت.

 

الأنا الأنثى

ثمّ إنّ رجاء غانم تبوح في هذه المجموعة بمكنونات عاطفيّة عدّة، وتدخل إلى مناطق محظورة، من خلال "الأنا الأنثى" الجريئة القادرة على نبش الذكريات والحبّ والجسد، والتداخل بين الذوات بسلاسة بارعة، وأتوقّف عند الصورة الشعريّة في نصّ "دثّريني":

"دثّريني"

لأرى اسمي من جديد

بأحرف أربعة واضحة

دثّريني بقلبِكِ أصغر من قلب عصفور

وأوسع من نبع على رأس الجبل

خذيني إليك مرّة واحدة

لأعرف أنّ الجهات أربع

وأنّ الفصول أربعة

وأساسيّات بيت السكن أربعة

وأنّ للقلب حجرات أربعًا تملئينها وحدك.

وأنا لن أقول شيئًا يا حبيبي

سأفتح ذراعيّ لتهربَ إليّ...

 

إنّ الإضاءات على قصائد رجاء غانم، في مجموعتها الصادرة حديثًا "عن الضحك والغيتار البرتقاليّ والحرب"، تحتاج إلى وقفات متأنّية أكثر، تسبر أغوار الوجع العميق والنبش الفنّيّ والجماليّ، لما تحمله شاعرتنا من الهمّ اليوميّ والمعيش، والهموم الإنسانيّة الكبيرة، على أمل أن يلتفت الدارسون والباحثون إلى هذا النتاج الشعريّ، والتجربة المختلفة في الكتابة والبوح والكشف.

 

 

علي قادري

 

 

من مواليد قرية نحف في الجليل. شاعر ومعلّم للغة والأدب العربيّين في المرحلة الثانويّة بمدرستي "مسار" – الناصرة، و"ابن سينا" - نحف. يعمل محرّرًا أدبيًّا لمجلّة "الغد الجديد" الثقافيّة، الصادرة عن جمعيّة المنار للثقافة والهويّة الفلسطينيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "خراب وثلاثون جثّة".