قصة حجر../ د. محمد عقل

وإذا كان الإنسان هو صانع التاريخ، سواء أكان ذلك عن وعي فيه بدوره أم لا ؟ فهو من ناحية أخرى من نتاج هذا التاريخ ومن صنعه. فالماضي بتراكماته يعيش في الحاضر ويغذيه، والشعب الذي يفقد ذاكرته لا محالة سينسى بعد مدة حاضره كذلك

قصة حجر../ د. محمد عقل
لا تخلو قرية من قرانا من آثار قديمة، ولا يخفى على النابهين ما لهذه الآثار من أهمية تاريخية تفوق أي مصدر آخر من المصادر المطبوعة والمخطوطة، لأنها شاهد حي- لا يمكن إنكاره أو تأويله- على عمق جذورنا في هذه الأرض واستمرارية وجودنا عليها.
 
 وإذا كان الإنسان هو صانع التاريخ، سواء أكان ذلك عن وعي فيه بدوره أم لا؟ فهو من ناحية أخرى من نتاج هذا التاريخ ومن صنعه. فالماضي بتراكماته يعيش في الحاضر ويغذيه، والشعب الذي يفقد ذاكرته لا محالة سينسى بعد مدة حاضره كذلك.
 
آثارنا عرضة للزوال والاندثار، فلا أحد يكلف نفسه عبء نفض غبار الزمن عنها، كما وأصبحت موضعًا لطرح النفايات ووكرًا للثلل الموبؤة، ناهيك عن أن بعضها يهدم بحجة التوسيع والتطوير، وما سهل نقلهم نها عرضة للسلب والنهب!! فهل من سلطة محلية أو مؤسسة ترعاها وتحميها!! نادرًا ما نجد مربيًا اصطحب طلابه لزيارة الآثار الموجودة في بلده، وزَوَّدَهم بمعلومات عنها، ولعل سبب ذلك عائد إلى جهله بالأثر وعدم وعيه بقيمته التاريخية.
 
 في هذه المقالة سأتحدث عن أثر قديم وثمين، حافظ عليه سكان قرية قلنسوة بطريقة غريبة إلا أنها جديرة بالتقدير، أما وجه الغرابة فهو أن الأثر المذكور قد أُدمج في الواجهة الأمامية للمسجد الجديد (مسجد صلاح الدين)رغم أن لا صلة له بالمسجد، وروى لي بعض المصلين أن سبب ذلك كان الحؤول دون سرقته خاصة بعد أن أُحبطت محاولة لنقله إلى إحدى الجامعات الإسرائيلية.1
 
الأثر المذكور مكوّن من:
 
1) رنك مملوكي:
 
قطعة من الجرانيت، طولها 34 سم وعرضها 29 سم وفي داخلها نقش لكأس تحيط بها دائرة. من الجدير بالذكر أن الرنوك في العهد المملوكي كانت عبارة عن شعارات يتخذها أصحاب الوظائف الرسمية مثل السلطان والأمراء لترمز إلى وظائفهم، فصورة الكأس مثلاً تدل على أن صاحب الرنك كان أميرًا وعمل ساقيًا للسلطان.2
 
2)كتابة تذكارية:
 
مكونة من سبعة أسطر ومنقوشة بخط الثلث على بلاطة رخامية، طولها 97 سم وعرضها 70 سم. في أول السطر الرابع ووسطه وآخره تظهر رنوك صغيرة ومشابهة للرنك الوارد ذكره أعلاه، ما يدل على أن لهذا الرنك علاقة بالكتابة التذكارية ولعله ثُبِّتَ فوقها. هذا ومما يجدر ذكره أنهما وُجدا معًا بالقرب من البئر القديمة الواقعة في وسط القرية.
 
