معنى النكبة مجدّدًا: يافا التاريخ، يافا المستقبل../ سامي أبو شحادة

-

معنى النكبة مجدّدًا: يافا التاريخ، يافا المستقبل../ سامي أبو شحادة
هنالك الكثير من الكتابات عن مدينة يافا، عروس فلسطين، وعن تاريخها الحديث بشكل خاص. هذه السطور هي مساهمة متواضعة لفهم بعض معاني نكبة مدينة يافا عام 1948 وأبعاد ونتائج هذه النكبة على الأقلية العربية الفلسطينية التي لم تهجّر، وما زالت تعيش وتتفاعل مع ماضي، حاضر ومستقبل هذه المدينة العريقة.

قبل الخوض بشكل مباشر بموضوع هذه المقالة، علينا التطرق إلى بعض الملاحظات حول مدينة يافا، من أجل وضعها في سياق تاريخي وجغرافي يساعدنا على فهم أعمق لنكبة أهم مركز مدني حديث في فلسطين الانتدابية من حيث النشاط الاقتصادي، عدد السكان والحياة الثقافية.

مدينة يافا كانت أكبر المدن العربية الفلسطينية الانتدابية من الناحية الديموغرافية. بلغ عدد سكان المدينة 80 ألفاً، وعدد سكان القرى القريبة والتي اعتبرت قضاء يافا ما يقارب 40 ألف نسمة.

في الفترة ما بعد قرار التقسيم الصادر في 29 نوفمبر 1947 ونكبة فلسطين في 15 أيّار عام 1948، طردت العصابات الصهيونية ما يزيد عن %95 من سكان مدينة يافا العرب أصحاب البلاد الأصليين، وهي ما زالت تمنع عودتهم حتى يومنا هذا. شكّل اليافيون أكثر من %15 من اللاجئين الفلسطينيين، وهم اليوم منتشرون في كافة بقاع الأرض.

قلب فلسطين النابض من الناحية الاقتصادية كانت مدينة يافا. منذ بدايات القرن التاسع عشر، تطور في مدينة يافا حقل اقتصادي جديد، وضع يافا في مكانة مرموقة في السوق الاقتصادي العالمي. كان هذا الحقل عبارة عن زراعة بيارات حمضيات بشكل عام والبرتقال بشكل خاص. كان تطور هذا الحقل الاقتصادي سريعًا جدًّا، حيث وصل إلى تصدير عشرات الملايين من صناديق الحمضيات سنويًّا في الثلاثينيات من القرن الماضي.

هذا التطور وفَّر آلاف فرص العمل والاستثمار الجديدة سنويًّا الأمر الذي أدّى إلى ربط يافا بأهم المراكز الاقتصادية في حينه على مستوى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. بالإضافة إلى ذلك تمّ افتتاح العديد من شركات الاستيراد والتصدير، المصارف، شركات النقل البري والبحري وغير ذلك من المجالات الاقتصادية الكثيرة الأخرى.

لم يكتف الاقتصاد اليافي بهذا التطور، بل طور أيضا مجال الصناعة حيث وُجدت في يافا مصانع سكب الحديد، وأخرى لتصنيع الزجاج، الثلج، السجائر، المنسوجات، الحلويات، بناء هياكل وسائل النقل، المياه الغازية، صناعات غذائية متنوعة والعديد من الصناعات الأخرى.

أما الركن الثالث الذي استند عليه الاقتصاد في يافا الانتدابية فقد كان السياحة. عشرات آلاف السياح والحجاج كانوا يزورون المدينة العريقة، والتي تحتضن بعض الأماكن المقدّسة للديانة المسيحيّة. طوّر هذا المجال شبكة الاتصالات والمواصلات بين يافا وسائر أرجاء الوطن الفلسطيني والعالم العربي. كما تمّ بناء العديد من الفنادق وشركات النقل والخدمات السياحية، ممّا ساهم كثيرًا في إيجاد فرص عمل واستثمار إضافيّة في المدينة.

