الناصرة: بقعة ضوء على واقع قاتم!

أُطِلُ على المشهد الجغرافي من "جبل القفزة" في مدينة الناصرة الجليلية، لأرى بيوت المدينة تقارِبُ بعضها البعض، حتى تخالُها ملتصقة، ومِن زاويةٍ أقرب ألمحُ كنيسة البشارة تُعانق الجامع الأبيض الساكِن في سوقها القديم، وأعّرج عن هذا العناق، لأرى سهول مرجِ ابن عامر الخضراء، فيرتفعُ جبلُ القفزة أكثر، ويصبح أكثر شموخًا وكبرياء. وخلفَ البيوتِ المسكونةِ في الناصرة، حكايا كتبها أهلُ المدينة الأصلانيون، واللاجئون فيها خلال وبعد نكبة عام 1948.

الناصرة: بقعة ضوء على واقع قاتم!

أُطِلُ على المشهد الجغرافي من "جبل القفزة" في مدينة الناصرة الجليلية، لأرى بيوت المدينة تقارِبُ بعضها البعض، حتى تخالُها ملتصقة، ومِن زاويةٍ أقرب ألمحُ كنيسة البشارة تُعانق الجامع الأبيض الساكِن في سوقها القديم، وأعّرج عن هذا العناق، لأرى سهول مرجِ ابن عامر الخضراء، فيرتفعُ جبلُ القفزة أكثر، ويصبح أكثر شموخًا وكبرياء. وخلفَ البيوتِ المسكونةِ في الناصرة، حكايا كتبها أهلُ المدينة الأصلانيون، واللاجئون فيها خلال وبعد نكبة عام 1948.

 

 

الناصرة قبل الاحتلال
رغم تطورها العصري، واعتبارها المدينة التاريخية الأبرز في الجليل، إلا أنّها بنظر المؤرخين، كانت قرية "كبيرة"، فهي اعتمدت على الزراعة، حيثُ استُغل كُلُ شبرٍ فيها للزراعة وجني المحاصيل. واشتهرت بعائلاتها المقتدرة، التي امتلكت مساحاتٍ واسعة من الأراضي، فزرعتها، لتُغني وتستغني منها.

عمل النصراويون قبل العام 1948، في البناء، وبعض الصناعات الخفيفة: (صناعة الدخان، النجارة، الحدادة...). ووصل عدد سكان الناصرة قبل النكبة إلى ما يقارب الـ 30 ألف شخص، تناصف فيه المسيحيون والمسلمون عددًا.

أما أبرز العوائل النصراوية في حينه فهي: عائلة قعوار، خليف، الفاهوم، الزعبي، عون الله، بشارة.

ويُشار أنّ الطابع المسيحي، ظلّ بارزًا حتى العام 1948، بصورة واضحة، بفضل القائد العربي الظاهر عمر الزيداني ( 1775 – 1689)، الذي تبادل النشاط التجاري مع الدول الغربية، وصدّر القطن المزروع في فلسطين، كما سمحَ بدخول الحركات التبشيرية المسيحية، التي كان لها دورٌ كبير في بناء المدارس التعليمية والتبشيرية والأديرة والمستشفيات، وغير ذلك، إلا أنّ الناصرة لم تكن في عهد الظاهر عمر تملك سوى جامعٍ واحد هو الجامع الأبيض.

اللجوء إلى الناصرة!
خلال نكبة العام 1948، والتي وقعت في السادس عشر من تموز، كان يوسف محمد علي الفاهوم يشغل منصب رئيس بلدية الناصرة، وهو الرئيس الـ11 للمدينة، علمًا أنّ المسيحيين والمسلمين تناوبوا على الرئاسة منذ العام 1875.

