استعادة الأثر (2/2): غزّة الانتدابيّة في سيرة حمدي عبد الرحمن الحسيني (6)

خرجت غزّة عن بكرة أبيها في مطلع آب/ أغسطس من ذلك العام، بتظاهرة احتجاج على حكومة فلسطين الّتي مهّدت السبيل لقيام المؤتمر التبشيريّ في المدينة، إلى حدّ أطلقت فيه سلطات الاحتلال البريطانيّ الرصاص على المتظاهرين...

استعادة الأثر (2/2): غزّة الانتدابيّة في سيرة حمدي عبد الرحمن الحسيني (6)

الجامع العمري في غزّة (أرشيفيّة - Getty)

ملاحظة (هذه المادّة السادسة، وهذا الثاني منها، من سلسلة بعنوان "استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير". ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين.

"لورنس... هل هؤلاء الناس خطرون؟ يظهر أنّهم مسرورون؟ ما الّذي يقولونه؟! فأجابه لورنس مطمئنًّا إيّاه... إنّهم ليسوا خطرين، ولكنّ كلماتهم لا تدلّ على ترحيب، بل عداء، إنّهم يصرخون: يسقط الاستعمار البريطانيّ... تسقط الصهيونيّة". كان هذا لورنس العرب مطمئنًّا ونستون تشرتشل في غزّة يوم أن مرّا بها قادمين بالقطار من مصر ومعهما المندوب السامي هربرت صموئيل في آذار/ مارس 1921، تلك الزيارة الشهيرة الّتي يتذكّر حمدي الحسيني خروج الغزيّين إلى شارع جمال باشا – صار شارع عمر المختار لاحقًا – يوم أن مرّ به الوفد الإنجليزيّ الزائر، وقد أمطرهم الغزيّون بوابل من الحجارة، فكانت عاصفة احتجاجيّة على الزيارة.

بحسب الحسينيّ، فإن تشرتشل قد حاول التحدّث إلى الغزيّين المتجمهرين من داخل سيّارته المكشوفة، وما كاد أن ينتهي من حديثه حتّى انقضّ أحد الشباب الغزيّين على السيّارة، وأمسك برأس تشرتشل، وأخذ يضرب به رأس الجالس في جواره هربرت صموئيل، لتنقضّ على الشابّ مجموعة من الجنود، وأخذوه وهم ينهالون عليه ضربًا لمكان غير معلوم. لم يعد أحد يتذكّر اسم ذلك الغزيّ، لكن تشرتشل ظلّ يتذكّر غزّة المدينة الّتي رفض أهلها استقباله بعدما كادت أن تطيح برأسه. وممّا ذكره عجاج نويهض في سيرته "ستّون عامًا مع القافلة العربيّة" بأن هربرت صموئيل كان قد أطلق عليه الرصاص في فلسطين مرّتين، مرّة في مدينة بيسان، والثانية في غزّة هاشم ونجا منهما.

حمدي عبد الرحمن الحسيني (أرشيفيّة)

كان وعي الغزيّين بدور الاستعمار البريطانيّ في دعم المشروع الصهيونيّ مبكّرًا منذ مطلع عشرينيّات القرن الماضي، ويحسب للجمعيّة الإسلاميّة – المسيحيّة دورها في تشكيل ذلك الوعي، إذ كانت أوّل جمعيّة تأسّست بعد الاحتلال البريطانيّ للبلاد في مطلع عام 1921، والّتي ضمّت في صفوفها النخبة من أبناء مدينة غزّة، من مسلميها ومسيحيّيها بقيادة شكري الحسيني المدرّس ومدير المعارف في غزّة وهو أخو صاحب هذه السيرة. وقد أخذت الجمعيّة على عاتقها منذ تأسيسها بثّ الوعي، وتنظيم الاحتجاجات والمظاهرات، وتمثيل مدينة غزّة في المحافل السياسيّة والمؤتمرات الوطنيّة الفلسطينيّة. وكان للجمعيّة فروع في مدن فلسطينيّة أخرى، وفي حينه كان مطلب "لن نتخلّى عن استقلال سورية الممتدّة من جبال طوروس جنوب تركيّا حتّى رفح جنوب فلسطين وعدم فصل فلسطين عن سورية"، أحد أهمّ مطالب خطاب الجمعيّة الإسلاميّة – المسيحيّة في فلسطين وسائر بلاد الشام.

وغير ذلك، فقد تحسّس الغزيّون المشروع الصهيونيّ مبكّرًا، منذ ما قبل الحرب العالميّة الكبرى الأولى، بعد هجرة بعض اليهود إلى المدينة قادمين بعد عام 1885م من مدينة طرابلس الليبيّة، وكذلك مجموعة من يهود روسيا الّذين كانوا نواة الاستيطان الأولى في المدينة بشرائهم بعض الأراضي في رمال غزّة الشاطئيّة. ومن هنا، ليس من عبث أنّ ثورة البرّاق سنة 1929 في غزّة قد اتّخذت شكل طرد اليهود من المدينة وبلا رجعة إلى ما بعد النكبة.