شكلت يافا أهم مركز ثقافي بفلسطين دون منازع، حيث احتوت على أهمّ الصحف الفلسطينية اليوميّة- صحيفة فلسطين وصحيفة الدفاع- وعشرات الصحف والمجلات ودور الطبع والنشر، كما أنّ أهم وأجمل دور السينما والمسارح في فلسطين كانت موجودة في يافا. بالإضافة إلى ذلك انتشرت فيها أيضا عشرات النوادي الرياضية والثقافية، والتي أصبح بعضها صرحا ثقافيًّا هامًّا بتاريخ المدينة الحديث مثل النادي الأرثوذكسي والنادي الإسلامي.

نقل البريطانيون أيام الحرب العالمية الثانية محطة إذاعة الشرق الأدنى إلى يافا، ومثلت هذه المحطة أحد المراكز الهامة للحياة الثقافية بالمدينة في السنوات 1941-1948.

هذا البُعد الثقافي ربط يافا بأهم المراكز الثقافية العربية في حينه كالقاهرة وبيروت، وأصبحت أحدى منارات العلم والثقافة في المنطقة.

قصّة نكبة مدينة يافا هي قصة تحوّل هذا المركز المدني الحديث، بين ليلة وضحاها، إلى حي صغير وهامشيّ يعاني التمييز والجريمة والتدمير منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا.
سقطت مدينة يافا بيد العصابات الصهيونية في 14 أيار من عام 1948، بعد العديد من المجازر البشعة، ومقاومة أهلها الشرفاء والأبطال لتلك العصابات. هذه العصابات حين احتلت المدينة كان قد تبقى من سكانها ما يقارب 4 آلاف من أصل 120 ألف نسمة.

جمع الصهاينة جميع من بقي من العرب بالمدينة وقراها في حي "العجمي" تحت حكم عسكري، والذي استمر لمدة سنتين تقريبًا. في هذه الفترة تم إحاطة حي العجمي بالأسلاك الشائكة وبجنود يهود مع كلاب حراسة. وقد أطلق اليهود استنادًا على تجربتهم المريرة في أوروبا المصطلح "غيتو" على حي العجمي لأنه شابه ما عانوا منه بأنفسهم في أوروبا القاسية، النازيّة والعنصرية.

كانت أول نكبة لمن بقي بيافا هي الحرب وويلاتها. فقد خسر كل من صمد بالمدينة، معظم أبناء عائلته وأصدقائه ومعارفه وكل بيئته الإنسانية التي تربى بها وعرفها. كما تمّ طرده من بيته بالقوة ونقله إلى الحياة بحي العجمي، وحرمانه من معظم حقوقه الأساسية كالعمل والتعليم العالي، وحتى التنقل والخروج من حي إلى حي كان يتم فقط بموجب تصريح من الحاكم العسكري. كذلك تم تعريف الدول العربية كدول معادية، ومنع العائلات من إجراء أي اتصال مع أبناء عائلاتهم وأقاربهم. هكذا عاش الأهل بشعور مثقل بعدم الاستقرار والضياع بكل ما يتعلق بحاضرهم، مستقبلهم وكل ما جرى لأبناء العائلة الواحدة.

كذلك فقد اليافيون مكانة الأكثرية في وطنهم، وأصبحوا أقلية هامشية تحت احتلال استعماري ينكر حتى أبسط حقوقهم كبشر، ويعاملهم كأعداء. وفي عام 1950 ضمّت بلدية تل-أبيب مدينة يافا لسلطتها، وأصبحت بلدية واحدة تسمى بلدية تل أبيب- يافا، يشكل فيها السكان العرب ما يقارب %2 من السكان.