وفي ما يلي ما ورد في الكتابة التذكارية:
 
[ بسم الله الرحمن الرحيم، ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. أمر بإنشاء هذا الحوض المبارك السعيد، في أيام مولانا السلطان الملك الناصر، العبد الفقير إلى الله تعالى المقر الأشرف السيفي، عون الأمة، كهف الملة، قوام الدولة، قوصون الناصري الساقي، أعز الله أنصاره، وختم بالصالحات أعماله ابتغاء لوجه الله تعالى للسبيل- و-لسائر خلق الله تعالى والوقف عليه القطعة الأرض غربي الحوض. في العشر الأُخَر من ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وسبعماية، ولله العقبى.]
 
استنادًا إلى ما ورد أعلاه يمكننا أن نستنج:
 
1)    أن الكتابة التذكارية أُعدت بمناسبة إنشاء حوض لتجميع المياه في قلنسوة في العشر الأُخَر من شهر ربيع الأول سنة 737/ أواخر تشرين الأول سنة 1336م، أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعليه لا صحة لما ورد في سالنامه ولاية بيروت لعام 1310/1892م 3 من أن الحوض المذكور من آثار الدولة الأيوبية، ولعل الخطأ مردّه إلى أن لقب (الناصر) أُطلق على صلاح الدين الأيوبي وكذلك على محمد بن قلاوون المملوكي، هذا ومما يجدر ذكره أن الحوض كان واسعًا، إذ وصفه صاحبا كتاب ولاية بيروت بأنه حوض جسيم جدًا.4
2)    أن الحوض استخدم لسقاية المسافرين على طريق البحر التاريخية الموصلة بين مصر والشام، ولتزويد السكان والمزروعات والمواشي بالمياه، إذ ورد في الكتابة التذكارية أن الحوض كان للسبيل ( أي لابن السبيل وهو المسافر) ولسائر خلق الله تعالى. كما وصف بالسعيد، أي أنه كانت له جداول.
3)    أن قطعة الأرض الواقعة غربي الحوض كانت وقفًاعليه. هذا وذكر لي الأستاذ عصري ناطور أن الأهالي يطلقون على هذه القطعة اسم (البستان) رغم أنها كانت في عهد الانتداب بورًا وتقوم عليها دور سكنية. يبدو لنا أنها كانت مغروسة سابقًا بالعنب وأنها كانت تُسقى بماء الحوض، إذ يظهر في السطر السادس من الكتابة التذكارية وعند ذكر الوقف نقش لعنقود وورقة دالية.
4)    أن الأمير قوصون كان المشرف على بناء الحوض المذكور.
 
تشير المصادر التاريخية إلى أن الأمير قوصون كان ممن حضر إلى الديار المصرية من بلاد الترك بصحبة خوند بنت أزبكخان، التي تزوجها الملك الناصر محمد بن قلاوون، فجعله الناصر ساقيًا له،ثم رقّاه حتى جعله أمير مائةومقدّم ألف وزوجه بابنته. فلما توفي الملك الناصر أصبح قوصون أحد الأوصياء على السلطان الصغير أبي بكرالملقب بالمنصور، غير أنه قُتِلَ عام 742/1341م أثناء صراع دام ٍعلى السلطة.
 
في الكتابة التذكارية وردت ألقاب للأمير قوصون مثل: المقر الأشرف، عون الأمة، كهف الملة، قوام الدولة، وهي ألقاب تشير إلى أنه كان من كبار الأمراء وأرباب السيوف، والساقي وهو لقب يشير إلى أنه كان يتولى مد ّالسماط وتقطيع اللحم وسقي المشروب للسلطان، والسيفي والناصري نسبة إلى مولاه الناصر محمد بن قلاوون.5
 
ذكر لي السيد سبع ناطور أن الأهالي عثروا على الرنك والكتابة التذكارية مدمجين في نصب قبر في المقبرة الواقعة بمحاذاة البئر القديمة، مما يجعلنا نعتقد بأن الحوض أُنشىء لتجميع مياه هذه البئر، هذا ولفت السيد محمود غزاوي نظري إلى أن رنكًا مشابهًا لايزال قائمًا في المدخل الرئيس لمقام النبي بنيامين الواقع غربي قلقيلية وبالقرب من القرية العربية المدمرة (سبية) حيث كان في المكان (سبيل).
 
