20/05/2023 - 19:49

حوار مع أباهر السقا | المختلف والمشترك بين الاستعمار الاستيطاني بالجزائر وفلسطين

السقا: "يوجد الكثير من المواصفات والبنى الاستعمارية والأهداف المشتركة بين الحالتين، لكن هناك معضلة يواجهها الباحث لدى المقارنة بين حالة منتهية في الجزائر وحالة مستمرة وتتمدد في فلسطين".

حوار مع أباهر السقا | المختلف والمشترك بين الاستعمار الاستيطاني بالجزائر وفلسطين

(Gettyimages)

قد لا يعرف البعض منا أن عدد المستوطنين الفرنسيين والأوروبيين الذين استوطنوا الجزائر، قد بلغ عشية اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954 زهاء المليون مستوطن وأن بعض المدن بينها العاصمة الجزائر كانت ذات أغلبية فرنسية، لكن بعكس الاستعمار الصهيوني في فلسطين فإن الاستعمار الفرنسي اكتفى بالتهجير الداخلي حيث دفع الجزائريين إلى الريف والضواحي وهيمن على الحاضرة الجزائرية.

هذا بعض ما أشارت إليه دراسة مقارنة أجراها د. أباهر السقا، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، بين التجربتين الاستعماريتين الجزائرية والفلسطينية، أبرز خلالها العديد من أوجه الشبه رغم اختلاف الزمان والمكان وغياب المركز الاستعماري في الحالة الفلسطينية.

ويورد السقا، أن المنظومتين الاستعماريّتين الفرنسية والصهيونية عملتا على استخدام العنف الشامل كسيرورة والعمل بها كصيرورة، منوها إلى أنه في السنوات الأولى من فترة الاستعمار 1830-1870، أي خلال الأربعين سنة التي احتاجها المستعمر الفرنسي لفرض سيطرته على كامل التراب الجزائري، قتِل في الجزائر ما يتراوح بين 250 ألف و400 ألف جزائريّ، علاوة على ضحايا حرب التحرير التي امتدت سبع سنوات في الجزائر وفرنسا، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف، ينضاف إلى هذا آلاف الضحايا وتدمير البنى التقليديّة في الريف الجزائري ومجاعة عام 1868، كل هذا يعني أن ربع السكّان تقريبا قد قتلوا، كما يقول.

ويرى الباحث اعتمادا على لوكورچـر انميزون أن فكرة الحرب الدائمة أدخلت في الحالة الاستعماريّة الفرنسية للجزائر، أي أن المجتمع الجزائري كان يعيش حالة حرب دائمة وشاملة، وأن السلم لم يكن حاضرا، بينما مثل الاستعمار الفرنسي مكانًا للعنف الأقصى والدائم والاعتيادي وبدون حدود إلى حد نفي الشعب المستعمر ومحاولة اجتثاثه.

كذلك هو الشأن في الحالة الفلسطينية، كما يقول، فعلاوة على نفي الحركة الصهيونية لعلاقة الفلسطينيّ بأرضه، ونفيها لوجود شعب فلسطينيّ، مورس العنف الشامل منذ بداية المشروع الصهيوني من قتل وطرد وتهجير للسكّان بلغ عددهم نحو 850 ألف فلسطينيّ وهدم 518 قرية وممارسة سياسة التطهير العرقي والمكاني وارتكاب المجازر، والذي تناولته عدة أطر مفاهيمية لباحثين عديدين، منها: المحو الاجتماعيّ، الإقصاء الشامل، التطهير المكاني، المحو السياسي، ممارسة الفصل في الموارد والأراضي واستخدامها وقوة العمل وإدارة السكّان.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. أباهر السقا حول الدراسة وأوجه الشبه والاختلاف بين التجربتين الفلسطينية والجزائرية.