منذ اللحظة الأولى وضعت بلدية تل أبيب- يافا مخطط تهويد المكان، فغيّرت كل أسماء شوارع مدينة يافا إلى أسماء عبرية لقيادات الحركة الصهيونية أو أسماء غريبة عن المكان لا تمتّ له ولتاريخه العربي العريق بأي صلة. كما عملت على تغيير الطراز المعماري للمكان من خلال هدم جزء كبير من المباني القديمة، وهدم أحياء وقرى بكاملها.

كما وسيطرت الدولة على مناهج التدريس، وحاولت من خلال تزييف وتشويه تاريخنا ولغتنا، ضرب هويتنا وانتمائنا لشعبنا وأمتنا وتاريخنا، إلا أنها فشلت بذلك فشلاً ذريعاً.

النكبة الثانية: أكبر عملية سطو مسلح في القرن العشرين

بعد احتلال يافا وتهجير أهلها لمخيمات اللجوء، ووضع من تبقى فيهم تحت حكم عسكري صارم داخل حي العجمي، ابتكرت حكومات دولة إسرائيل عام 1949 قانون "أملاك الغائبين" الذي سيطرت من خلاله دولة إسرائيل على كل أملاك الشعب الفلسطيني الذي طردته من أرضه، ووضعت هذه الأملاك تحت سيطرتها وتصرفها.

بموجب هذا القانون الجائر نصبت دولة إسرائيل موظفيها لإقصاء وتسجيل كل العقارات والمباني والمصانع والأراضي التي احتلتها وسرقتها من أصحابها الفلسطينيين، فكل من كان بعيداً عن أملاكه خسرها لصالح دولة إسرائيل. هكذا سيطرت الدولة أيضا على أملاك اليافيين الذين وضعتهم تحت الحكم العسكري بحي العجمي، وعندما أحصت أملاكهم لم يكونوا متواجدين فيها، فسُرقت دون أي اعتبار لأصحابها الأصليين.

كاتب هذه السطور أجرى عشرات المقابلات مع اليافيين الذين عاصروا هذه الفترة، وسمع مآسي الناس اليومية، الذين كانوا على بُعد عدة أمتار من أملاكهم لكنهم حُرموا منها، ووقفوا عاجزين أمام سلبها. البعض تحدث عن محاولته للعودة إلى بيته ليطلب من المهاجر اليهودي الجديد الذي استولى على البيت جزءا من فراش البيت أو بعض الصور والأشياء الرمزية أو عقد البيت، لكن صاحب البيت اعتبر عندها متسللا ومعتديا، وكان الرد على مطلبه أما بشكوى للحاكم العسكري ضده، أو بإرجاع جزء يسير من ممتلكاته له.

أما بالنسبة لبعض سكان حي "المنشية" الأثرياء، فقبل النكبة تحدثوا عن معاناتهم اليومية بالمرور بجانب أملاكهم عاجزين عن استرجاعها، ومن ثمّ وقوفهم شهودا أمام هدم الحي بالكامل. ومن أصعب الروايات كانت روايات الفلاحين الذين سُلبت منهم أراضيهم ومن ثمّ تم إرجاعهم إليها للعمل فيها كعمال لدى المهاجر اليهودي الجديد الذي استولى على أرضهم، وها هو الآن يستغل خبراتهم بالعمل بالأرض لمصالحه الاقتصادية الشخصية.

بعد سرقة أراضي وممتلكات أهل يافا، أصبحوا بأغلبية ساحقة عمالا مأجورين لدى أصحاب محلات يهود، يراقبونهم يوميا، ويربطون رزقهم بولائهم السياسي، هذا طبعا بعد أن حالفهم الحظ ليحصلوا على عمل يعيلون به أولادهم، وهكذا تبدّل الحال وانقلبت الأوضاع بأهالي يافا العرب من أصحاب أهم مركز اقتصادي بفلسطين، ليعيشوا كالأيتام على موائد اللئام.

النكبة الثالثة: العيش المشترك، عملية اغتصاب يومي!

