في ورقة سياسات نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يشير الباحث أشرف بدر إلى أن إسرائيل عمدت عقب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إلى تدمير قطاع الزراعة في قطاع غزة وذلك بهدف إنشاء بيئة طاردة للسكان تجعل من استمرار العيش في قطاع غزة أمرا صعبا للغاية، وهو ما سيساهم في ترحيل السكان، وتحقيق المخطط الصهيوني القديم الحديث بالتخلص من سكان قطاع غزة.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
وتكشف الورقة، استنادا إلى تقارير أممية تعتمد على صور من الأقمار الاصطناعية (تقرير مركز "يونوسات" التابع للأمم المتحدة) أنه حتى نيسان/ أبريل 2024، دمرت القوات الإسرائيلية نحو %45 من حقول المحاصيل الدائمة والأراضي الصالحة للزراعة في قطاع غزة، وذلك بعد مقارنة صور الأقمار الاصطناعية لسنة 2024 بمتوسط صور السنوات السبع السابقة من نيسان/ أبريل 2017 حتى 2024.
ويبين تحليل هذه التقارير أن المساحة الزراعية في قطاع غزة تقدر بـ178 كيلومترا مربعا، وهو ما يمثل نحو %49 من إجمالي مساحة قطاع غزة، وتظهر الصور الجوية أن ما يقارب من 81 كيلومرا مربعا من حقول المحاصيل الدائمة والأراضي الصالحة للزراعة في قطاع غزة، قد انخفضت من ناحية صحتها وكثافتها في نيسان/ أبريل الماضي بصورة كبيرة.
وقد أدت سياسات التجريف واقتحام الدبابات والقصف بالقنابل إلى تراجع صحة المحاصيل وكثافتها في نيسان/ أبريل 2024، مقارنة بتحليل سابق صدر في كانون الثاين/ يناير 2024، حيث تبين أن هناك زيادة بنسبة %33 في الأراضي الزراعية المتضررة، بالإضافة إلى ارتفاع ملحوظ في تدمير حقول المحاصيل الدائمة والأراضي الصالحة للزراعة في محافظة خان يونس بنسبة %30.
كما حدث تصاعد كبير في تدمير الأراضي الزراعية داخل محافظة رفح؛ إذ ارتفعت النسبة من %11 في كانون الثاين/ يناير الماضي، إلى %43 في نيسان/ أبريل الماضي، كما تظهر التقارير تدمير %47.7 من أراضي شمال غزة الزراعية (14.6 كيلومرتا مربعا من مجموع 30.6 كيلومترا مربعا)، وتدمير %40.7 من أراضي غزة (13.3 كيلومترا مربعا من مجموع 32.6 كيلومترا مربعا) ، وتدمير %40.4 من أراضي دير البلح (13.3 كيلومترا مربعا من مجموع 32.9 كيلومترا مربعا) ، وتدمير %51.1 من أراضي خان يونس (28.4 كيلومترا مربعا من مجموع 55.5 كيلومترا مربعا)، وأيضا %43 من أرضي رفح (11.4 كيلومترا مربعا من مجموع 26.5 كيلومترا مربعا).
وتشير الورقة إلى تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، الصادر في شباط/ فبراير الماضي، الذي يرصد كمية الدمار التي تعرضت له المنشآت الزراعية في قطاع غزة؛ والذي يفيد بتدمير 626 بئر ماء، و47 بركة ماء، وميناء واحد، و307 حظائر منزلية، و100 مستودع زراعي، و46 مخزنا زراعيا، و7 مراكز للتزويد الزراعي، و119 مأوى للحيوانات، و11 مزرعة للارانب، و26 مزرعة لأللبان، و235 مزرعة للدجاج اللاحم، و7 مزارع طير حبش، و203 مزار ع أغنام، و5 مزارع أبقار، و42 مزرعة طيور وحمام، وكذلك 339 دفيئة زراعية من مجموع 1227.
وترى الورقة أن السياسة الإسرائيلية التي انتقلت بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من أساليب الحصار والخنق التي مارستها سابقا، إلى سياسة التدمير الكلي، بمثابة امتداد واستنساخ لممارسات أنظمة استعمار استيطاني سابقة على غرار الاستعمار الأوروبي في أميركا الذي كان يقوم على تدمير حقول الذرة بهدف قطع مصدر عيش السكان الأصليين لترحيلهم والتخلص منهم.
لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع أجرينا هذا الحوار مع د. أشرف بدر:
"عرب 48": تدمير قطاع الزراعة يندرج، على ما يبدو، في إطار المخطط الإسرائيلي الشامل في تدمير جميع مرافق الحياة وقطاعات الإنتاج وهوما يؤكده حجم الأضرار التي أصابته والتي من الصعب أن تنتج عما يسمى "ضرر جانبي" بل هي نتيجة استهداف منهجي مباشر لهذا القطاع الذي ينتج أحد مقومات الحياة الأساسية وهو الغذاء؟
بدر: استهداف المناطق الزراعية الشجرية والخضرية جرى بشكل مباشر من خلال الاجتياح البري بواسطة الدبابات والآليات وبواسطة القصف الجوي عن طريق الطائرات والمسيرات، وشمل مناطق واسعة تقدر بأكثر من 50% من مساحة الأراضي الزراعية.
قبل الحرب عمد الاحتلال إلى إبقاء منطقة عازلة ملاصقة للسياج، جرى رشها بالمبيدات للحؤول دون زرعها بأي نوع من المزروعات، وقدرت بنحو 300 متر على طول الشريط الحدودي، واليوم يحاولون توسيعها إلى 1 أو 1.5 كيلومتر.
لدى اجتياحهم البري حرصوا على استعمال ما يسمونها بسياسة السجادة، بمعنى إزالة أي شيء أمامهم يحجب مجال الرؤية من شجر ومزروعات وغيرها، وهذا تطلب القضاء على المناطق المزروعة التي تقع بمعظمها في شمال ووسط القطاع، وهو ما تواصل مع تقدمهم نحو الجنوب أيضا.
"عرب 48": وهل هذا يؤكد أن الاستهداف كان مباشرا وليس نتيجة للمعارك أو للعمليات العسكرية؟
بدر: لو سلمنا أن استهداف الأراضي المزروعة نابع من مقتضيات عسكرية، فما هو مبرر استهداف آبار المياه؟ حيث جرى تدمير 626 بئرا و47 بركة مياه، وما هو مبرر استهداف ميناء الصيد والمستودعات الزراعية والمخازن ومراكز التزويد وغيرها من المرافق الزراعية؟
كل ذلك يكشف دون أي مجال للشك عن عقلية استعمارية ويعيدنا إلى سياسات استعمارية سبق أن مورست ضد السكان الأصليين، مثل إحراق المحاصيل الزراعية وتسميم آبار المياه للقضاء على السكان وترحيلهم.
في أميركا الشمالية وصل الأمر بالمستعمرين حد استعمال الحرب البيولوجية عبر جلب الأجسام الملوثة بالكوليرا ووضعها في منابع المياه وهو ما أدى إلى إبادة عشرات الملايين من السكان الأصليين، وبينما تعترف الولايات المتحدة رسميا بإبادة ثلاثة ملايين إنسان، يشير العديد من الباحثين إلى إبادة مئات الملايين، ويبدو أن إسرائيل تقوم باستنساخ مثل هذه السياسات التي كان الهدف منها محو السكان الأصليين.
"عرب 48": لقد عانى القطاع الزراعي ما عاناه من الحصار الخانق الذي فرضته إسرائيل لسنوات طويلة على القطاع قبل السابع من أكتوبر؟
بدر: صحيح، فقد واجه القطاع الزراعي تحديات كبيرة مع فرض الحصار على قطاع غزة عام 2006، أبرزها وضع قيود كبيرة على عمليات تصدير المنتوجات الزراعية، واستيراد المعدات والمواد الخاصة بالإنتاج الزراعي، علاوة على الاسـتهداف المباشر للمحاصيل والأراضي الزراعية في أثناء الهجمات العسكرية المتكررة على قطاع غزة.