وحين احتُلت فلسطين، ودخلَ اليهود إلى الناصرة، لجأت معظم العائلات النصراوية إلى الأديرة، والبيوت النصراوية، وبين العائلات أيضًا عائلة رئيس البلدية في حينه، يوسف الفاهوم، الذي رحّب باللاجئين الذين قدموا الى المدينة من طبريا، صفورية، عيلوط، المجيدل، معلول، شفاعمرو ومناطق أخرى.

وقعت النكبة بين ليلةٍ وضحاها، تحولت المدينة من 30 ألف شخصٍ، إلى 100 ألف، تناقصوا بفعل الهجرة العكسية من الناصرة، واليوم يفوق العدد ـ 81 ألف نسمة.

ومِن المفارقات الإنسانية التي عاشها النصراويون، أنّ عددًا مِنهم هربوا من المدينة إلى الدول العربية خوفًا مِن بطش اليهود، الذين قتلوا بعضهم، وحاولوا تعبئة الشاحنات برجال المدينة، لرميهم عند الحدود، فهربَ كثيرون (خاصةً مَن كان لهم دورٌ في المقاومة الفلسطينية ومساعدة جيش الإنقاذ)، وقد سنحَت الفرصة أمام البعض لاحقًا بالعودةِ إلى المدينة، وبقي آخرون في أماكن لجوئهم.

الكاتب وليد الفاهوم، حدثني عن حكاية لجوئه وعائلته، وهو لم يزل في الخامسة من عمره: "خشي والدي المرحوم ابراهيم الفاهوم على عائلتنا، فقرّر أن يُهِرّب ستةً مِنا إلى لبنان، كُنتُ أنا واحدًا منهم بصحبة أمي وشقيقيْن، سكنّا في برج البراجنة في لبنان، ولا زلتُ أذكُر الأغطية التي منحتنا إياها الأونروا، وبقينا هناك حتى آخر إسوارةٍ لوالدتي في يدها، وعدنا متسللين إلى الديار، في أوائل العام 1950، ولا تزال حكاية والدتي التي كانت تركب البغل في طريق العودة تضحكني وتبكيني، فقد تعثرت بفرعِ تينِ فسقطت أرضًا بعيدًا عن البغل".

أضاف الفاهوم: "لكنّ عمي لم يَعُد معنا، ولا يزال بيته المحاذي لبيتي، يسكنهُ لاجئٌ شفاعمريٌ يدفعُ لدائرة الأموال المتروكة ثمنًا بخسًا للإيجار، بينما استطعتُ أنا أن أحررّ الممر من أمام بيتي، بعد 25 عامًا استحوذت عليه دائرة الأموال المتروكة، دفعتُ ثمنَ بيتي لأستعيد مُلك العائلة".
ويعزو كثيرون سبب بقاء معظم النصراويين فوق أرضهم بعدم تجرؤ رئيس الحكومة الإسرائيلي بن غوريون بكتابةِ أمرٍ بمهاجمة أهل المدينة، الأمر الذي لم يُلزم الحاكم العسكري اليهودي بأمر التهجير الشفوي الذي أراده بن غوريون.

أما سُكان قرية صفورية فقد هُجّروا بالكامل، جزء كبير منهم لجأ الى أطراف مدينة الناصرة، والقسم المتبقي لم يُفلح بترك أماكن لجوئه في الخارج، وتحولت القرية إلى مستعمرة يهودية تُسمى "تسيبوري".

هذا الحدثُ المفصلي في تاريخ الناصرة، ضاعف عدد السكان بشكلٍ فجائي، في وقتٍ لم تكن فيه المدينة جاهزة لاستيعاب هذه الأعداد التي تتمدد ديموغرافيًا، وتحولّت المدينة إلى بيوتاتٍ متلاصقة بشكلٍ كبير، الأمر الذي صعّب حركة التنقل في المدينة، وضيّق على العائلات ظروف السكن، وهي حالةٌ تمرُ بِها المدينة منذ العام 1948، وحتى اليوم.