بعد قيام دولة إسرائيل على خراب ودمار الشعب العربي الفلسطيني، قامت الدولة باستيعاب مئات آلاف المهاجرين اليهود الجدد، والذين لم تكن قد استعدت لاستيعابهم بشكل منظم. فقد قامت الدولة بتوزيع أملاك وأراضي وبيوت اللاجئين الفلسطينيين على المهاجرين، وبعد أن انتهت من هذه العملية بيافا، ولم تعد المباني تتسع لأعداد المهاجرين المتزايدة، أصبحت الشركات الحكومية الإسرائيلية تقسم كل بيت عربي بيافا لعدة شقق سكنية لتستوعب أكبر عدد ممكن من المهاجرين.

بهذه الطريقة أجبرت الدولة سكان حي العجمي العرب، الذين صادرت أملاكهم وقامت بتهجير عائلاتهم، على العيش المشترك في نفس البيت مع عائلات المهاجرين اليهود من بلغاريا والمغرب ودول أخرى. كل بيت كان به ثلاث أو أربع غرف، كان يُقسم على ثلاث أو أربع عائلات، بحيث تسكن كل العائلة في غرفة واحدة، أما المطبخ والمراحيض فتكون مشتركة مع العائلات الأخرى.

هذه العملية كانت باعتقادي أصعب مأساة للعرب الذين بقوا في يافا بعد النكبة، حيث فُرض عليهم العيش المشترك مع من يعتبرونه العدو في نفس البيت، لاسيما وأن جزءا كبيرا من هؤلاء اليهود كانوا مجندين لخدمة الجيش الإسرائيلي، فاضطر العرب اليافيون على العيش مع من هجّر أهلهم، وما زال يحارب شعبهم حتى يومنا هذا.

ويلات الحرب المباشرة، ومن ثم ضغوطات الاضطهاد والتمييز المريرين، كل هذا أدى إلى خلق شعور متزايد بالألم والعجز عند معظم رجال يافا العرب بعد النكبة. فقد عانوا من حرقة العجز وعدم المقدرة على الدفاع عن وطنهم الفلسطيني وحماية بلدهم الحبيب يافا، وحماية أملاكهم وبيوتهم بل واضطرارهم لقبول مشاركة أعدائهم بالعيش فيها.

هذا الشعور بالعجز أدى إلى حالة من الاكتئاب الشديد الذي أوقع العديد من سكان يافا في شباك الإدمان على الكحول أو المخدرات كوسيلة للهروب من عبء تحملهم لمعاناتهم اليومية، وشعورهم القاسي بالعجز أمام استرجاع أملاكهم.

بهذه النكبات الثلاث المتتالية، تحولت يافا عروس فلسطين إلى أحد أبرز أحياء الفقر والجريمة في تل أبيب.
كانت معاناة الجيل الأول الذي عاصر النكبة وما بعدها شديدة جدا. كانت معظم تطلعات ذلك الجيل هي البقاء، وبالرغم من كل ما حصل إلا أنهم لم يفقدوا الأمل بحياة أفضل، وبإمكانية عودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل النكبة خاصة مع تطور المدّ الناصري في العالم العربي.

أما الجيل الثاني والذي ولد في الخمسينيات والستينيات، فقد وُلد في واقع شديد الاختلاف عمّا ولد فيه جيل الآباء، ولأننا شعب نحب الحياة، فقد بدأ هذا الجيل بإعادة بناء نفسه من جديد من خلال الانخراط في سوق العمل بوظائف أفضل، والعمل في مجالات لم يرغب اليهود بتحمل أعبائها كالبناء وإدارة المطاعم وكراجات السيارات. إضافة إلى أن العديد من الشباب انخرطوا في مجال العمل السياسي بالحزب الشيوعي، وحركة الأرض الناصرية وتيارات أخرى.

