01/02/2025 - 19:38

قطاع غزة في إستراتيجية التهجير الصهيونية

د. إلهام شمالي: إسرائيل استخدمت مصطلحات ومسميات ملطفة، مثل "عمليات النقل"، "التبادل السكاني"، "تبادل الأراضي" و"الترانسفير" لكن كافة هذه المسميات تفضي إلى عملية إلغاء الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية.

قطاع غزة في إستراتيجية التهجير الصهيونية

(Gettyimages)

في كتابهما بعنوان "التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين - قطاع غزة دراسة حالة" والصادر من غزة مؤخرا عن مركز الفينيق، تناول الباحثان د. إلهام شمالي ود. إبراهيم كرم حمد، سياسات التهجير القسري الصهيونية الجديدة القديمة بالتركيز على قطاع غزة، باعتبارها جزءًا من إستراتيجية إسرائيلية أوسع تستهدف السيطرة على الأرض الفلسطينية، وفرض واقع ديموغرافي جديد، مع تسليط الضوء على التداعيات السياسية والاجتماعية لهذه الممارسات على القضية الفلسطينية.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

وتستعرض الدراسة المشاريع الإسرائيلية لتهجير أهالي قطاع غزة منذ خمسينيات القرن الماضي، ومحاولات إخلاء قطاع غزة من سكانه سواء بشكل مباشر أو من خلال تحويله إلى بيئة طاردة لسكانه، وتقليص عددهم إلى أقصى حد ممكن؛ وبعض تلك المشاريع ما زالت الحكومة الإسرائيلية الحالية تعمل على تنفيذه كمشروع جيورا أيلاند.

وتشير الدراسة في هذا السياق إلى مشروع التهجير إلى سيناء عام 1953 والذي وضع بالتعاون بين الحكومة المصرية ووكالة الغوث "الأونروا"، حيث خصصت الأخيرة مبلغ 30 مليون دولار والذي كان من المفترض أن يتم بموجبه توطين ما بين 10000-12000 من العائلات اللاجئة، على أن ينفذ المشْروع خلال خمس سنوات، يتم بنهايته توطين ربع عدد اللاجئين، وتقدم الحكومة المصرية 500 ألف فدان من الأراضي البور إلى الشمال الغربي من صحراء سيناء يجري استصلاحها عبر مياه نهر النيل.

كما عرج على مشروع موشيه ديان عام 1967 الذي أراد تقليص عدد سكان القطاع من 400 ألف نسمة إلى 100 ألف نسمة، والذي حمل عنوان "نقل السكان من قطاع غزة إلى الضفة الغربية" عبر إقامة نظام اقتصادي قائم على نموذج الهجرة الكلاسيكي لعوامل التحفيز والجذب، كسياسة للحكومة الإسرائيلية في القطاع، في ظل البطالة التي وصل مداها إلى 50%، مع انخفاض مستوى المعيشة مقابل ارتفاعه نسبيا في الضفة الغربية التي ستشكل مصدر جذب وممرا للهجرة إلى المملكة الأردنية الهاشمية.

ويتوقف الباحثان عند خطة التهجير إلى سيناء التي طرحها غيورا أيلاند رئيس قسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي، ورئيس مجلس الأمن القومي عام 2000، وتضمنت اقتطاع مساحة 720 كم من أراضي سيناء، لتوسيع قطاع غزة بشكل مستطيل ما يعني مضاعفة مساحة قطاع غزة ثلاث مرات، واقتطاع ما يعادل 12% من أراضي الضفة الغربية، وضمها إلى إسرائيل، في المناطق المتاخمة للكتل الاستيطانية الضخمة، وفق اتفاق يتنازل فيه الفلسطينيون عن تلك المساحة، بموافقتهم على خطة التهجير، وتحصل مصر بموجبه على منطقة جنوب غربي النقب، إلى جانب مجموعة من الإغراءات والامتيازات.

كما جرى طرح المخطط بصياغة متطورة عام 2010 لتوطين أكثر من مليون فلسطيني، ووفق تصور أيلاند يتم في الجزء المقتطع بناء مدنٍ جديدة للمهجرين في سيناء، وبناء ميناء بحري ومطار دولي، وممر بري لجعل الحركة من مصر إلى بقية دول الشرق الأوسط دون الحاجة لعبور إسرائيل، وقد حاولت إسرائيل استغلال الحرب على غزة لتمرير هذه الخطة إلا أن صمود الشعب الفلسطيني أفشل جميع مخططات التهجير إلى خارج القطاع.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. إلهام شمالي لإلقاء المزيد من الضوء على الكتاب وقضية التهجير القسري.

