كان على اللجنة الفرعية الأولى، المنبثقة عن اللجنة المخصصة، أن تبحث في أربعة مواضيع: تنفيذ التقسيم، وبرنامج الوحدة الاقتصادية بين الدولتين، وحدود التقسيم، وتدويل القدس. وجدت الوكالة الصهيونية نفسها، داخل اللجنة، في مواجهة الخارجية الأميركيّة التي أرادت أن تجعل اقتراح التقسيم أكثر "عدلًا" بالنسبة للعرب. لكن الوكالة رأت في هذا الأمر فرصة للمقايضة من أجل تحويل مدينة يافا إلى الدولة العربية من أجل التخلص من 85 ألف عربي، مقابل الحصول على قسم من الجليل الغربي لصالح الدولة اليهودية، وضم القدس الغربية إليها.
رفض "بن غوريون"، رئيس الوكالة الصهيونية، ضم القدس الغربية إلى الدولة اليهودية، لأن هذا يعني تقسيم القدس بين العرب واليهود. كما أن هذا الطلب من شأنه تغيير موقف الكثير من الدول المسيحية، إذ إن العالم المسيحي بكل طوائفه كان موحدًا حول تدويل القدس. وأعلنت بعض الدول التي تؤيد التقسيم أنها لن تستطيع التصويت لصالحه، إلا إذا تم تدويل القدس. ووجد الوفد الصهيوني برئاسة "موشي شرتوك" أن التقسيم لن يمرّ بدون أن تدوّل القدس، وأن الفاتيكان كان قد قرر أنه لا يجب معارضة إقامة دولة يهودية في فلسطين، إذا تم تدويل القدس، لأن ذلك سيعطي المدينة المقدسة طابعًا مسيحيًا، وبذلك يكون للكنيسة الكاثوليكية تأثيرًا كبيرًا فيها. مصلحة الفاتيكان كانت تكمن في تأييد التقسيم، من أجل الحصول على امتيازات لم يحظَ بها من قبل، إلا في زمن احتلال القدس على يد الصليبيين.
من جهة أخرى، رفض "بن غوريون" فكرة التنازل عن النقب الجنوبي التي يطرحها الوفد الأميركيّ، بحجة المحافظة على تواصل عربي أفريقي- آسيوي.
عرض "موشي شرتوك" على اللجنة الفرعية، أن تضيف للدولة اليهودية مطار اللد، والشاطئ الغربي للبحر الميت، مقابل التنازل عن يافا للدولة العربية، مما يزيد مساحة الدولة اليهودية المقترحة بأكثر من مليون دونم، ويقلل عدد سكانها العرب بثلاثين ألفًا. لكن الأميركان في المقابل رفضوا هذه الاقتراحات، وطالبوا بضم النقب إلى الدولة العربية؛ لأنهم رأوا فيه أهمية استراتيجية قصوى كونه قريب من السعودية وحقول نفطها.
قبل أن ندخل في النقاشات داخل اللجان الفرعية للجنة المخصصة، ننتقل بشكل حادّ إلى الجامعة العربية واجتماعاتها المخصصة من أجل الردّ على اقتراحات لجنة "أنسكوب" والنقاشات الدائرة داخل لجان الأمم المتحدة.
اجتماع صوفر أيلول/ سبتمبر واجتماع عالية تشرين أول/ أكتوبر 1947
اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في صوفر في لبنان، وامتدت اجتماعاتها من 16 حتى 19 أيلول/ سبتمبر 1947، بحضور رؤساء وزراء الدول العربية وبعض وزراء الخارجية، بالإضافة إلى اللجنة العربية العليا ممثلة بالسيد معين ماضي. كان الهدف من الاجتماع هو اتخاذ قرار مشترك بخصوص الموقف من توصيات لجنة "أنسكوب" التي صدرت في بداية نفس شهر الاجتماع.