كان ذلك، وبالكاد نفضت غزّة المدينة غبار الحرب عنها، إذ يصف الحسيني كيف جاءت أحداث الحرب العالميّة الأولى على مدينته بالخراب والدمار، الأمر الّذي أجبر فيه الغزيّين على ترك المدينة إلى ريفها ومدن فلسطينيّة أخرى. ليعودوا إليها من منفاهم القسريّ بانقضاء الحرب، والبؤس والفقر على وجوه أبنائها بحسب ما ظلّ يتذكّر الحسيني ليجدوا بيوتهم وقد دمّرت تمامًا، وقد هدّهم الفقر والجوع والمرض، كما أنّه لم يعد للمدينة منهم إلّا نصفهم، أي ما يقارب 18 ألف نسمة من أصل ثلاثين ألفًا قبل الرحيل. ممّا يفسّر بدوره، نقمة الغزيّين المبكّرة على الوجود البريطانيّ في مدينتهم الّتي دمّرتها قوّات الحلفاء أثناء الحرب.

في تلك الأحداث، كان صاحب السيرة حمدي الحسيني يعمل مدرّسًا في المدرسة الأميريّة الّتي افتتحت في غزّة بعد الحرب، وقد عوقب من قبل الحاكم العسكريّ بنقله منها إلى مدرسة بئر السبع بتهمة التحريض على سلطات الانتداب ومشاركته في تنظيم الاحتجاج على زيارة الوفد البريطانيّ للمدينة. إلّا أنّ الحسينيّ رفض نقله، وآثر الاستقالة، لينتقل من غزّة إلى مدينة القدس الّتي عمل فيها موظّفًا في الكلّيّة الإسلاميّة بالقدس التابعة للمجلس الإسلاميّ الأعلى بقيادة المفتي الحاجّ أمين الحسيني. كما انتقل بعدها إلى مدينة الرملة، ليعود مدرّسًا فيها سنة 1924.

عمل حمدي الحسيني كذلك صحافيًّا، وقد أرفقت في سيرته عدّة مقالات من تلك الّتي كتبها في عشرينيّات القرن الماضي في صحيفة الكرمل، وقد كتب مقالاته تلك باسم مستعار هو "عمرو بن عبيد". كما كان له دور في مساندة أهالي مرج ابن عامر ووادي الحوارث في قضيّتهم المعروفة بعد بيع أراضيهم للحركة الصهيونيّة ما بين عامي 1924-1926، فضلًا عن دوره التنظيميّ في الكفاح المسلّح، بنقله السلاح تهريبًا من السعوديّة إلى جبل الدروز في سورية. ثمّ انتقاله عام 1926 ليعمل مدرّسًا في مدينة حيفا، ثمّ إلى يافا سنة 1927 محرّرًا لجريدة "صوت الحقّ"، وهي الصحيفة الّتي تمّ نقلها ونقل مقرّ إصدارها في العام التالي من يافا إلى غزّة مدينة الحسيني. ممّا يبيّن دور غزّة والشخصيّة الغزيّة في علاقتهما بباقي مدن فلسطين في حينه.

عاد حمدي الحسيني في عام 1928، إلى مدينة غزّة مسقط رأسه، وقد ترأّس فيها "جمعيّة الشبّان المسلمين"، وممّا يذكر في سيرته لنشاط الجمعيّة الّتي كان يرأسها في غزّة، نضالها ضدّ الإنجليز، وكذلك ضدّ سياسة "التبشير" الّتي اتّخذت من مستشفى المعمداني برئاسة الدكتور "هارجريفز" و "سمعان" وآخرين من البروتستانت الصهاينة في المدينة، مقرًّا للتبشير بين المرضى والفقراء والمتردّدين. كما تبيّن سيرة الحسيني، موقف الروم الأرثوذكس من مسيحيّي المدينة المضادّ لعمليّة التبشير فيها، بل إنّهم وقفوا إلى جانب إخوتهم من شباب المسلمين عندما قامت قوّات الاحتلال البريطانيّ بسجن مائة شابّ منهم سنة 1929 إثر قيامهم بمظاهرات ضدّ هؤلاء المبشّرين بالمستشفى المعمدانيّ.

كما خرجت غزّة عن بكرة أبيها في مطلع آب/ أغسطس من ذلك العام، بتظاهرة احتجاج على حكومة فلسطين الّتي مهّدت السبيل لقيام المؤتمر التبشيريّ في المدينة، إلى حدّ أطلقت فيه سلطات الاحتلال البريطانيّ الرصاص على المتظاهرين، بعد أن تجمّع عشرة آلاف منهم في الجامع العمري. لتخضع غزّة على أثر تلك الاحتجاجات إلى ما يسمّى بالأحكام العرفيّة.

كان المسجد العمري، جامع الصلاة، وصلة الغزيّين بكلّ ما يتعلّق بفلسطين، ففيه يعبّأ الناس وتنطلق منه التظاهرات، أو تنتهي فيه مع الخطب السياسيّة الحماسيّة، فالتحاق مدينة غزّة بأحداث البراق في تشرين الأوّل/أكتوبر 1929، بدأ من الجامع العمري بعد أن وفدت الوفود بهتافها الوطنيّ – العروبيّ إليه من باقي جوامع المدينة بعد الصلاة كما يذكر الحسينيّ. لم تكن أحداث البراق في غزّة دمويّة كما كانت في القدس، غير أنّه تمخّض عنها طرد اليهود المستوطنين البؤرة الاستيطانيّة على طريق مصر كما يقول الحسينيّ، ومنهم كذلك يهود غزيّين من أبناء المدينة تاريخيًّا. الأمر الّذي يفسّر بدوره، نقمة الصهاينة على غزّة وأهلها منذ ذلك الحين.

التعليقات