حاليًا لا أثر للحوض سوى ما ذكرناه آنفًا، ولذلك يصعب علينا وصفه. أما المصادر التاريخية فتشير إلى أن الحياض كانت تحفر في الأرض لخزن مياه الأمطار والآبار للاستفادة منها أيام الجفاف، وتحاط بجدران متينة من الصخور المصفوفة على هيئة مدرجات، حتى إذا انخفض الماء أمكن لمن يريد الاستسقاء منها أن ينزل على هذه الدرجات حتى يبلغ الماء، ولمنع تسرب الماء من الحوض كان يُسدّ ما بين الحجارة من منافذ بالمدرة المعجونة وتطلى أوجه الجدران بمادة الجبص، كما وكان يُبلط قاع الحوض ويطلى كذلك، وقد تُرفع جدران الحوض فوق الأرض وتعمل فيه صنابير لخروج الماء، وقد تنشأ فيها حنفيات لأخذ الماء منها تعمل من المعدن أو الحجارة.6
 
 يُفهم من رواية للمقريزي أن قلنسوة كانت مقرًا لعدد كبير من أُمراء بني أُمية، 7 كما وأشار ابن خرداذبه إلى أن البلدة كانت في العهد العباسي مركزًا من مراكز البريد المهمة.8 ورغم أنه لم تجرِ فيها حفريات إلا أن الآثار الظاهرة فيها تدل على أنها بلدة قديمة جدًا، إذ لا تزال فيها بقايا لقلعة صغيرة (البرج) وكنيسة صليبية حُوِّلَت إلى مسجد في سنة 1911م، وقبور دارسة تسمى قبور (المغازين)، وهي قبور لشهداء سقطوا في ساحة الشرف أيام صلاح الدين الأيوبي.9 إنشاء الحوض في قلنسوة يدل على استمرار أهميتها الاستراتيجية في العهد المملوكي كمركز يقع على طريق البحر التاريخية الموصلة بين مصر وبلاد الشام.10
 
الهوامش:
1) نشر هذا المقال في مجلة الرسالة، إصدار معهد إعداد المعلمين العرب في كلية بيت بيرل، كانون الثاني، 1995، ص 131-134. وفي مجلة صدى التربية، عدد 5، مجلد41، أيار 1993م، ص 25-26. وقد نقله عبد الرازق أبو راس في كتابه "قلنسوة معالم وأحداث" بتصرف، ص27-29. كما نقل مؤلفو كتاب سخنين.. المدرسة الأم المقدمة حرفياً، ص 11.
2) المبيض سليم، غزة وقطاعها، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1987م، ص277 -286. عبد الغني محمد، " الرنوك- الفن القديم المتجدد"، مجلة الفيصل، العدد 94، يناير 1985، ص108. كونل أرنست، الفن الإسلامي، بيروت، 1966، 112 وما بعدها.
3)سالنامه ولايت بيروت، إستانبول، 1310/1892م، ص 457.
4) التميمي محمد وبهجت محمد، ولاية بيروت- القسم الجنوبي، ج1، ط3، بيروت، 1987، ص 196.
5) ابن تغري بردي الاتابكي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج10، ص 44-49. الذهبي شمس الدين، دول الإسلام، ج2، 1974، ص 247-249.
6) المقريزي أحمد بن علي، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج2، دارصادر، بيروت (طبعة مصورة عن طبعة 1270)، ص 459-460. ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج2، بيروت، ص322-319.
7) المقريزي أحمد بن علي، نفس المصدر، ج1، ص 304.
8) ابن خرداذبه، المسالك والممالك، المكتبة الجغرافية لديدخويه، لايدن، 1889، ص 78. وانظر: قدامة بن جعفر، نبذ من كتاب الخراج، ص 219.
9) انظر:
          LIEUT, C.R & CONDER, THE SURVEY OF WESTERN PALESTINE, VOL 11, LONDON, 1882, PP. 199-201.
10) عن قلنسوة في العهد المملوكي انظر: الدباغ مصطفى، بلادنا فلسطين، ج3، ط2، دار الشفق، 1988، ص 363-365.
 
 
 
 

التعليقات