انبثقت عن اجتماع صوفر القرارات التالية: أولًا رأت اللجنة السياسية بأن مقترحات لجنة "أنسكوب"، "تنطوي على إهدار لحقوق عرب فلسطين الطبيعية في الاستقلال، وخرق لجميع الوعود التي قطعت للعرب، وتتناقض مع مبادئ الأمم المتحدة". ورأت اللجنة أن "تنفيذ هذه المقترحات تشكل خطرًا يهدد أمن وسلام فلسطين والبلاد العربية جميعًا"، لذلك قررت الدول العربية "أن تقاوم بجميع الوسائل العملية الفعالة، تنفيذ هذه المقترحات، وكل ما لا يكفل استقلال فلسطين كدولة عربية".
ثانيًا: "سيخوض العرب حربًا بلا هوادة فيها لدفع العدوان على بلادهم"، ومنع إقامة الدولة اليهودية. كذلك فإن "الحكومات العربية لن تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أمام خطر يهدد البلاد العربية جميعًا". ومن أجل تنفيذ هذا البند قرر الاجتماع تشكيل لجنة عسكرية عربية، وعليها أن تقدم تقريرًا للجنة السياسية العربية في اجتماعها القادم.
ثالثًا: قررت اللجنة أن تطلع الجماهير العربية على حقيقة أمر المقترحات المطروحة، وتدعو "كل عربي أن يقدر خطورة مخاطر هذه المقترحات، وأن يقدم لفلسطين كل ما في وسعه من معونة وتضحية".
بعد اجتماع صوفر، استمرت النقاشات داخل الأمم المتحدة بشأن تقرير لجنة "أنسكوب"، وتم تشكيل اللجنة المخصصة، وأعلنت بريطانيا على نيتها أن تنسحب من فلسطين، لذلك قررت اللجنة السياسية للجامعة العربية أن تجتمع مرّة أخرى، من أجل متابعة قرارات صوفر واتخاذ قرارات جديدة تأخذ بعين الاعتبار التغييرات الجديدة. وتقرر أن يكون الاجتماع في عالية في لبنان، بحضور رؤساء وزارات الدول العربية السبع، وكان ذلك بين 7 - 15 تشرين أول / أكتوبر.
حضر اجتماع عالية الرؤساء رياض الصلح من لبنان، وجميل مردم بك من سورية، والنقراشي باشا من مصر، وتوفيق أبو الهدى من شرق الأردن، وعلى المؤيد من اليمن، ومعين الماضي من فلسطين، ويوسف ياسين من السعودية، وصالح جبر من العراق، وعبد الرحمن عزام من جامعة الدول العربية. قدم الحاج أمين الحسيني من القاهرة إلى بيروت سرًا من أجل حضور الاجتماع، الأمر الذي عارضه ممثلا العراق والأردن، وقررا الانسحاب من الاجتماع، ولكن رئيس الوزراء اللبناني استطاع إقناعهما بالعدول عن ذلك، وقبولهما بحضور الحسيني الاجتماعات كرئيس للجنة العربية العليا.
في 9 تشرين أول / أكتوبر 1947، قدمت اللجنة العسكرية العربية التي أسسها اجتماع صوفر، تقريرها إلى مجلس الجامعة العربية. كانت اللجنة مكونة من اللواء الركن إسماعيل صفوت من العراق، والعقيد محمود الهندي من سورية، والمقدم شوكت شقير من لبنان، وصبحي الخضرا من فلسطين. تضمن التقرير معلومات حول المنظمات العسكرية والسياسية الصهيونية في فلسطين، التي بإمكانها أن تتحول بسرعة إلى حكومة صهيونية وجيش صهيوني، مزود بقوة كبيرة من الرجال والسلاح والعتاد. بناءً عليه رأت اللجنة العسكرية بضرورة تسليح الفلسطينيين وتزويدهم بعشرة آلاف بندقية، وتوفير الذخائر الضرورية لاستعمال هذه البنادق. وطالب التقرير الدول العربية بحشد جيوشها على حدود فلسطين، لتكون على أهبة الاستعداد للتدخل إذا لزمت الحاجة. كذلك دعت اللجنة إلى دعوة متطوعين عرب وتسليحهم وتدريبهم بواسطة الحكومات والمؤسسات الشعبية، وتأطيرهم داخل ما سُمّي في ما بعد بجيش الإنقاذ، وتأليف قيادة عربية عامة لقيادة القوات العربية النظامية وقوات المتطوعين، ووضع مبلغ لا يقل عن مليون جنيه من ميزانية الجامعة العربية في تصرف اللجنة العسكرية، وشراء أكبر كمية من الأسلحة، واستعمال ما أمكن من الطائرات الحربية لمراقبة السواحل الفلسطينية.
