ب. نادرة شلهوب - كيفوركيان:
* نزع الطفولة الفلسطينية سياسة إسرائيلية تمتد على طول الزمن والوطن الفلسطيني.
* في أستراليا سرقوا الطفولة وفي أميركا "أنقذوها" من الهندي الأحمر وفي فلسطين يقتلونها.
* ما تسميها إسرائيل أبراج مراقبة في باب العامود هي عبارة عن صناديق موت.
* في القدس يدخلون شرايين حياة المدينة ويهودون البلدة القديمة بيتا بيتا وغرفة غرفة.
بعد انقشاع عاصفة التحريض التي رافقت أقوال لها خلال محاضرة في جامعة كولومبيا الأميركية، والمتعلقة باستخدام إسرائيل للأطفال والفضاءات الفلسطينية كمختبرات تجارب لأسلحتها حديثة الصنع، وبعد ساعات وأيام طويلة قضتها لغرض البحث وسط أطفال القدس المحتلة على درجات باب العامود، وتحت مرمى ما وصفتها بـ"صناديق الموت"، صدر باللغة الإنجليزية كتاب المحاضرة في الجامعة العبرية وجامعة لندن، بروفيسور نادرة شلهوب - كيفوركيان، تحت عنوان "الطفولة المحتجزة وسياسة نزع الطفولة"، والذي ينظم مركز مدى الكرمل، يوم الجمعة، المقبل ندوة على شرف إطلاقه في مقر جمعية الثقافة العربية في حيفا.
نادرة الباحثة في موضوع إجرام الدولة، تسكن داخل أسوار البلدة القديمة في القدس، في سوق الحصر الذي تمّ تحويله إلى شارع "حاباد"، وهي تعيش بشكل يومي حالة ومحاولات سيطرة المستوطنين على البلدة القديمة بيتا بيتا وغرفة غرفة، ودخولهم في شرايين حياة سكان المدينة.
كذلك تعمل شلهوب - كيفوركيان مع عائلات الأطفال الشهداء الذين احتجزت جثامينهم في البرادات الإسرائيلية، وعلى دراية بمعاناتهم، كما رافقت عائلة الشهيد الطفل نسيم أبو رومي، الذي خرج ابنها ليصلي يوم العيد فسمعت خبر استشهاده من وسائل الإعلام ولم تعرف أين ولماذا؟ ثم لم يكفها مصابها لتدخل في تحقيقات بوليسية ثم احتجاز الجثمان، وما يمثله من ضغط نفسي على العائلة التي تريد أن تكرم ميتها بدفنه على أقل تقدير.
تلك هي يوميات عملي، كما تقول في حديثها لـ"عرب 48"، من الشهيد محمد أبو خضير وحتى الشهيد حسن مناصرة إلى نسيم أبو رومي، تلك عائلات تربطني بها علاقة وجدانية وعاطفية، وهذا محيطي وفضائي الوطني، ومن الطبيعي ألّا يعجب الإسرائيليين، وحتى زملاء العمل منهم في الجامعة العبرية الذين استغرب بعضهم كيف أجند علاقاتي وأقوم بحملة دولية لتحرير جثمان الطفل نسيم الذي يعتبرونه إرهابيا ويدعون أنّه حاول طعن جنود إسرائيليين في الحرم.
بالنسبة لي نسيم أبو رومي هو مجرد طفل عمره 14 عاما ووزنه 36 كغم، لا أعتقد أنه بهذه المعطيات يشكل خطرا على إسرائيل وجنودها الذين قتلوه رميا بالرصاص بدلا من "تحييده" (بمصطلحاتهم) واعتقاله، وفوق ذلك يحتجزون جثمانه ويمنعون أهله من دفنه.
المشكلة هنا باختلاف الخطاب، تقول شلهوب - كيفوركيان، وتشرح: "أنا كباحثة لا أعتقد أن من الممكن فهم النفس الإنسانية دون فهم الظروف السياسية التي تعيش في إطارها، ولا أفهم من ينادون بمنع الأطفال من المشاركة في المظاهرات كي لا يقتلوا، أو يطالبون بمنعهم من إلقاء الحجارة حتى لا يسجنوا، إنّما تلك هي القراءة المنقوصة التي تفتقر إلى تأثير هيكلية القمع الدائم، القراءة المجردة المنزوعة من التاريخ والجغرافية".
وأوضحت الباحثة: "أنا أنصت لصوت الأطفال الذين اجلس معهم على درج باب العامود، وإلى صوت صمود شقيقة نسيم الصغيرة، التي فاجأتني ونحن بانتظار الذهاب إلى المحكمة لبحث مسألة تحرير الجثمان بتساؤلها: ‘إنّه ميت؛ كيف يريدون محاكمة ميت؟‘ أنا أسمع هذه الأصوات وعليها أبني تحليلي".