كانت سنوات السبعينيات من القرن العشرين سنوات حراك سياسي واجتماعي كبير نسبيا، والنتيجة كانت إقامة الرابطة لرعاية شؤون العرب في يافا عام 1979 حيث بدأت هذه المؤسسة بمبادرة بعض المثقفين والوطنيين الفعالين في يافا بتأسيس جمعية وطنية تعمل عل الحفاظ على هوية البلد العربية الفلسطينية، كما وتكافح التمييز العنصري المستمر ضد عرب يافا، وتناضل من أجل القضايا الهامة وعلى رأسها قضية السكن والتربية والتعليم.

ودون شك كان أول جيل من الاتحاديين العرب اليافيين بعد النكبة، قد شكل علامة فارقة في تاريخ يافا الحديث من خلال إنشاء مؤسسة وطنية تجمع هؤلاء المثقفين من أجل متابعة القضايا المهمة لسكان المدينة العرب ورعاية شؤونهم.
كانت معاناة الجيل الأول الذي عاصر النكبة وما بعدها شديدة جدا. كانت معظم تطلعات ذلك الجيل هي البقاء، وبالرغم من كل ما حصل إلا أنهم لم يفقدوا الأمل بحياة أفضل، وبإمكانية عودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل النكبة خاصة مع تطور المدّ الناصري في العالم العربي.

أما الجيل الثاني والذي ولد في الخمسينيات والستينيات، فقد وُلد في واقع شديد الاختلاف عمّا ولد فيه جيل الآباء، ولأننا شعب نحب الحياة، فقد بدأ هذا الجيل بإعادة بناء نفسه من جديد من خلال الانخراط في سوق العمل بوظائف أفضل، والعمل في مجالات لم يرغب اليهود بتحمل أعبائها كالبناء وإدارة المطاعم وكراجات السيارات. إضافة إلى أن العديد من الشباب انخرطوا في مجال العمل السياسي بالحزب الشيوعي، وحركة الأرض الناصرية وتيارات أخرى.

كانت سنوات السبعينيات من القرن العشرين سنوات حراك سياسي واجتماعي كبير نسبيا، والنتيجة كانت إقامة الرابطة لرعاية شؤون العرب في يافا عام 1979 حيث بدأت هذه المؤسسة بمبادرة بعض المثقفين والوطنيين الفعالين في يافا بتأسيس جمعية وطنية تعمل عل الحفاظ على هوية البلد العربية الفلسطينية، كما وتكافح التمييز العنصري المستمر ضد عرب يافا، وتناضل من أجل القضايا الهامة وعلى رأسها قضية السكن والتربية والتعليم.

ودون شك كان أول جيل من الاتحاديين العرب اليافيين بعد النكبة، قد شكل علامة فارقة في تاريخ يافا الحديث من خلال إنشاء مؤسسة وطنية تجمع هؤلاء المثقفين من أجل متابعة القضايا المهمة لسكان المدينة العرب ورعاية شؤونهم.
مع ازدياد عدد السكان العرب بمدينة يافا، وهجرة آلاف العرب من الجليل والمثلث إليها، اختلف وبشكل كبير واقع هذه المدينة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، كما ترعرع جيل جديد هو الثاني بعد النكبة، وكان حظّه من التعليم الأكاديمي أفضل بكثير من الجيل الذي سبقه.

استفاد هذا الجيل مما بناه مَن سبقه اقتصاديا، وبدأ يعيد بناء ذاته من خلال استقلاله الاقتصادي نسبيا عن طريق إدارة مصالح مختلفة خاصة في مجال إدارة المطاعم إقامة شركات مقاولات بناء، وكراجات لتصليح السيارات. كما استطاع البعض إكمال دراساتهم الأكاديمية فيما يخص المهن الحرة كالمحاماة، الطب، الهندسة، تدقيق الحسابات وغيرها..

