في مقالة بعنوان "كيف تشكل الصحافة الإسرائيلية سردية الحرب على غزة"، نُشرت في العدد الأخير من مجلة "قضايا إسرائيلية"، يعالج الباحث ياسر مناع دور الصحافة الإسرائيلية كأداة مركزية في توجيه الرأي العام خلال الحرب، وذلك من خلال تحليل محتوى إعلامي نُشر في ثلاث مؤسسات إعلامية رئيسة ذات اتجاهات سياسية مختلفة، هي صحيفة "هآرتس" المحسوبة على اليسار الليبرالي، وموقع "واللا"، و"القناة 14" المحسوبة على اليمين الديني.
يتناول المقال مهمة الرقابة العسكرية في ضبط الخطاب الإعلامي، ودورها المتعاظم بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، مشيرًا إلى قفزة حادة بحجم تدخل الرقابة في عمل الصحافيين بسبب الحرب على غزة، حيث تواجد ممثلو الرقابة بشكل مباشر في استوديوهات الأخبار لضبط الانتهاكات الإعلامية، كما قاموا بمتابعة الشبكات الاجتماعية.
ويرصد الكاتب ارتفاع نسبة التدخلات من نحو 20% في السنوات العادية إلى 31% في العام 2023، الذي شهد بدء الحرب على غزة، وارتفاع نسبة المقالات المرفوضة بالكامل من 7% إلى 18%، وهو ما يشير إلى تشديد الرقابة بشكل كبير في ظل تصاعد العمليات العسكرية والقلق من تسرب معلومات حساسة.
وتعكس هذه الإجراءات ما شهده الإعلام الإسرائيلي من تحول بعد هجوم السابع من أكتوبر، مثل قطيعة مع النهج التقليدي السابق الذي كان يتسم بالحذر، حيث أصبح التحريض على العنف والإبادة ضد الفلسطينيين، كما يقول، جزءًا من الخطاب الإعلامي السائد، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول الدور الذي يلعبه هذا الإعلام في تأجيج الصراع وتشكيل وعي المجتمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين.
كما أصبحت التصريحات التي تدعو للقتل والإبادة ضد الفلسطينيين أكثر علانية، وبدأت تتخذ طابعًا "مشروعًا" في النقاشات الإعلامية، ويورد مناع في هذا السياق بعض التصريحات الصادرة عن صحفيين من بين العشرات، وربما مئات التصريحات المماثلة، حيث ينقل على لسان تسفي يحزقيلي من قناة 13 قوله، إنه "كان يجب أن نبدأ بقتل 100 ألف فلسطيني، وتقليص القوة المقاتلة لـ"حماس" إلى الثلثين؛ أي 20 ألف قتيل من المقاتلين"، مثلما يورد على لسان شمعون ريكلن، الصحافي في القناة 14، قوله: "أنا لن أتمكن من النوم جيدًا إلا إذا شاهدت منازل تنهار في غزة"، داعيًا إلى "هدم المزيد من المنازل، والمزيد من الأبراج السكنية، حتى لا يكون لديهم مكان للعودة إليه"، على حد قوله.
كما ينقل عن يهودا شلزينجر من القناة 12 تهليله لاغتصاب أحد الأسرى الفلسطينيين في معتقل "سديه تيمان"، وقوله: "إن هذا ما يستحقونه، إنه انتقام جيد وقد يكون رادعًا"، معربًا عن شعوره بالأسف لأنهم لا يفعلون ذلك بشكل منظم كجزء من سياسة واضحة لتعذيب الأسرى الفلسطينيين.
ويعتبر المقال هذا التحول في الخطاب الإعلامي ليس مجرد تغير في لهجة الإعلام، بل يمثل تطبيعًا للعنف في الوعي الجمعي للمجتمع الإسرائيلي، مشيرًا إلى ترافق هذه التصريحات التحريضية مع تزايد عمليات تبرير القتل الجماعي والانتهاكات ضد الفلسطينيين كجزء مما يعتبرونه "ردًّا مشروعًا".
لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع الباحث *ياسر مناع.
"عرب 48": نعرف أن الإعلام الإسرائيلي بالمجمل هو إعلام مجند بالكامل من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية بشكل خاص، حيث شهدنا في حروب ومواجهات سابقة "جنرالات" هذا الإعلام يتقدمون الجنرالات الحقيقيين في التحريض على الحرب والقصف والتدمير والقتل، لكن ما حدث في الحرب الأخيرة على غزة فاق كل ما سبق، ومثل قفزة هائلة نحو التماهي المطلق مع الفاشية وحرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل على قطاع غزة؟

مناع: نحن ندرك دور الإعلام الأساسي في تشكيل وتوجيه الرأي العام في إسرائيل، فهو أداة رقابة وأداة صناعة وعي ضمن العديد من الأطر النظرية، وفي النهاية، فإن من يتحكم بالإعلام يتحكم في توجهات المجتمع ويسير نقاشه العام - الماينستريم - وحتى تفاصيل نقاشه اليومي.
