11/01/2020 - 18:00

سلامة: النيولبرالية استبدلت السلام بالاقتصاد ورسخت النظام الاستعماري للاحتلال

حول السياسة النيولبرالية ودورها في التحولات التي طرأت داخل إسرائيل وعلاقة ذلك بالتسوية السياسية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، كان هذا الحوار مع الباحث عبد الغني سلامة.

سلامة: النيولبرالية استبدلت السلام بالاقتصاد ورسخت النظام الاستعماري للاحتلال

مشهد يومي: عمال من الضفة المحتلة في حاجز إسرائيلي (Eduardo Castaldo, Italy)

الباحث عبد الغني سلامة:

* استبدلت النيولبرالية السلام بالاقتصاد ورسخت النظام الاستعماري الذي تطبقه إسرائيل

* الأحياز التجارية المشتركة تؤدي إلى تخفيض حدة العداء وخلق واقع ثقافي اجتماعي جديد

* الدول المانحة هدفت إلى خلق منظومة اقتصادية واحدة قوامها النيولبرالية

* ملحق أوسلو الاقتصادي أضفى الشرعية على العلاقة الاستعمارية غير المتكافئة


بالتوازي مع استخدام النيولبرالية كأداة لإعادة بناء العلاقات الداخلية في إسرائيل وتوطيد سلطة حكم اليمين، استخدمت إسرائيل وحلفاؤها النيولبرالية كأداة لتثبيت وتكريس الاحتلال وإدامته.

وأظهرت تجربة عقدين وأكثر، أن البرنامج النيولبرالي الذي جرى اعتماده في إطار عملية أوسلو جلب الضرر للفلسطينيين من خلال إسهامه في إرساء دعائم الاستعمار، حيث تحولت "التنمية المفترضة" إلى شكل من أشكال الهيمنة على رقاب الفلسطينيين.

وكانت النتيجة أن المانحين ساعدوا في إضفاء طابع رسمي على العلاقة الاستعمارية غير المتكافئة من خلال حملهم لواء الاتفاقيات، من قبيل بروتوكول باريس، الذي أفضى إلى توطيد أركان العلاقة التي تفتقر إلى َّالتكافؤ على نحو صارخ بين إسرائيل والفلسطينيين، والترتيبات التجارية التي انعدمت فيها المساواة إلى حد كبير، مما أفضى بحسب الباحث جيرمي وايلدمان، إلى إعادة اختراع غزو الأرض الفلسطينية المحتلة وتقديمه في صورة اتحاد شامل وإخفاء الاحتلال العسكري ذي النزعة التدميرية باللغة الليبرالية التي واكبت بناء السلام.

الباحث عبد الغني سلامة الذي أورد هذا الكلام تحت عنوان "النيولبرالية أداة لتثبيت الاحتلال" في إطار مقال نشر في مجلة قضايا إسرائيلية، يقول إن هذا الوضع منح الاحتلال صفة شرعية جديدة، وأتاح لإسرائيل أن تبسط سيطرتها التامة على الفلسطينيين وعلى اقتصادهم في الأرض المحتلة.

حول السياسة النيولبرالية ودورها في التحولات التي طرأت داخل إسرائيل، وعلاقة ذلك بالتسوية السياسية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، كان هذا الحوار مع الباحث عبد الغني سلامة.

عرب 48: هل أوردت نماذج أخرى تنجح فيها السياسة النيولبرالية في تحييد الصراعات الإثنيّة والعرقيّة والقوميّة، من خلال خلق أحياز اقتصادية مشتركة، وقمت بعرض نتائج اختبار قام به باحث إسرائيلي على مجمعي المالحة وماميلا في القدس في هذا الشأن؟

سلامة: صحيح، الباحث الإسرائيلي مارك شطيرن تناول في سياق بحث قام به في مجمعين تجاريين في القدس، مجمع المالحة في القدس الغربية، ومجمع ماميلا الواقع على خط التماس بين القدس الشرقية والغربية، وهناك أجرى مقابلات ميدانية مع زبائن وتجار وبائعين فلسطينيين وإسرائيليين، ليرى بعد ذلك كيف تؤثر قوى السوق والثقافة الاستهلاكية في عالم ما بعد الحداثة والعولمة على الصراع.