"عرب 48": دائما تعاملنا مع التجربة الجزائرية كحالة مفروغ منها، مع التركيز على معركة التحرير وسقوط مليون ونصف جزائري، دون التمعن فيها كتجربة استعمار استيطاني لبلد عربي سابقة على فلسطين ومحاولة المقارنة بين الحالتين؟

د. أباهر السقا

السقا: في الحقيقة معرفيا كنت أعتقد دائما أنه من السهل عقد مقارنة بين الحالة الاستعمارية الجزائرية والحالة الاستعمارية الفلسطينية، وبالرغم من ذلك قررت أن أخوض في هذا المجال وأكتب مقالة أطمح أن تكون باكورة أعمال أخرى حول هذه المقارنة، لأن المقالة وحدها غير كافية والمسألة إلى المزيد لإيفائها حقها المعرفي.

هناك فروقات هائلة بين الحالتين وهناك أيضا كم كبير من التشابه..

"عرب 48": لم أنتبه سابقا إلى هذا الكم الهائل من المهاجرين الفرنسيين والأوروبيين الذين جرى جلبهم إلى الجزائر؟

السقا: إن الاستعمار الفرنسي كان أقرب إلى استعمار أوروبي منه إلى استعمار فرنسي، لأن أعداد الإيطاليين والبريطانيين والإسبان كان تقريبا أكبر من عدد الفرنسيين، وقد جرى منح هؤلاء الجنسية الفرنسية كما أضافوا لهم اليهود الجزائريين الذين كان منحهم الجنسية مستغربا.

وبالمقارنة مع الحالة الإسرائيلية فإن إسرائيل منحت الجنسية للفلسطينيين المتبقين داخل حدودها بعد النكبة، لأنه وبناء على أعمال أريج صباغ ونديم روحانا، لم يكن أمامها أي إمكانية أخرى عدا فرض الجنسية، أما في الحالة الجزائرية فقد كانت مجموعة أنظمة قانونية مختلفة تسمح للفرنسيين بوضع أنواع من المواطنة تارة باسم مسلمي فرنسا وتارة باسم أصلانيي فرنسا بمعنى أن هناك عدة مسميات تمنح نوعا من الإقامة.

ولكن بالرغم من ذلك فإنه من المفاجئ أن عدد طالبي الجنسية بين الجزائريين بلغ ستة آلاف شخص فقط، وهذا مثال شبيه ربما بالحالة الفلسطينية المتعلقة بسكان القدس، الذين يرفضون الجنسية الإسرائيلية.

وعودة لملاحظتك بالنسبة لنقل السكان هناك فارق لأن الفرنسيين احتاجوا إلى 40 عاما لبسط سيطرتهم على كل الجزائر، بينما في الحالة الاستعمارية الصهيونية فإنهم كانوا موجودين في بداية القرن ثم بدأت عملية التوسع سريعا بحكم عملية التهجير الواسعة للفلسطينيين خلال النكبة إلى خارج حدود فلسطين، بينما انحصر تهجير السكان الجزائريين داخل حدود الجزائر.

"عرب 48": تقول في معرض الإشارة إلى أوجه شبه الحالتين أن المستعمر في كلتا الحالتين مارس منظومة العنف الشامل، من قتل جماعيّ ومجازر وإزالة وتدمير القرى... واستخدام المنظومات للسيطرة على المجتمع، وأن المشروعين عملا على مصادرة الأراضي ونزع الملكية وتغليب الديموغرافيا لصالحهما، ونفي الاعتراف بالهوية الجمعية والاعتراف في الحالتين بالمستعمرين كمجتمع وكشعب؟

السقا: يوجد الكثير من المواصفات والبنى الاستعمارية والأهداف المشتركة بين الحالتين، لكن هناك معضلة يواجهها الباحث لدى المقارنة بين حالة منتهية في الجزائر وحالة مستمرة وتتمدد في فلسطين، من ناحية منهجية كان من الصعب إجراء هذه المقارنة لأن هناك زمن انتهى وأزف.