لم تعطي الجامعة العربية الاهتمام الكافي لاقتراحات اللجنة العسكرية ما عدا تخصيص المليون جنيه، والوعد بإرسال أسلحة وعتاد بكميات كبيرة.
حاول المفتي الحسيني أن يقنع الدول العربية بالموافقة على تشكيل حكومة عربية في فلسطين، لكن مندوبي الأردن والعراق رفضا هذا الاقتراح بدعوى أن هذه الخطوة من شأنها استفزاز الرأي العام العالمي داخل الأمم المتحدة، في هذه الفترة الحساسة
الرئيس "ترومان" يحسم النقاش حول النقب
كانت الوكالة الصهيونية تعتبر محاولة الولايات المتحدة منح النقب للعرب، بأنها تراجع عن كل الوعود السابقة، بل يمكن اعتبارها أمرًا خطيرًا سيستخدمه معارضو التقسيم من أجل ثني الآخرين عن دعم الحلّ "الشامل" الذي اقترحته أغلبية لجنة "أنسكوب". مع ذلك كان مندوبو الوكالة الصهيونية بقيادة "موشي شريت" يعتقدون أن الوفد الأميركيّ متردد في اقتراحه حول النقب، ولذلك من الممكن جعلهم يعدلون عنه، خاصة أن المندوب السوفييتي "س. ل. تسرابكين" كان قد أيد التقسيم رافضًا أي تعديلات عليه، مما يحرج الولايات المتحدة أمام أصدقائها اليهود.
اعتقد الصهاينة أن عليهم التوجه بشكل مباشر إلى الرئيس الأميركيّ "ترومان"، لأنه الوحيد القادر على تغيير موقف الوفد الأميركيّ. لكن الوصول إلى "ترومان" كان صعبًا جدًا بسبب غضبه على الحاخام "آبا هيلل سيلفر" الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري، مما أدى إلى قطع دابر الصهاينة عن البيت الأبيض. مع ذلك كان لديهم ورقة رابحة من شأنها قلب الموازين، تمثلت في "حاييم وايزمان" الوحيد القادر على التأثير على "ترومان"، لذلك كان عليهم تدبير لقاء بينهما على وجه السرعة. اتصل ممثل الوكالة الصهيونية في واشنطن "إلياهو ابشطاين" ب"حاييم وايزمان" مطالبًا إياه بمقابلة الرئيس الأميركيّ فوافق هذا على اللقاء بالرئيس في أقرب موعد ممكن.
قام "ابشطاين" بالاتصال بمستشار الرئيس "ديفيد نايلز"، مطالبًا إياه بتحديد اللقاء المنشود، وتم ذلك بمساعدة السفير البريطاني اللورد "إنفر تشابل" في 19 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947. كان على "وايزمان" أن يطرح على "ترومان" موضوع النقب وإقامة ميناء على البحر الأحمر، لأن هذا الميناء سيمكن الدولة اليهودية أن تحصل على منفذ إلى المحيطين الهندي والأطلسي، لأنها لن تستطيع استعمال قناة السويس. كان "وايزمان" متفائلًا، حيث إن الرئيس الأميركيّ "صديق ومتعاطف مع القضية الصهيونية"، ويمكن "مقارنته باللورد بلفور"، كما ارتأى "وايزمان" وصفه.