الباحث عبد الغني سلامة

وقد برهن الباحث أنه في الوقت الذي تولد النيولبرالية مبنى القوة، وتعززه أيضا؛ فإن هذه الإصلاحات تخلق أحياز تماس تقوض بنية العلاقات الراهنة بين جماعات التعايش (أو الصراع) في الأحياز العامة بين الإسرائيليين والفلسطينيين بحيث تتحدى سياسات الفصل، وقد تؤدي إلى تحولات في الوعي والأحاسيس المتبادلة. بمعنى أن احتكاك الناس في تلك الأحياز، وتحت تأثير وأجواء النيولبرالية، وقوانين السوق قد يؤدي إلى تخفيض حدة العداء بين الجماعات المتنازعة، وخلق واقع ثقافي اجتماعي جديد يقوم على أساس المنفعة والربح وتبادل الخدمات والمصالح، أي أن خصخصة إدارة الحيز العام والتحكم فيه تفضل اعتبارات الربح والخسارة على اعتبارات ذات علاقة بالهوية القومية.

عرب 48: إذن لا غرابة في أن يتحدث نتنياهو عن ما يسميه سلام اقتصادي وهو يعني مقايضة الأرض والسيادة بالمنافع الاقتصادية الفردية للفلسطينيين؟

سلامة: السياسة النيولبرالية التي تبنتها حكومة الليكود بقيادة نتنياهو كسرت القاعدة التي تربط بين النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، حيث نجحت إسرائيل لأول مرة بالوصول إلى توازن اقتصادي بفعل الزيادة الملحوظة في حجم الصادرات الإسرائيلية، وإحداث نمو وانتعاش اقتصادي، وهذا خلق قناعة لدى الطبقة الحاكمة وقاعدتها الانتخابية بعدم وجود حاجة أو مصلحة للتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، ويكفي لغرض التوصل لاستقرار سياسي ونمو اقتصادي أن تكون الحكومة اليمينية قوية وغير معرضة لهزات داخلية.

هكذا نجح حزب الليكود بأحداث هذا التحول الجذري في المجتمع الإسرائيلي وداخل الوعاء الأيديولوجي المتمثل بالصهيونية، وأن يسقط من أجندتها شعارات مثل المواطنة والاشتراكية والمساواة، التي رسختها قيادتها التاريخية، حتى لو كانت زائفة، وأن يعيد الصهيونية إلى طبيعتها الأولى كمنظومة استعمارية تقوم على الأسطورة الدينية والتفوق العرقي.

سوق في الضفة الغربية

عرب 48: يبدو أن الليكود لم يكتف بإسقاط شعارات ومقولات بل أسقط بُنى وقلاع اقتصادية واجتماعية شكلت قاعدة حزب "مباي"(العمل)؟

سلامة: منذ صعود الليكود إلى الحكم عام 1977 بدأ بتطبيق السياسة الاقتصادية النيولبرالية، أوّلًا، لأن إسرائيل مشروع استعماري مرتبط بعلاقات إستراتيجية بدول المركز الإمبريالي وبشكل خاص أمريكا وبريطانيا، اللتان بدأتا بتطبيق السياسات النيولبرالية؛ وثانيًا، لأن حزب الليكود أراد أن ينسف القاعدة الانتخابية التي أرتكز عليها حزب العمل والمتمثل بدولة الرفاه وذلك لتوطيد أركان حكمه لمدى طويل.

وقد اختار الحزب المؤسس لإسرائيل، "مباي" (العمل) نموج دولة الرفاه، وتبنى حتى قبل قيام إسرائيل نظامًا شبه اشتراكيٍّ عماده الـ"كيبوتس"، لتحقيق هدفين، الأول الانضمام للاشتراكية الدولية والثاني تعزيز قيمة الانتماء للمهاجرين اليهود بالأرض من خلال العمل والزراعة، ولاحقا أقام نظامًا "شبه اشتراكي" تسيطر فيه الحكومة على القطاع العام والخدمات العامة مباشرة وبواسطة الـ"هستدروت" التي كانت تبسط نفوذها على ثلث اقتصاد إسرائيل.

توقيع اتفاقية باريس

أمّا "الليكود" فبدأ بخصخصة القطاع العام، حيث قام ببيع معظم الشركات الحكومية التي كانت تدر أرباحا، إلى مستثمرين من القطاع الخاص وبدا بمحاصرة نقابات العمال والـ"هستدروت" التي اضطرت هي الأخرى إلى التخلص من تركاتها الاقتصادية وشركاتها.

كما بدأ بإزالة القيود عن حركة رأس المال والسماح بعملية تبديل العملة ولاحقا برفع الدعم عن السلع الأساسية وتعويم الأسعار، تمهيدا لدخول الاقتصاد في مرحلة النيولبرالية.