بهذا المعنى، فإن الإعلام مهم جدًّا في توجيه الناس وأفكارهم، وفي كيفية عرض الخطر، والزاوية التي يقدمه منها بالطريقة التي تخدم الأجندة التي يمثلها، وبالتالي، فإن الإعلام، حسب الدراسة، كان وما زال الأداة المركزية في مخاطبة المجتمع الإسرائيلي وفي مخاطبة الفلسطينيين فيما يتعلق بالحرب على غزة.
وقد حاولت الصحافة الإسرائيلية تشكيل السردية عن الحرب، وتوجيه والحفاظ على هذه السردية في إطار الخط الناطم منذ بداية الحرب وحتى الآن، محكومة بخط سيرها الذاتي وبآليات الضبط المختلفة، وفي مقدمتها الرقابة العسكرية كآلية للتحكم في تدفق المعلومات، وآليات عمل المراسلين العسكريين كـ"حراس بوابة" يحددون أولويات الجمهور.
"عرب 48": حاولت تتبع ثلاث وسائل إعلامية مختلفة، هي "هآرتس"، و"القناة 14"، وموقع "والا"، سياسيًّا لرصد التباينات السياسية، ورغم أنك أخذت أقصى اليمين وأقصى "اليسار"، فظهرت تباينات غير جوهرية، كما تبين الدراسة، في ظل إجماع غير مسبوق إسرائيليًّا حول الحرب على غزة؟
مناع: هناك بعض التباينات في التغطية الإعلامية، طريقة تقديم الخبر، الصورة المستخدمة في الخبر ذاته، المفتاحية، والقضية التي يتم التركيز عليها في متنه، ولكن في المسألة الأمنية والموقف الرسمي لا يوجد تباين، خاصة في الحرب الأخيرة التي تلاشت فيها التباينات التي كانت سابقة عليها.
علمًا بأننا نلحظ في الفترة الأخيرة بعض الصحوة في صحيفة "هآرتس"، خاصة بعد قطع الإعلانات الحكومية عنها على خلفية تصريح ناشرها عاموس شوكان، الذي وصف الفلسطينيين بالمقاتلين من أجل الحرية، وهو توجه يتصاعد بعد إفشال نتنياهو للصفقة واستئناف الحرب حفاظًا على حكومته، إلى جانب سعيه الحثيث لاستكمال الانقلاب على مؤسسات الدولة أو "الدولة العميقة"، بما يهدد أركان النظام الليبرالي الذي يقف على قاعدته رواد هذه الصحيفة وجمهور قرائها.
"عرب 48": أشرت إلى تعاظم دور الرقابة العسكرية خلال الحرب كإحدى أدوات الضبط؟
مناع: الرقابة العسكرية تمارس دورًا واضحًا خلال الحرب، حيث تم خلال عام 2023 رصد 613 مقالًا جرى منعه من النشر بشكل كامل، و2703 تقارير جرى تعديلها أو حذف أجزاء منها، هذا علمًا أن الحرب جرت في الربع الأخير من سنة 23 فقط.
وقد تحدث أكثر من صحافي عن حذف وتعديل أخبار له من قبل الرقابة العسكرية، فعلى سبيل المثال، قال المراسل العسكري لهيئة البث العام الإسرائيلية ("كان 11") إيتاي بلومنطال،، إنه تعرض لهذا الإجراء أكثر من مرة، مشيرًا إلى حذف خبر له من الرقابة العسكرية للمرة الثانية على التوالي، في حين قال المحلل والمراسل العسكري لموقع "ماكو" التابع للقناة "12"، شاي ليفي، إن الرقابة العسكرية طلبت حذف الخبر بعد أن كان قد نُشر على الموقع.
"عرب 48": لكن يمكننا أن نستنتج أن كمية الحذف والتعديل هي ضئيلة نسبة إلى تسارع الأحداث وهولها، ما يشير إلى ضبط ذاتي نابع عن تساوق الإعلام سياسيًّا مع الخط الرسمي في القضايا التي تحظى بإجماع صهيوني مثل القضية الفلسطينية؟
مناع: بالتالي، نحن أمام إعلام موجه يجري ضبطه من قبل الرقابة العسكرية وما يسمى بـ"لجنة المحررين" المرتبطة بمكتب الصحافة الحكومي وبالدوائر الأمنية، ولا شك أن تساوق الإعلام التلقائي مع الخط الرسمي يسهل عمل هذه الدوائر، فيما يبرز دور الضبط الذاتي الذي ذكرت، في قنوات "التليغرام" الإخبارية، وإن كانت في بعض الأوقات تجاوزت الشبكات الرسمية، فإنها تلتزم بتفاهمات عامة من الضبط الأمني.