تزود "وايزمان" بخريطة تحدد موقع أم الرشراش على خليج العقبة، وتوضح الأهمية الاستراتيجية لإقامة ميناء فيها يخدم الدولة اليهودية المستقبلية. كذلك حمل معه مذكرة تشرح أهمية هذا المنفذ للدولة اليهودية، وأنها لعبت دورًا رئيسيًا في التاريخ اليهودي. كانت النصيحة التي تلقاها "وايزمان" من "إبشطاين" هي أن يركز فقط على نقطة واحدة في نقاشه مع "ترومان"، لأن قصر الوقت لن يعطيه فرصة للحديث عن أمور أخرى.
اجتمع "وايزمان" داخل البيت الأبيض مع الرئيس "ترومان" برفقة "ديفيد نايلز" ورئيس البروتوكول "ستانلي وودوارد". استمر الاجتماع لمدة نصف ساعة فقط، خرج بعدها "وايزمان" سعيدًا، إذ ركز حديثه مع "ترومان" على النقب فقط، ورسم له صورة خضراء للنقب القاحل، حيث إن استخدام المياه المحلاة سوف يجعل الصحراء تزدهر بفضل "العقل اليهودي". وإذا لم يحصل اليهود عليه، فسيبقى صحراء قاحلة، كما هو اليوم. أعجبت هذه الصورة "ترومان" المزارع، مما جعل "وايزمان" يكتب لاحقًا "أن الرئيس قرأ الخريطة بسرعة كبيرة وبوضوح شديد. ووعدني أنه سيتواصل على الفور مع الوفد الأميركيّ في الأمم المتحدة".
"إيفات" لم يفعل شيئًا للتوفيق بين العرب واليهود
بعد الإعلان عن اللجان الفرعية الثلاث ابتدأت كل لجنة بالتداول بشأن الموضوع الذي انتدبت من أجله. كما تقدم، تولى "إيفات" رئيس اللجنة المخصصة رئاسة اللجنة الفرعية الثالثة التي كانت مهمتها التوفيق بين العرب واليهود، ولكن هذه اللجنة كانت شبه مشلولة، ولم تعمل شيئًا يذكر ما عدا محاولة "إيفات" استطلاع رأي "تشارلز بوهلين" من الوزارة الخارجية الأميركيّة في 28 تشرين أول / أكتوبر 1947، إذا ما كان يريد لقاء الأمير فيصل بن سعود، ممثل السعودية في الأمم المتحدة، لكن "بوهلين" لم يفعل شيئًا بهذا الأمر، بل أبلغ "إيفات" أنه التقى مع الأمير فيصل مرتين، وينتظر الآن أن يبادر الأمير السعودي للاتصال به. أحبط هذا الأمر "إيفات"، أو هكذا ادعى، ولذلك قام بإرسال رسالتين إلى كل من "مارشال" وزير الخارجية الأميركيّين والملك سعود، كانت الرسالتان متطابقتين ويقترح فيهما "إيفات" أن يلتقي الطرفان لبحث إمكانيات التوصل إلى حل سياسي في فلسطين، يكون مقبولًا على العرب واليهود.
لم تسفر مبادرة "إيفات" عن شيء حيث إن "مارشال" أجاب على مبادرة "إيفات" بأنه يفضل انتظار قرار اللجنة المخصصة، وأنه توصل إلى هذا الرأي "بشكل مستقل". وبعدها ساد الجمود جهود المصالحة، ومرض "إيفات" بالإنفلونزا ما منعه عن مباشرة عمله، وبهذا تم دفن الحل الوسط قبل أن يحدث أي شيء، وأعيد الأمر إلى السطح عندما طرح العرب الأمر على الأميركيّين ذلك، في نهاية شهر تشرين ثانٍ / نوفمبر، عندما اقترب التصويت في الجمعية العامة على قرار التقسيم.