لكن بالعموم هناك تجربة متشابهة في إقامة تجمع استيطاني استعماري من خلال نقل مستوطنين أوروبيين أساسا، وتغيير هوية وطبيعة المكان الديموغرافية والجغرافية عبر استخدام الأساليب التي ذكرت وهي أيضا أساليب متشابهة بين الحالتين الاستعماريتين في منظومات العنف والسيطرة ومصادرة الأراضي ونزع الملكية وتهويد أو فرنسة المكان وتذويب وتبديد هوية السكان.

المستعمر في الجزائر واجه مشكلة في أن الفرنسيين لم يتشجعوا في الانتقال إلى الجزائر، ولذلك استحضر مستوطنين من جنسيات أوروبية أخرى، هؤلاء شكلوا "الأقدام السوداء" الذين أخذتهم فرنسا معها عند انسحابها من الجزائر بمن فيهم اليهود، الذين كان قد جرى منحهم الجنسية الفرنسية أيضا.

الفرنسيون بعكس الصهاينة لم يكن لديهم مخطط في الانتشار على كامل الجغرافية الجزائرية وهناك الكثير من المناطق لم يصلوها، حيث تمركزوا في المناطق الساحلية وفي المدن، وهذا خلق وضعا ديموغرافيا تمركز فيه الفرنسيون والأوروبيون في المناطق الساحلية المدنية بينما دفع الجزائريون إلى المناطق الداخلية.

ورغم أن الحالتين حافظتا على وضعية فصل بين المستعمرين والسكان الأصليين في الحيز الجغرافي، نجد أن الفرنسيين عندما يبنون المدن الصناعية يبعدون بين المهندسين والتقنيين الفرنسيين وبين العمال الجزائريين، ونجد أنه في الحالة الفلسطينية، حتى في ما سمي اعتباطا المدن المختلطة هناك فصل تام في الحيز السكني بين المستوطنين وبين المحليين الفلسطينيين.

لكن من الواضح أن الفرنسيين لم يستطيعوا فرض هيمنة ديموغرافية على الجزائر، لأنهم لم يستخدموا أسلوب التطهير العرقي وتهجير السكان خارج حدود البلد مثلما فعلت الصهيونية في فلسطين.

"عرب 48": إلى أي مدى استفادت الحركة الصهيونية من التجربة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر؟

السقا: لقد استفادت بشكل كبير ولذلك نجد أن جزءا كبيرا من الممارسات الصهيونية تشبه الحالة الاستعمارية الفرنسية، لقد استحضروا واستنسخوا أشياء مثل العنف الشامل والسيطرة على الأرض واحتلال العمل وسدوا ثغرات أخرى مثل ضرورة الوصول إلى هيمنة ديموغرافية.

طبعا هناك فروقات في الحالتين مثل التعامل مع اللغة حيث لم تحاول إسرائيل فرض لغتها على السكان الأصليين الذين نجوا من التهجير، على غرار ما فعلت فرنسا في الجزائر، وربما يعود ذلك إلى ضعف العبرية مقارنة بالفرنسية كلغة استعمار وهيمنة عالمية، وأن العربية كانت اللغة الأصلية للكثير من المهاجرين اليهود من الدول العربية، ولكن بالمقابل سعوا إلى تهميش اللغة العربية.

كما يعود ذلك إلى الفرق الجوهري بين النموذج الفرنسي والنموذج الصهيوني، حيث يقوم الأول على الدمج وفكرة الصهر، فلا مشكلة لديه أن يكون اسمك محمد وتدين بالإسلام شريطة أن تتحدث الفرنسية وتفكر مثل الفرنسيين، وهذا النموذج نجد بقاياه حتى اليوم فالفرنسيين لا يجدون مشكلة في أن يدعى بطل كرة القدم الفرنسي زين الدين زيدان.