عرب 48: هل ترى أنّ تأثير السياسة النيولبرالية تعدى الساحة الإسرائيلية الداخلية الذي تمثل بتهميش حزب العمل نهائيا بعد تجريده من مصادر قوته، إلى الساحة الفلسطينية وفرص التسوية السياسية وتراجعها إلى حد التضاؤل؟

سلامة: تأسس الاقتصاد الفلسطيني على قاعدة بروتوكول باريس، أحد ملحقات اتفاق أوسلو، والذي تضمن وجوب دعم الدول الأوروبية للسلطة الفلسطينية، لكن هذا الدعم جاء لتثبيت السياسة النيولبرالية وترسيخها، بحيث تخلق طبقة برجوازية مستفيدة قابلة لأن تتعايش مع وضع الاحتلال وتستنكف عن خوض معركة التحرير، وعلى هامش هذه الطبقة نشأت طبقة وسطى من كبار الموظفين وكبار الضباط، الذين أضحوا يعيشون درجة معينة من الاستقرار الأمني ودرجة معينة من الحياة الاقتصادية المرضية ولم يعد لهم مصلحة في الاصطدام مع الاحتلال والاحتكاك بأدواته.

سياسات الدول المانحة كان هدفها من تعزيز النظام النيولبرالي في السلطة الفلسطينية خلق منظومة اقتصادية واحدة قوامها النيولبرالية، وتتحكم فيها الطبقات البرجوازية، وان كان المانحون قد اعلنوا في الظاهر أن هدفهم هو توطيد استقلال الاقتصاد الفلسطيني وتقليص اعتماده على الاقتصاد الإسرائيلي، فإنّ هذا الهدف قد ذاب في سياق الهدف الثاني الذي وضعوه والمتمثل بالتكامل بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني من خلال تعزيز شبكات البنية التحتية َّبين "الدولتين"، انطلاقا من أن الإقليمية في الكهرباء والنقل والاتصالات وأنابيب البترول والغاز والمياه من شأنها أن تتيح الفرص المواتية لتقوية الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات التي تستفيد من التكامل ووفورات الحجم.

وبالمحصلة فإن عملية أوسلو لم تقدّم للفلسطينيين سوى المزيد من الاحتلال الاستعماري، الذي غلف بغلاف النيولبرالية وظهر بمظهرها، ولم يكن العنصر الليبرالي التعاوني بين طرفين متساويًا على الإطلاق، بل كان يرمي إلى تأسيس اعتماد متبادل لا يقوم على المساواة، بحيث تحتفظ إسرائيل، ضمن هذه المنظومة، برجوح كفة قوتها على كفة الفلسطينيين.

عرب 48: إذ أيمكن القول إنّ السلام الاقتصادي الذي تحدث عنه نتنياهو الذي يبقي الهيمنة الإسرائيلية ويوفر فرص اقتصادية للفلسطينيين على المستوى الفردي ويحيد النخب عن الاضطلاع بدورها الوطني التحرري؟

سلامة: لا نستطيع الجزم فيما إذا غاب عن أنظار صناع السياسات النيولبراليّين الذين وضعوا ثقتهم في عملية أوسلو النطاق الكامل لانعدام التكافؤ بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني، وسياسات الاستعمار الاستيطاني التي تنفذها إسرائيل منذ أمد بعيد.

وقد كانت النتيجة، حسب العديد من الباحثين، في أن المانحين ساعدوا على إضفاء طابع رسمي على العلاقة الاستعمارية غير المتكافئة، ولم يغير هذا الوضع شيئا من مصفوفة السيطرة الاستعمارية الاستيطانية التي تمارسها إسرائيل على الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث بقيت هذه المصفوفة ثابتة، حتى مع التعديل الذي طرأ على تكتيكاتها مع مرور الوقت.

وبالمحصلة فإن التوجه النيوليبرالي الذي اعتمده المانحون بالتناسق والتناغم مع الاستعمار الاستيطاني الذي تنفذه حليفتهم إسرائيل نجح إلى حد ما في إحلال الاقتصاد محل السلام، وترسيخ النظام الاستعماري الذي تطبقه إسرائيل.


عبد الغني سلامة: كاتب فلسطيني مقيم في رام الله، نشر عشرات الدراسات البحثية في مجالات متعددة في عدد من المجلات الفلسطينية والعربية المحكمة، وهو يكتب في جريدة الأيام بصورة منتظمة؛ وسبق وكتب في جريدة صوت النساء، الحياة الجديدة، الحدث، والقدس، وهو عضو اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين.

التعليقات