ازدياد عدد السكان وتحسين وضعهم الاقتصادي أعاد الآلاف اليافيين إلى الانتشار مجددا في العديد من أحياء المدينة خارج حي العجمي وذلك بسبب الضائقة السكنية بالحي، وهدم آلاف وحدات السكن داخله، وهجرة اليهود من يافا إلى المدن المجاورة بسبب إهمال بلدية تل أبيب ليافا على مدى عشرات السنين.

منذ الثمانينيات بدأت يافا تشهد تقدما ملحوظا بجميع مجالات الحياة، وبدأ ذلك يظهر بوضوح مع استعادة أبناء المدينة العديد من المحلات التجارية، وترميم المساجد والكنائس والمباني العامة، بالإضافة إلى رفع نسبة خريجي الجامعات والمعاهد العليا سنويا، ومساهمتهم في إعادة بناء مجتمعهم مع الحفاظ على هويتهم الوطنية وانتمائهم وحبهم الكبير للمدينة.

بالطبع محاولات تهويد المكان استمرت، إلا أن سكان المدينة أصبحوا عاملا فاعلا ومؤثرا في مدينتهم وكل ما يتعلق بحياتهم. وبالرغم من كونهم أقلية ضعيفة في مركز دولة إسرائيل، وهو مدينة تل أبيب، إلا أنهم يحاولون التحدي والصمود والتأثير على مستقبل المدينة ومستقبل أبنائهم.

وقد توّج هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، موقف أهل يافا المشرف مع بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 حين نزل المئات منهم للشوارع، ونظموا الاعتصامات والمظاهرات ضد ما يجري لأبناء شعبهم في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ليلتحم من جديد أبناء الشعب والجسد الواحد الذي مزقته الحركة الصهيونية إلى أشلاء متناثرة.
في ندوة حول آفاق المشهد الفلسطيني في جامعة بير زيت في الذكرى الخمسين للنكبة، قام المؤرخ مارك ليفين بإلقاء محاضرة حول مدينة يافا وكيف تغيّرت من مركز فلسطين إلى ما هي عليه اليوم، وكانت ردّه فعل الكثيرين من المحاضرين والطلاب متوقعة، حيث بدأوا بالبكاء على أطلال يافا.

استمرت ردود الفعل والتعليقات على نفس الوتيرة حتى أتى ابن يافا البار المرحوم د. إبراهيم أبو لغُد، وأذكر جيدا تعليقه على المحاضرة حيث قال ما معناه: لماذا الاستمرار بهذا البكاء؟ ماذا ينفعنا؟ هل سيُعيد لنا يافا؟ أنّ ما يجب فعله من اجل يافا عروس فلسطين هو دعم مقومات الصمود لأهلها ماديًّا ومعنويًّا. لقد بنى أجداد هؤلاء السكان يافا بالماضي، وهم يستطيعون إعادة بنائها من جديد في حال توفر لديهم ما يساعدهم على ذلك من مكونات مادية ومعنوية.

أهم وأول مشروع عملي يجب بناؤه والعمل على إنجاحه هو مشروع التواصل. تواصل كل من يحمل جواز سفر أجنبي يمكنه زيارة المدينة بالقدوم إليها مع أبناء عائلته من اجل التعرف على المدينة اليوم، وبناء علاقة معها ومع سكانها العرب.

تواصل جميع اليافيين مع بعضهم البعض من خلال إقامة مهرجان دولي في أي مكان يجمعهم سويا في كافة بقاع الأرض.

تواصل عبر الانترنت بين جميع اليافيين، وتعرفهم على أحوال المدينة ومكانها بشكل منظم ومستمر.

لن نستطيع إرجاع عجلة الزمان إلى الوراء، لكننا نستطيع أن نسعى لبناء مستقبل أفضل لمدينة يافا ولليافيين في كل أنحاء العالم، والذين يُقدّر عددهم اليوم بما يقارب 700 ألف نسمة.

وأخيراً مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة..

التعليقات