بهذا المفهوم، يحكي الكتاب عن الحجز (حجز الجثامين)، ونزع الطفولة الفلسطينية، ويستند على تحليل نفسيٍّ مجبولٍ بمعاناة الأهالي وبالإرادة التي جسّدتها جملة صمود بقولها "لا يستطيعون محاكمة ميت"، التي تتحدى كلّ الفكر الإسرائيلي، وهو بحث كان من الطبيعيّ، برأيها، أن يغضب الإسرائيليين وبعض الأميركيين.
يبدأ الكتاب بمقولة واضحة جدا تقول أن دراسات علم النفس وعلم الإجرام غير كافية لوحدها لقراءة الطفولة الفلسطينية، فهي مختلفة عن أنماط أخرى تعرضت للاستعمار الاستيطاني في أستراليا وأميركا وكندا وغيرها.
ففي أستراليا اعتمدوا نموذجًا يسمى بـ"الطفولة المسروقة"، حيث أخذوا أطفالا من أهاليهم ووضعوهم في مؤسسات للقيام بـ"تحضيرهم" و"تطويرهم"، كما ادّعوا؛ وفي كندا فعلوا الأمر ذاته وفي الولايات المتّحدة أطلقوا على هذه العملية "أن تقتل الأحمر من أجل إنقاذ الطفل"، بمعنى أن تنقذ الطفل من "تخلفه" و"عفنه" بتعابير المستعمرين من خلال نزعه من بيئته.
في المقابل فإنّ في الطفولة الفلسطينية شيئًا مختلفًا، وتدّعي شلهوب-كيفوركيان أنه لا يمكن لأحد أن يجرح الطفولة الفلسطينية، فتقول: "أنا أجلس لساعات في باب العامود، أراهم قادمين من الشيخ جراح، ومخيم شعفاط، وأرى فيهم الحياة والعنفوان وربما هذا ما يخيف الإسرائيلي الذي يريد أن يحول كل طفل منهم إلى مجرم قاتل وإرهابي".
وتوضح الباحثة أنّ هذا ما قصدته عندما تحدثت عن احتجاز جثمان نسيم أبو رومي أو فاطمة حجيجي، البالغة 14 من العمر عاما والّتي قتلت في باب العامود بعد أن اخترقت جسمها 36 رصاصة؛ "وأنا أقول إن إسرائيل ليس كالأميركيين الذين أرادوا قتل الهندي الأحمر لإنقاذ الطفل، ولا سرقة الطفولة على غرار الأستراليين، بل هي تستعمل القتل كأداة لبناء كيانها والطفل الفلسطيني بما يمثله من استمرارية في حياة الفلسطيني يخيفها، ولذلك تنزع طفولته وتحوله إلى إرهابي ليتسنى لها قتله".
عرب 48: ولكن الطفولة الفلسطينية غير مقصورة على القدس، فكيف تعمّمين دراستك؟
كيفوركيان: صحيح، ولذلك فإن الكتاب يبدأ من 1948 ومن اللد تحديدا، مما كان يسمى "الغيتو العربي" هناك، وأنا أورد أحاديث على لسان من كانوا أطفالا في ذاك الزمان والمكان وبينهم المرحوم د. بطرس أبو منة، إذ أقوم بعملية تأريخ للطفولة الفلسطينية، وأقول إنّ من غير الممكن الحديث عن الطفل الفلسطيني دون الحديث عن التاريخ، ولذلك أبدأ بجرائم الاحتلال في اللد، ثم أنتقل إلى الخليل لأصل الماضي بالحاضر وغيتواته الراهنة.
في الخليل رأيت كيف يحبسون الفلسطينيين في "أقفاص"، ولكنّني استنكفت عن استعمال المصطلح عندما قالت لي إحدى الطفلات: "نحن لسنا حيوانات لتقولي إننا محبوسون في أقفاص"، فآثرت استعمال تعبير "الزنزانة" وشاهدت ونقلت كيف تصير الطفولة التي تكبر في زنزانة.
ومن الخليل واللد أذهب إلى النقب واحكي عن قضية الطفلة البدوية الفلسطينية البالغة من العمر 12 عاما، التي احتجزها جنود "مشلاط نيريم" عام 1949 وصوتوا على اغتصابها أو قتلها وبالتالي نفذوا فيها اغتصابًا جماعيًّا مهينًا قبل أن يقوموا بقتلها.
ثم أربط بين الماضي والحاضر الذي يعيشه أطفال النقب اليوم، في القرى غير المعترف بها، وكيف تحرمهم إسرائيل من أبسط شروط الحياة الإنسانية مثل الماء والكهرباء وخدمات الصحة والتعليم وغيرها.
عرب 48: هذا يعني أن الكتاب يغطي الحقب الزمنية المختلفة والمناطق الجغرافية الواقعة على امتداد الوطن الفلسطيني؟
كيفوركيان: صحيح، ولكن لم استطع الوصول إلى مخيمات اللاجئين في الشّتات، خاصة في سورية ولبنان، حيث نصفنا الآخر هناك ليس بشكل مجازي فقط، فأنا إخوتي الثلاثة كانوا في اليرموك ونزحوا إلى مخيمات لبنان ويعيشون هناك في ظروف صعبة.