لم يقتنع مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركيّة بما حدث، حيث صرح "صموئيل كوبر" من المكتب أن "الجهود الفاشلة والضعيفة التي بذلها إيفات من أجل المصالحة، لا يمكن اعتبارها بأنها مبادرة من الأمم المتحدة". أما "إيفات" فقد كتب في ملاحظاته على اللجنة الفرعية التالية أن "أغلبية الأعضاء كانت تفضل المصالحة، ولكن الدول العربية وفي الأجواء السائدة، كان صعبًا عليها أن تفسر للآخرين مقاطعتها للجنة "أنسكوب" ورفضها القاطع لكل نتائج بحثها حتى الآن". هذا يؤكد أن رئيس اللجنة المخصصة، كان يرى أن مهمة التوفيق بين العرب واليهود غير ذات أهمية على الإطلاق، بل يمكن اعتبارها ثانوية بالنسبة لمهمته في التخطيط لجلسة التصويت في الأمم المتحدة.
مشروع الدولة الواحدة يسقط في اللجنة المخصصة
في اجتماعها الأول، انتخبت اللجنة الفرعية الثانية ممثل كولومبيا "أ. جونزاليس فرنانديز" رئيسًا مؤقتًا لها، ولكنه اشترط من أجل قبول هذا المنصب، أن يتم إضافة ممثلين آخرين عن دول غير إسلامية بالإضافة لكولومبيا. ولما لم يتحقق هذا الأمر، استقال من رئاسة اللجنة الفرعية ومن اللجنة الفرعية نفسها في 28 تشرين أول / أكتوبر 1947، وانتخب مكانه السير محمد ظفر الله خان، ممثل الباكستان في اللجنة، وبهذا أصبحت اللجنة عربية-إسلامية بالكامل.
اقترحت اللجنة الفرعية الثانية، والتي بحثت مشروع الدولة العربية الواحدة، بعد انتهاء مداولاتها بعد أكثر من شهر من تأسيسها، على اللجنة المخصصة ثلاثة اقتراحات للتصويت عليهم، أو بالأحرى ثلاثة مشاريع لقرارات تخص مشروع الدولة الواحدة. المشروع الأول تناول القضايا القانونية والذي كان بنده الأساسي يتناول التوجه لمحكمة العدل الدولية للبث في شرعية فرض حل للمسألة الفلسطينية بواسطة الأمم المتحدة أو اقتراح بشأن دستور فلسطين أو نظام الحكم فيها، وهل يمكن للأمم المتحدة أن تفرض التقسيم إذا كان يناقض رغبات أغلبية سكان فلسطين؟، وذلك بموجب المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة.
تم التصويت على هذا الاقتراح، في 24 تشرين ثانٍ / نوفمبر، وكانت النتيجة متساوية من ناحية عدد الأصوات، لكن "إيفات" صوت من على كرسي الرئاسة برفض الاقتراح مما تسبب في سقوطه، حيث حصل على موافقة 20 دولة، ورفض 21 دولة، وامتناع 13 دولة. أما باقي البنود القانونية فسقطت جميعًا بأغلبية كبيرة. يجدر الذكر هنا أن التصويت كان علنيًا برفع الأيدي، حيث أراد "إيفات" ذلك بادعاء أن الدول يجب أن تتحلّى بالمسؤولية والشفافية في التصويت لهذا الأمر "الجلل".