"عرب 48": نتحدث معك بعد وصولك إلى أنقاض بيتك في شمال القطاع بعد مسيرة "العودة" المضنية التي أنهت رحلة طويلة وشاقة من النزوح دامت أشهرا طويلة أسوة بالغالبية الساحقة من أهالي القطاع، نقول بداية كل الاحترام أنكم برغم كافة الظروف نجحتم في إصدار هذا الكتاب، بما يتضمنه من توثيق ودراسة شاملة لقضية "التهجير القسري"، والتي شكلت عنوانا لحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وتتواصل بمخططات سياسية إسرائيلية أميركية، تجلت بتصريحات ترامب الأخيرة التي تحاول توظيف الدمار الشامل الذي حل بالقطاع لتمرير مشاريع التهجير الصهيونية؟

د. إلهام شمالي

د. شمالي: الكتاب هو رسالة تحدي كما أشرت إلى أن الموت والدمار لن يقتلا فينا إرادة الحياة، وأن تدمير المدارس والجامعات والمكتبات لن يوقف إنتاجنا العلمي والثقافي، وأن الفلسطيني سينجح مثلما فعل دوما في ترميم ذاته والنهوض مجددا.

وبدون شك إن فضح المخططات الصهيونية التي تستهدف وجود الفلسطيني على أرضه، وفي مقدمتها "التهجير القسري" تبقى في رأس سلم أولوياتنا كمثقفين فلسطينيين، فكيف وأنت تعيش هذه الحالة بشكل فعلي وهو هدف رئيس للحرب حاولت إسرائيل إخفاءه في بدايتها ثم أصبح مفضوحا لاحقا، خصوصا لدى تنفيذ ما سمي بـ"خطة الجنرالات" في شمال القطاع والتي هي نسخة مجددة لمخطط "ايلاند" من سنة 2000، صممها هو ذاته مع جنرالات متقاعدين آخرين بحيث تلائم أهداف الحرب الحالية.

أما بالنسبة لظروف العمل فقد بدأنا به بعد مرور ثلاثة أو أربعة أشهر على الحرب إيمانا منا بأن سلاحنا هو القلم الذي يجب أن يتم توظيفه في خدمة شعبنا وقضيته، فكانت الكتابة بمثابة هروب من أزيز الرصاص والأحزمة النارية والقصف والملاذ الذي يأخذ فيه الإنسان ركنا ليجلس مع نفسه، سواء إن للكتابة على الورق أو بواسطة الحاسوب إذا توفر الشحن، حيث لا يتسنى لك شحن الجهاز إلا في أماكن معينة مثل المستشفيات أو غيرها من المراكز.

والحال كذلك فإن الدراسة كتبت على نور الشمس في ساعات النهار لانعدام الكهرباء، وكنت أتوقع أن يضاف إليها الكثير من المراجع، وهو ما لم يتسن بانعدام المكتبات التي تعرضت للقصف والإبادة أسوة بالإنسان وبسائر مرافق الحياة الأخرى، وقد تم بحمد الله توفير بعض المراجع بتعاون أصدقاء وزملاء من الضفة الغربية ومن الداخل الفلسطيني تمكنا بواسطتها إنجاز هذه الدراسة التي نأمل أن نكون قد غطينا بواسطتها ما تعرض له شعبنا في هذه الفترة الصعبة.

"عرب 48": الدراسة تكتسب أهمية استثنائية كونها خارجة من غزة، أي من قلب المعاناة والتهجير الحاصل هناك والذي يشكل استمرارا لمخططات تهجير سابقة تناولتها الدراسة؟

د. شمالي: في الحقيقة أنا وزميلي د. إبراهيم عندما بدأنا بتتبع موقع غزة في الرؤية الصهيونية المتعلقة بالتهجير، كنا نفكر بإعداد ورقة بحث، لكن كم المعلومات الموجودة حول الموضوع ودسمها جعلنا نطور الفكرة، وقد حاولنا توظيف الجانب القانوني المتعلق بالقانون الدولي والقانون الإنساني في رؤية التهجير القسري، كما قمنا باستعراض الجانب التاريخي ومناقشة الجانب السياسي منه.

وقد أفردنا حيزا هاما من الدراسة للرواية العامة ثم خصصنا قطاع غزة في دراسة حالة، إذ وجدنا من تتبع السياق التاريخي أنها تحتل مكانة خاصة في مركز الفكر الصهيوني لطبيعة موقعها الجغرافي، كبوابة للحدود المصرية وطبيعتها الديمغرافية التي تتشكل بغالبيتها الساحقة من اللاجئين.

كما وجدنا أن مشاريع التهجير القسري التي ظهرت مع الطوفان والحرب الحالية عام 2023، لها تبعات ومرتكزات سابقة وأن هناك امتدادا تاريخيا لعملية التطهير العرقي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وخصوصا أن إسرائيل تتعامل مع الشعب الفلسطيني بعدة مرتكزات وعدة أساليب تختلف حسب الموقع، ويختلف هذا التعامل بين الضفة وغزة والداخل ولكن ضمن إستراتيجية التطهير العرقي التي تشكل هدفا مشتركا ينسحب ويستهدف كل قطاعات الشعب الفلسطيني.

صحيح أن إسرائيل استخدمت مصطلحات ومسميات ملطفة، مثل "عمليات النقل"، "التبادل السكاني"، "تبادل الأراضي" و"الترانسفير" لكن كافة هذه المسميات تفضي إلى عملية إلغاء الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية.