الحالة الاجتماعية لسكان الناصرة
مدينة الناصرة، بوضعها الاجتماعي والاقتصادي الحالي، تُشبه سائر البلدات العربية في الداخل الفلسطيني، إذ يعاني سكانها من الفقر والاستهداف السياسي والحصار الاقتصادي والإسكاني، ويتجلّى بأشكالٍ عِدة من بينها: نسبة العائلات النصراوية التي تعيش تحت خط الفقر، تفوق الـ 10%، علمًا أنّ نسبة الفقراء الفلسطينيين في الداخل تفوق الـ 55%، أما مجمل الفلسطينيين في البلاد فتصل نسبتهم إلى 20%. وتصل نسبة البطالة في الناصرة الى 13.5%،  ومجمل عدد العاطلين عن العمل من الفلسطينيين فهي 30%.


وتنتشر ظاهرة التسرب بين المدارس النصراوية البلدية، أسوةً بالمدارس العربية الفلسطينية، رغم بعض المعطيات الطفيفة عن تحسنٍ في نتائج العلامات النهائية للثانويات، على ضوءِ تزايد الاهتمام مِن قبل السلطات المحلية العربية والمطالِب المتكررة بتحصيل ميزانيات أكبر للجوانب التعليمية.

تضعضع النسيج الاجتماعي
ويُنظر إلى المعطيات، خاصة في الناصرة، بقلقٍ كبير، حيثُ كان للاجئين إليها دورٌ كبير في بروز هذه المعطيات، فقد تحوّل اللاجئون من أسيادٍ في قراهم ومالكين إلى بسطاء يفتقرون إلى الكثير مِن الحاجيات وبينها المساكن، هذه الحالة أدت إلى تغيّر النسيج الإجتماعي، وإلى تدهور الأوضاع الإقتصادية والمعيشية للعائلات، خاصةً المسلمين منهم والذين يشكلون 70% من عدد سكان الناصرة، فهم الأكثر إنجابًا، والأكثر فقرًا، حتى أنّ بعضهم جنح إلى العُنف وتجارة المخدرات بسبب شظف العيش.

لم يكن الفقر في الناصرة هو المحرك الأول للمظاهر الاجتماعية السلبية، كتجارة المخدرات، فهناك الكثير من الحالات التي تؤكِد أنّ أذرع السلطات الإسرائيلية تقف خلف الكثير مِن المظاهر الاجتماعية السلبية.

وفي كل ما يتعلق بالمجتمع الفلسطيني في الداخل، تُغمض السلطات الاسرائيلية وشرطتها، العين عن ملاحقة العرب، فلا تُحارب تجارة المخدرات، ولا تضع حدًا للعنف واستعمال الأسلحة غير المرخصة، وهي منتشرة بشكلٍ كبير، ومؤلم، حتى باتَت لا تخلو بلدةٌ عربية مِن العنف، ومِن عمليات قتلٍ شبه يومية، بينما تنأى الشرطة عن اعتقالٍ أيٍ من المسؤولين أو البحث عنهم. في المُقابل لا تترُك قاتلاً يفلتُ مِن قبضتها إن كان الأمرُ يتعلق باليهود.

هجرة النصراويين مِن المدينة!
يسعى المسؤولون في بلدية الناصرة، إلى بناء مشاريع تطويرية عصرية تستقطب العائلات الباحثة عن مساكن وعن أماكن عمل، لكنّ الأمر يحتاجُ إلى انتظارٍ، خاصةً أنّ مدينة الناصرة كسائر البلدات العربية تعاني مِن التهميش والحصار المفروض عليها، من خلال فرض المستوطنات والبلدات اليهودية وأقربها (نتسيرت عليت) محاولةً إلى خلق ناصرة جديدة لتكون شوكة في حلق الناصرة، بهدف إعاقة تطور المدينة، هذا إلى جانب الضائقة السكانية والإسكانية التي تعيشها المدينة والتي تحتاجُ إلى مبالغٍ مالية هائلة، لا تكفيها الميزانيات التي تقطّرها حكومة الاحتلال الإسرائيلية للمجلس البلدي.