رغم أنّ الكتاب يعرّج على الخليل والنّقب واللّد، ليضع احتجاز الطفولة الفلسطينية في إطاره الجغرافي والتاريخي الشامل، إلا أنّه يتركز في القدس ويتناول إلى جانب اعتقال الأطفال وقتل الأطفال واحتجاز جثامينهم، كيفيّة تحويل البيت إلى سجن وتحويل الأهل إلى سجانين، وكيف يدخل الاحتلال إلى قلب العلاقة الحميمية القائمة داخل الأسرة ويخلخلها.
عرب: ولكن ما هو أكثر ما أثار الإسرائيليين وإعلامهم ووزير تعليمهم بينيت الذي طالب باقالتك من الجامعة العبرية؟
كيفوركيان: كنت في أمستردام وهناك تحدثت عن مصطلح نزع الطفولة الفلسطينية، ثم انتقلت إلى أمريكا حيث ألقيت محاضرة حول الموضوع في جامعة كولومبيا، وهناك تحدّثت عن قراءتي للمكان الذي تعتبره إسرائيل الأكثر خطورة في القدس، ساحة باب العامود، التي نصبت فيها ما تسميها هي أبراج مراقبة وما يسميها أطفال القدس "صناديق القتل".
نقلت قراءتي المستندة إلى شهادات الأطفال الذين قالوا إن الجنود في أبراج المراقبة تلك يجلسون وبنادقهم مجهزة وموجهة بانتظار من يقتلوه، ولذلك أنا لن اسميها أبراج مراقبة بل "صناديق قتل" كما وصفها الأطفال.
وخلال محاضرتي أوضحت أنّ فوهات البنادق التي تكون موجهة نحو الطالبات خلال ذهابهن إلى مدارسهن صباحا لا تقتصر على نزع الطفولة فقط، بل هي بحاجة إلى تحليل جنسي سياسي كون هذا السلاح هو استمرار للعضو الذكري الذي يهدد بالاغتصاب، وهنا يوجد اغتصاب للأرض واغتصاب لصباح الأطفال.
طبعا، من الصعب على الأذن الإسرائيلية أن تسمع هذا الكلام، وهذه مشكلتهم وليست مشكلتي، فانا باحثة صادقة مع المواد التي أقرأها، والمعطيات التي أسمعها وأشاهدها، وأبحاثي هي أبحاث تعتمد كل المعايير الأكاديمية ومنشورة في أرقى المجلات العلميّة وهذا البحث بالذات منشور بالتعاون مع جامعة كامبردج، ولذلك فإن الجامعة لم تخضع لحملة التحريض والمطالبات بفصلي من قبل بينيت وشكيد وغيرهم.
عرب 48: إذن فإن القيمة العلمية لأبحاثك ومكانتك الأكاديمية هي من حماك في وجه حملة التحريض؟
كيفوركيان: لا يجب أن يتوقع مني أحد أن أقوم بقراءة وبتحليل معطيات ميدانية وسياسية دون أن اربط ذلك بالأيديولوجيات القائمة في الدولة، بغض النظر إذا كانت تلك الدولة اسمها أميركا أو كندا أو إسرائيل، فإذا ما كنت صادقة مع المعطيات ومع ما تراه عيون الأطفال لا أكف عن كوني أكاديمية.
وما يحدث في القدس يتجاوز الاحتلال المادي للمدينة، إلى احتلال الحواس، يدخلون تفاصيل حياة المقدسيين ويهودون البلدة القديمة حائطًا بعد آخر، ويلعبون بالجغرافيا لكتابة تاريخ جديد، ولكنهم يخشون أطفال القدس وفلسطين.
نادرة شلهوب - كيفوركيان هي باحثة فلسطينيّة، تشغل كرسيّ لورانس دي-بييل في معهد علم الإجرام في كلية الحقوق وكلية الخدمة الاجتماعية والرفاه الاجتماعيّ في الجامعة العبريّة في القدس.؛كما وتعمل كأستاذة كرسي في القانون العالمي في جامعة لندن QMUL.
تتمحور أبحاثها في مجال علم النفس الاجتماعي، القانون والمجتمع، المعاناة الإنسانية والألم في واقع الاستلاب، والسلطة والقوّة. وتبحث في مجال جرائم الدولة المرتكبة بحق النساء والأطفال وبأشكال أخرى من العنف المُجَنْدَر، وجرائم سوء استخدام السلطة في السياقات الاستيطانيّة الكولونياليّة، والرقابة والترصّد، والخبيرة في ثيولوجيا الأمن الإسرائيلية، وتحليل الصدمات النفسيّة في المناطق المعسكَرة والخاضعة للاستعمار.
التعليقات