على سبيل المثال، قال مدير قناة "أبوعلي إكسبرس" على التليغرام، غلعاد كوهين، في مقابلة سابقة على الحرب أجرتها معه صحيفة "هآرتس"، إن هناك عقدًا بينه وبين الاستخبارات الإسرائيلية لإدارة هذه القناة، فيما يقول دانييل عمرام، محرر قناة "إسرائيل بدون رقابة"، إن هدفه من نشر الأخبار دون موافقة الرقابة العسكرية هو التصدي للحرب النفسية ومنع دب البلبلة في الشارع الإسرائيلي، وهو يعتبر بالتالي أن هذه القنوات تقدم خدمة وتحصن المناعة المجتمعية وليس العكس.
"عرب 48": يبدو أن الإبادة الجماعية والتهجير باتت مصطلحات تقع في صلب الخطاب الإعلامي الإسرائيلي؟
مناع: مسألة الإبادة الجماعية وقتل الشعب الفلسطيني أصبحت بعد السابع من أكتوبر علنية ومتأصلة في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، وبالتالي، إذا كنا في السابق نسمع عن اعتذار أو تبرير عن قتل طفل فلسطيني، فإن الإعلام اليوم غير مضطر لتبرير مقتل مئات الأطفال الفلسطينيين في ضربة واحدة، كما حدث في الغارات التي أُعلنت مع استئناف الحرب.
ولو كان الصحافي شمعون ريكلين قد قال ما قاله، من أنه "لن يتمكن من النوم جيدًا دون أن يرى مبانٍ تنهار في غزة"، قبل السابع من أكتوبر، لواجه انتقادات لاذعة تبعها اعتذار من القناة التي يعمل فيها، وكذلك تسفيكا يحزقيلي الذي لام الجيش الإسرائيلي لأنه لم يقتل في الضربة الأولى 20 ألف فلسطيني، لكن اليوم، هذه العبارات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الخطاب الرائج.
"عرب 48": لقد أصبح هذا هو الخطاب السائد؟
مناع: صحيح، إسرائيل استطاعت أن تجعل السابع من أكتوبر حدثًا في بنية الخطاب الإسرائيلي، بالضبط مثلما سبق أن نجحت الصهيونية وإسرائيل في استحضار مسألة "الهولوكوست" لتبني حولها السردية وتكون مبررًا لأفعالهما، والشيء الجامع لتياراتها ومجتمعها.
اليوم أيضًا، إسرائيل تمكنت من جعل السابع من أكتوبر في البنية الخطابية للإعلام الإسرائيلي، فإذا تحدثنا عن لبنان، تعيدنا إلى السابع من أكتوبر، وإذا تحدثنا عن سوريا، تعيدنا إلى السابع من أكتوبر، وإذا تحدثنا عن الداخل الفلسطيني، تعيدنا إلى السابع من أكتوبر، كل شيء يصح تبريره بالسابع من أكتوبر.
"عرب 48": هي حجة جاهزة لتبرير كل موبقات إسرائيل وجرائمها، من حرب الإبادة في غزة إلى احتلالاتها واقتحاماتها في الضفة ولبنان وسوريا إلى قمعها في الداخل؟
مناع: صحيح، وهي أيضًا أداة لجمع المجتمع الإسرائيلي وحشره تحت يافطة حرب الوجود المزعومة، وقمع أصوات النشاز الخارجة عن هذا الإجماع، وهي تستخدم لهذا الغرض لغة نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، ووصفهم جميعهم بالإرهاب، سواء كانوا مدنيين أو غير مدنيين، أطفالًا أو نساءً أو شيوخًا.
فنرى في هذا السياق يتسحاق هرتسوغ يقول: "نحن نواجه حربًا شرسة ضد أعداء هم وحوش بشرية"، وبنيامين نتنياهو يتحدث عن "صراع بقاء في حرب فُرضت علينا من قبل عدو وحشي، بشريته مشكوك فيها"، بينما يقول وزير الجيش السابق يوآف غالانت: "لن يكون هناك كهرباء، أو طعام، أو وقود، نحن نواجه وحوشًا بشرية"، والهدف هو نزع الصفة الإنسانية عن شعبنا في غزة بهدف تنفيذ الإبادة والتهجير.
*ياسر مناع: مرشح لنيل درجة الماجستير من برنامج الدراسات العليا في جامعة بيرزيت
التعليقات