كما عانى مربو الثروة الحيوانية من جراء الحصار وإغلاق المعابر الحدودية، فتكبدوا خسائر نتيجة نفوق أعداد كبيرة من الطيور والحيوانات نتيجة انقطاع الإمدادات من الأعلاف الحيوانية، كذلك أدى الحصار ومنع تصدير المنتوجات الزراعية إلى انخفاض كمية الإنتاج الزراعي المسوقة خارج القطاع من نحو 3544 طنا في الشهر حتى النصف الأول من شهر حزيران/ يونيو 2007، إلى نحـو الصفر في المدة اللاحقة لذلك، وهو ما فاقم حالة الانهيار الاقتصادي في القطاع، واسـتمر حظر تسـويق الإنتاج الزراعي من قطاع غزة إلى الضفة الغربية حتى حرب عام 2014، حيث سمحت إسرائيل، بعد 7 سنوات من المنع (وفق اتفاق وقف إطلاق النار) بتصدير كمية محدودة من المننتوجات الزراعية، بدأت تزداد بالتدريج.
أما في ما يتعلق بقطاع صيد الأسماك، فقد عمل الاحتلال باضطراد إلى تقليص مساحة الصيد وواصلت قواته استهداف الصيادين وقواربهم والتضييق عليهم، إضافة إلى منع تصدير الأسماك إلى الضفة الغربية.
"عرب 48": إذن، قطاع الزراعة انتقل من الحصار إلى التدمير الشامل كما ذكرت، وهو ما فاقم إلى جانب إغلاق الحواجز والمعابر، من حالة المجاعة في القطاع وخصوصا في الشمال؟
بدر: يشكل الإنتاج المحلي 44% من استهلاك الأسر للسلع الزراعية في قطاع غزة، ووفقا لبيانات الإحصاء الفلسطيني، فإن الخسائر اليومية المباشرة في الإنتاج الزراعي في قطاع غزة تصل إلى نحو 1.6 مليون دولار أميركي يوميا، وتقدر خسائر الإنتاج الزراعي بعد 8 أشهر من الحرب تقدر بنحو 384 مليون دولار، مع الأخذ بعين الاعتبار تعطل تزويد المزارع بالمياه والكهرباء التي تشكل %27 من مستلزمات الإنتاج النباتي، بينما تتوزع بقية المستلزمات على مواد يتم استيرادها، الأمر الذي توقف بسبب الحرب والحصار، كالأسمدة والبذور والمبيدات وغيرها.
ولم تقتصر هذه السياسات على استهداف وتدمير الإنتاج الزراعي ومنشآته فقط، بل تتعداه نحو استهداف وتدمير مئات المخابز وشركة مطاحن القمح الوحيدة في قطاع غزة، علاوة على استهداف الناس الباحثين عن المساعدات واستهداف القوافل الإنسانية.
"عرب 48": بالرغم من كل ذلك نجد صمودا فلسطينيا منقطع النظير في وجه هذه المخططات؟
بدر: صحيح، بالرغم من سياسة الإبادة الممنهجة نجد أنه في منطقة شمال غزة بقي عشرات وربما مئات الآلاف ممن رفضوا النزوح إلى الجنوب وفضلوا الموت في بيوتهم، وفي السياق ظهرت مبادرات تؤشر إلى الإصرار على الاستمرار في العيش في قطاع غزة بالرغم من الدمار الهائل، منها مبادرة الزراعة المنزلية، التي تقوم على زراعة المساحات الفارغة والواسعة في المنازل ومدارس الإيواء ومخيمات النازحين، بمحاصيل زراعية تتيح للسكان الاعتماد على أنفسهم في إنتاج غذائهم لسد جوعهم، وقد ساهمت الزراعة المحلية في الصمود، كما إن "المؤونة" التي وفرتها الزراعة المحلية دعمت من صمدوا في بيوتهم في شمال ووسط وجنوب القطاع.
*د. أشرف بدر: زميل باحث في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، حاصل على درجة الدكتوراة في تخصص العلوم الاجتماعية/ جامعة بيرزيت (2022)، عنوان الأطروحة: "منظومة التحكم والسيطرة للحكم العسكري الإسرائيلي في المناطق المستعمرة عام 1967 في الفترة ما بين 1967-1981 البيوسلطة الزراعية كمدخل"، وحاصل على الماجستير في الدراسات الإسرائيلية/ جامعة القدس عام 2014، حيث تم نشر الرسالة على شكل كتاب صدر عام 2016 تحت عنوان: "إسرائيل وحماس: جدلية التدافع والتواصل والتفاوض 2014-1987"، وله عدة أبحاث ودراسات في مجاله.
التعليقات