"عرب 48": تحدثت عن أرقام لافتة بالمتعاونين مع الاستعمار الفرنسي، الذين أسموهم "الحركيين"؟

السقا: "الحركيين" هي تسمية من اللغة العامية الجزائرية وتعني "متغيرين" أو "زئبقيين" وهو تعبير أطلق على كل من تعاون مع الاستعمار الفرنسي، وهؤلاء عدة أنواع منهم من كان يقوم بدور الوسيط أو الوكيل الذي كان يساهم بنزع ملكية الأهالي، منهم بعض الولاة والدايات وبعض المسؤولين الكبار وكانوا يسموا "كايد" بمعنى قائد وهذا كان في بعض المناطق يطبق القانون الاستعماري، بمعنى أنهم ليسوا بالضرورة كلهم جواسيس.

هؤلاء أخذتهم فرنسا معها بعد استقلال الجزائر عام 1962 وبلغ عددهم 400 ألف إنسان، بالمقارنة مع الحالة الفلسطينية نجد أن العملاء الذين أخرجوا من "الدهنية" بعد فك الارتباط مع غزة بلغ عددهم ثلاثة آلاف شخص وعناصر "جيش لحد" اللبناني الذين جلبوا بعد الانسحاب من الجنوب بلغ بضعة آلاف أيضا.

"عرب 48": ما هو السر من وراء هذا العدد الكبير من المتعاونين؟

السقا: يبدو أن الامتداد الحمائلي والعشائري هو السبب، إذ كان يتم دمغ كل العائلة أو العشيرة التي قد يبلغ عدد كل منها آلاف أو عشرات الآلاف، ولذلك وصل هذا العدد إلى ما وصل إليه، وهؤلاء يصل عددهم اليوم إلى الملايين في فرنسا، وجزء كبير منهم شعروا بالإهانة لأنهم خدموا لصالح الفرنسيين ولاحقا جرى تهميشهم، وهم لا يستطيعون العودة للجزائر لأنهم بالنسبة للجزائريين خونة وهم بالنسبة للفرنسيين مجموعات خانت بلادها ولذلك لا تستحق الاحترام.

"عرب 48": أشرت إلى أنك ربما تعد دراسة منفصلة عن مقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي؟

السقا: نعم، هو موضوع يستحق البحث ولدي لقاء قريب مع باحثة جزائرية في فرنسا ويمكن أن نكتب دراسة مشتركة، إنه موضوع شائك، ونحن نعرف أن حركة التحرير الفلسطينية استفادت من التجربة الجزائرية، وهناك الكثير من الفلسطينيين خاصة في صفوف حركة "فتح" الذين اعتقدوا بإمكانية نقل النموذج الجزائري.

في كل الأحوال هي تجربة جديرة بالمزيد من الدراسة والتعمق وفاء لتضحيات الشعب الجزائري وبصفتها نموذج فريد يحتذى به في مقاومة الاستعمار الاستيطاني واقتلاعه وطرده من قبل شعب عربي.


د. أباهر السقا: أستاذ مشارك، دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، حامل لشهادة الدكتوراة في علم الاجتماع من جامعة نانت - فرنسا. خريج المدرسة العليا لإدارة التنظيمات الاجتماعية - سانت تيتيان - فرنسا. عمل كمحاضر في جامعة نانت بفرنسا من 1998-2006، وأستاذ زائر في العديد من الجامعات الفرنسية والبلجيكية من 2009-2023. له العديد من الدّراسات والمقالات العلميّة في مجالات العلوم الاجتماعية وتأريخها، التاريخ الاجتماعي، التعبيرات الاجتماعية الفنية، الحركات الاجتماعية، الهوية، الذاكرة، الوطنيات، الدراسات الحضرية.

له عدة كتب ودراسات بالعربية والفرنسية والإنجليزية. رئيس الجمعية الفلسطينية لعلم الاجتماع وعلم الإنسان، وعضو في الجمعية العالمية لعلم الاجتماع، ونائب رئيسة مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية ومؤسسات عالمية أخرى. رئيس تحرير مجلة المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات".

التعليقات