المشروع الثاني الذي تناولته اللجنة الفرعية، كان يخص مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا، حيث إن لجنة "أنسكوب" كانت قد أقرت في توصياتها أنه لا يمكن لأي حل للمشكلة الفلسطينية، أن يؤدي إلى حل لمعضلة اللاجئين اليهود، بل إن دولًا أخرى يجب أن تستوعب قسمًا منهم. بناءً عليه اقترحت اللجنة الفرعية الثانية أن تقوم كل دول الأمم المتحدة باستيعاب المهاجرين اليهود، حسب نسبة مساحة أراضي الدولة، ومواردها الاقتصادية، والمدخول الفردي لمواطنيها. تم رفض هذا الاقتراح أيضًا بسبب تساوي مؤيديه ومعارضيه، إذ صوت لصالح الاقتراح 16 دولة، ونفس العدد صوت ضد الاقتراح، بينما امتنعت 26 دولة عن تأييده.
في النهاية تم التصويت على المشروع الأساسي وهو مشروع إقامة الدولة الواحدة، غير الفدرالية في فلسطين بعد انتهاء الانتداب، لكن الاقتراح رفض بأغلبية 29 دولة مقابل 12 صوتًا وامتناع 14 دولة عن التصويت.
أعمال لجنة التقسيم الفرعية الأولى
باشرت اللجنة الفرعية الأولى، وهي لجنة التقسيم، عملها بانتخاب "كساويري بروشنسكي" من بولندا رئيسًا للجنة. عملت اللجنة على إتمام مشروع التقسيم الذي عملت عليه لجنة "أنسكوب" في جنيف، وملائمته لمواعيد خروج القوات البريطانية من فلسطين. ولذلك قامت اللجنة بدعوة بريطانيا واللجنة العربية العليا والوكالة الصهيونية من أجل المساعدة في التحضير لهذه الخطة. كان من الطبيعي ان ترفض اللجنة العربية العليا، إرسال أي مندوب عنها لبحث مشروع ترفضه بكل شدّة. أما بريطانيا فقررت إرسال مندوب مراقب للجنة، ولم يشترك هذا في أيٍّ من النقاشات التي دارت في اللجنة. من الوكالة الصهيونية شارك "موشي شرتوك" مدير الدائرة السياسية في الوكالة، و"د. عمانوئيل نويمان" وهو عضو أميركي في قيادة الوكالة الصهيونية. كانت الفائدة العائدة على الممثلين الصهيونيين، من هذه المشاركة، لا تقدر، بسبب وجودهما في صلب النقاشات ومباحثات اللجنة وخططها بخصوص التقسيم، بل استطاعا أن يقوما بالتأثير من أجل الحصول على مكاسب داخل اللجنة.
قسمت اللجنة نفسها إلى مجموعات عمل، الأولى المكونة من خمسة أعضاء بحثت موضوع الحدود بين الدولتين العربية واليهودية. مجموعة أخرى مكونة من أربعة أعضاء بحثت موضوع كيفية تطبيق التقسيم، وضمت مندوب الولايات المتحدة "هيرشيل جونسون"، وممثل الاتحاد السوفييتي "سيميون تساربكين"، وممثل كندا "ليستر بيرسون"، وممثل غواتيمالا "جارسيا جراندوس" المؤيد المتحمس للصهيونية. مجموعة ثالثة عملت على بحث موضوع مدينة القدس التي يفترض تدويلها، ومجموعة رابعة للتداول في موضوع المواطنة في الدولتين.
في 10 تشرين ثانٍ / نوفمبر، وصلت مجموعة العمل الخاصة بإجراءات تنفيذ التقسيم إلى خطة تقضي بأن تنسحب بريطانيا بحلول الأول من أيار / مايو 1948، بعدها تبدأ فترة انتقالية لمدة شهرين قبل إنشاء الدولتين العربية واليهودية، على أن يتم ذلك في موعد لا يتجاوز الأول من تموز / يوليو 1948، وتشكيل لجنة من الأمم المتحدة تقوم بالإشراف على المرحلة الانتقالية، على أن تكون مؤلفة من ثلاث إلى خمس دول، يتم اختيارها من بين الدول المؤيدة للتقسيم، ولكنها تقدم تقاريرها لمجلس الأمن. كان الاقتراح أن تضم هذه اللجنة الدول التالية: أيسلندا، وغواتيمالا، والنرويج، وبولندا، وأورغواي. وهذا يعني وجود أشد مؤيدي الصهيونية "فبريجات" و"غراندوس" في هذه اللجنة.