مع ذلك ثمة بقعة ضوءٍ تُنيرُ الطريق وتُشير إلى وجود حراكٍ ثقافيٍ وتحولات باتجاه العصرنة،  وأصبحَ المكانُ يستقطبُ الأكاديميين والمثقفين وحتى المهتمين بتطوير عالم الهايتك، وهناك الجانب السياحي الهام والحيوي للمدينة، وفي الأفق القريب مشاريع إسكانية لعلها تكفل عدم هجرة النصراويين من المدينة، وإن ننسى، فلا نستطيع إلا أن نرى الجانب الصحي يأخذ حيزًا كبيرًا، ومساحةً مِن التقدُم بفضل وجود مستشفيات عربية، هي الوحيدة في بلادنا.

ويقول الفاهوم "إنّ هناك ألوان فرحٍ في الصورة القاتمة لمدينة الناصرة، فالتطور الثقافي وبروز فنانين وأكاديميين، مِن شأنه أن يُضفي جماليةً على الناصرة الفلسطينية. وفقط هكذا، استطاع النصراويون إفشال الطائفية التي هدفت إلى تفسيخ النسيج الإجتماعي والإنساني لأبناء المدينة".
دورٌ نسائي بارز في الناصرة

رغم تجاوز نسبة النساء الفلسطينيات العاطلات عن العمل الـ 75%، وهي نسبة مرتفعة تفوق ما تعانيه المرأة العربية في دول الشرق الأوسط، مع ذلك، تسعى النساء الفلسطينيات في الناصرة لتطوير امكانياتهن مِن خلال التعليم، حتى أنّهن عادلن أو تجاوزن عدد الذكور.
وإذا كانت المرأة اليوم تشغُلُ مناصب بارزة فيرجعُ ذلك إلى قدراتها ونشاطها، وبرزت بينهن النصراوية حنين زعبي، التي اخترقت السياسة الإسرائيلية وتحدتها سواء مِن منبر البرلمان الصهيوني، أو بمشاركتها في النشاطات السياسية والوطنية في الداخل الفلسطيني وفي أماكن أخرى، وهي التي اعتلت سفينة مرمرة في غزة.

ويشهد التاريخي النصراوي على مشاركة نسائية كبيرة في الاقتصاد الفلسطيني، فقد كان النساء النصراويات يعملن في الأعمال الزراعية والأشغال اليدوية، فأتقنّ صناعة: المكوك، والإبرة.

تقول فاطمة موعد، وهي مُهجرة صفورية، تُقيم في الناصرة: "المرأة الصفورية والنصراوية عملت في الحقل إلى جانب زوجها، وسهرت على تربية أبنائها، زرعت القمح والعدس، وفلحت الأرض، وقطفت الزيتون، لقد كانت المرأة الفلسطينية قادرة ومُنتجة".

وتؤكِد الباحثة الفلسطينية همّت زعبي أنّ النساء الفلسطينيات أثّرن بصورة واضحة على الاقتصاد الفلسطيني قبل النكبة، فقد كُنّ شريكات إلى جانب الرجل في العمل، إذ شاركن في الفلاحة والحصاد والزراعة، وكُنّ ينقلن الماء ويغسلن ويطبخن ويرويْن الأرض، فكانت العمدة الأساسية في البيت والتربية عليهن".

وعن النساء النصراويات تقول الباحثة في الفولكلور الفلسطيني، نائلة لبّس عزام: "كان النساء النصراويات يبعن ما يصنعنه من أشغالٍ يدوية، للسواح القادمين الى المدينة، إضافة على مشاركتهن في الزراعة ونقل الماء مِن عين العذراء النصراوية إلى بيوتهن، ناهيك عن رعاية البيت وانتظار الزوج العامل".


- عين العذراء قبل النكبة -

التعليقات