"عرب 48": قلت إن غزة كانت دائما في مركز هذه المخططات، لماذا؟

د. شمالي: إسرائيل حلت بعمليات التهجير التي قامت بها خلال النكبة المشكلة الديمغرافية في المساحة التي قامت عليها، لكن التهجير خلق أكثر من قنبلة ديمغرافية على حدودها أهمها قطاع غزة الذي استوعب سكان قرى 220 قرية واقعة في جنوب فلسطين وتحول عمليا إلى تجمع للاجئين فحاولت بكل الوسائل تفكيك هذه القنبلة، كان أول مشروع للتهجير القسري من قطاع غزة عام 1953 حين حاولت الحكومة الإسرائيلية من خلال "الأونروا" إحداث عملية نقل أهالي قطاع غزة إلى سيناء، مستغلة حداثة عهد الحكم المصري الجديد آنذاك ومحاولته تجنب مواجهة عسكرية مع إسرائيل في تلك الفترة الحرجة.

المشروع الذي كان بتمويل "الأونروا" ويقضي بنقل 50 ألفا من اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة إلى سيناء بشكل مبدئي كمرحلة أولى جوبه برفض فلسطيني عارم، حيث اضطرت الحكومة المصرية في حينه إلى التراجع عن موافقتها تحت ضغط الغضب الشعبي والمظاهرات التي انطلقت في قطاع غزة بقيادة الشيوعيين والإخوان المسلمين والتي نجحت في دفن المشروع.

بعد احتلال غزة في حرب 1967 توالت المشاريع الإسرائيلية لترحيل الفلسطينيين وتوطين اللاجئين، أبرزها مشروع "ديان" الذي اعتمد على مسألة الجذب الاقتصادي وتسهيل انتقال الغزيين نحو الضفة الغربية كمحطة نحو انتقالهم إلى شرق الأردن، ثم مشاريع توطين اللاجئين حيث جرى إقامة حي كندا وحي البرازيل ومشروع الشيخ رضوان ومشروع بيت لاهيا وغيرها.

في تلك الفترة حاول شارون تفريغ المخيمات باعتبارها عنوانا لقضية اللاجئين، وقد قام بتنفيذ عمليات هدم وتوسيع شوارعها لتتسع لدخول السيارات العسكرية والدبابات الإسرائيلية وتسهيل عمليات قمع المقاومة المتعاظمة داخلها.

كما ظهر على السطح مشروع "الون" الذي ما زال يشكل أساسا تبنى عليه الرؤية الأمنية الإستراتيجية الإسرائيلية، ولاحقا مشروع "غيورا ايلند" الذي طرحه عام 2000 عندما شغل منصب رئيس قسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي ورئيس مجلس الأمن القومي، وتضمنت خطته اقتطاع أراضٍ من سيناء، ومضاعفة مساحة قطاع غزة ثلاث مرات، وحصول مصر بالمقابل على منطقة جنوب غربي النقب، إلى جانب مجموعة من الإغراءات والامتيازات الإسرائيلية، وهو المشروع الذي أعيد طرحه بصيغة مطورة عام 2010 وكان يقضي بتوطين مليون فلسطيني في سيناء المصرية، والذي وجدت إسرائيل بالحرب الأخيرة على غزة فرصة لتطبيقه عبر ترحيل الفلسطينيين تحت النار إلا أنها اصطدمت بصمود ورفض فلسطيني وبموقف مصري حازم.

"عرب 48": لا شك أن للموقف المصري الذي تمثل بإغلاق الحدود دورا مهما في إفشال تنفيذ مخططات التهجير الإسرائيلية تحت دخان الحرب، ولكنا لم نر بالمقابل أي تدافع فلسطيني نحو محور فيلادلفيا هربا من نيران الحرب باتجاه الأراضي المصرية، في ما بدا أنه قرار فلسطيني بالبقاء والصمود على الأرض الفلسطينية؟

د. شمالي: أنا كمواطنة ونازحة في قطاع غزة، نزحت ما يقارب 15 مرة من بيت إلى بيت ومن مخيم إلى مخيم، عندما وصلت إلى رفح نزلنا إلى محور فيلادلفيا الذي كان يتجمع فيه حوالي نصف مليون فلسطيني، كانت الخيام تنصب دون أدنى مقومات حياة، ضمن نقص في كل شيء وحتى في المياه وهذا لم يدفع الفلسطينيون حتى لمحاولة الاقتراب من الحدود المصرية أو الاحتكاك مع جنود الجيش المصري، بل على العكس كان الناس يتراجعون شمالا نحو دير البلح.

صحيح أن مئات العائلات تكدست هناك في كل كيلومتر، إلا أن كل واحد منهم كان يفكر بالعودة إلى بلدته وداره وليس بعبور الحدود نحو الأراضي المصرية، والدليل أن هذه العائلات عادت بجموعها إلى ديارها في الشمال مشيا على الأقدام أول ما سمح لها بذلك، وكن على ثقة أن هؤلاء الناس سيفشلون كل محاولات نتنياهو وسموتريتش وترامب بالتهجير القسري والطوعي.


د. إلهام شمالي: أكاديمية وباحثة من قطاع غزة.

التعليقات