الوفد الأميركيّ يتنازل عن اقتراح ضم النقب إلى الدولة العربية
بعد خروج "وايزمان" من لقائه مع الرئيس "ترومان" بساعتين، أي في الساعة الثالثة بعد الظهر، كان "هيرشيل جونسون" يتكلم داخل بهو مبنى الجمعية العامة مع "موشي شرتوك" و"هوروفيتز" و"آبا إيبان" عن مقترحات الوفد الأميركي التي سيقدمها في اليوم التالي للجنة المخصصة، والتي تنص على ضم النقب إلى الدولة العربية، مع الميناء الذي سيقام على خليج العقبة. كان مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركيّة ما زال مصرًا على اقتراحه على النقيض من توصية اللجنة الفرعية الأولى.
خلال حديث "جونسون" قاطعه اتصال هاتفي من البيت الأبيض، رد الجنرال "هيلدرينج" على الهاتف ولكنه عاد وقال إن الرئيس شخصيًا على الهاتف، ويريد أن يتكلم مباشرة مع "جونسون". ذهب هذا بشكل مستعجل إلى الهاتف. كان الرئيس "ترومان" على الخط الثاني، وأخبر "جونسون" إنه لا يوافق على التعليمات التي أعطتها وزارة الخارجية للمندوبين الأميركيين. قال لجونسون "لا ينبغي أن نفعل أي شيء يزعزع استقرار المنطقة" لهذا يجب أن يذهب النقب والميناء إلى اليهود. ثم تحدث "ترومان" مع الجنرال "هيلدرينج" قائلًا "لا ينبغي أن نسمح للدولة اليهودية بأن تتخلى عن النقب". وقال أيضًا إنه يتفق شخصيًا مع موقف "وايزمان"، وأنه "يرغب أن يوافق الوفد على تقرير أغلبية انسكوب بخصوص النقب".
عاد "جونسون" بعد عشرين دقيقة إلى اليهود، وكان في حرج شديد، وقال لهم: "ما أردت أن أقوله لكم حقًا، هو أننا لا نملك أي تعديلات على الخريطة التي تقترحونها". كانت الخريطة التي اقترحها الوفد الصهيوني تنص على إخراج بئر السبع من الدولة اليهودية بفعل الضغط الأميركي، ومنطقة في النقب الغربي على الحدود المصرية، وضم مدينة يافا للدولة العربية بحيث تكون مطوقة بالكامل بالدولة اليهودية. مقابل هذا تحصل الدولة اليهودية على مطار اللد ومعسكر صرفند، وإضافة مناطق على الساحل الغربي للبحر الميت. مع هذا التغيير تصبح مساحة الدولة اليهودية المقترحة 55٪ من أرض فلسطين، مقابل 45٪ للدولة العربية. كان اقتراح لجنة الأغلبية في لجنة "أنسكوب" يعطي الدولة اليهودية 62٪، و 38٪ للدولة العربية.
في 22 تشرين ثانٍ / نوفمبر 1947، ألقى "هيرشيل جونسون" خطابًا أمام اللجنة المخصصة، سحب فيه رسميًا التحفظات الأميركيّة السابقة بشأن النقب، وقدم تقريرًا يقضي بضم بئر السبع والمناطق المحيطة بها للدولة العربية. ليس هذا فحسب، بل تحول "جونسون" إلى التعاطف مع الموقف اليهودي، وانتقد بريطانيا لعدم تعاونها مع اللجنة المخصصة، لأنها أعلنت عدم مشاركتها في أي خطة مقترحة، ما لم تحصل على موافقة العرب واليهود. منذ الآن أصبح ضم النقب إلى الدولة اليهودية هو الموقف الأميركي الرسمي.
التعليقات